الجمعة، 22 يوليو 2011

الاختلاف مسموح.. ولكن

الاختلاف بين البشر، بل بين المخلوقات عامّةً، هو إحدى السنن الكونيّة، التي يقول الله سبحانه فيها: [فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنّة الله تحويلاً]، وقد شاءت قدرة الباري تعالى شأنه أن يكون هذا الكون الرحب الفسيح محكوماً لهذا الاختلاف.
وهذا الاختلاف الكونيّ هو الذي يُحدث التنوّع والتناغم، وهو الذي يتيح المجال أمام الإبداع والتناسق ليخيّم بأجوائه على الأرجاء، وهو أيضاً ما يحول دون سيطرة الرتابةَ والفُتُور، وهو الذي يحرّر الإنسان من أسر العادات القاتلة.

فالكواكب والنجوم، والسماء والأرض، والجبال والسهول، والبحار والمحيطات، والرجال والنساء، كل ذلك مختلف من حيث الخلقة، ومن حيث السلوك والحركة، ومن حيث العاطفة والوجدان.
إنّ وجود اختلاف لا حصر ولا حدّ له داخل كلّ نوع من هذه الأنواع هو ما يجعل للحياة طعماً ومذاقاً مختلفاً، فهو يثري الحياة ويغنيها بمظاهر التنوّع وأشكاله، ولنتخيّل مثلاً لو أنّ الأماكن كلّها كانت على شاكلة واحدة من حيث طبيعة المكان والمناخ و.. إذاً لسئم الإنسان حياته من العام الأوّل لحياته؛ لأنّه أينما حلّ وأينما ارتحل فسوف لن يجد جديداً، ولن يتغيّر عليه شيء.

وعن مشاهد الاختلاف وأثره في وجدان الإنسان يقول عزّ من قائل: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]. ويقول تعالى في موضع آخر: [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ].

فالله تعالى جعل الاختلاف آيةً لقوم يعقلون، وآية لأهل العلم وأُولي الألباب.
وفي موضع آخر أيضاً يحدّثنا الكتاب العزيز عن الاختلاف بوصفه هبة إلهيّة، وواحدة من النعم الكثيرة التي لا يحصيها العادّون، إذ يقول تعالى: [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ].

فالله تعالى جعل الليل يعقب النهار، والنهار يعقب الليل حتى لا يشعر الإنسان بالملل والسأم.
وإذا وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الاختلاف موهبة إلهيّة وعطيّة ربّانيّة، أيقنّا حينئذٍ أنّ الذين يتحدّثون عن ضرورة إزالة الفوارق والاختلافات بين المسلمين، ولزوم توحيد كلمتهم وآرائهم على رأي واحد، هذا الحديث، مضافاً إلى أنّه يخلّ بجوانب الإبداع المختلفة التي تحتاج إليها الأمّة، فهو أيضاً من الأمور التي يستحيل فرضها وتطبيقها؛ نظراً لكونه على خلاف ما تقضي به الفطرة والسنن الإلهيّة المحكمة. ولو كان هذا ليحدث لحدث في خير القرون، في عهد رسول الله(ص)، ولكنّه لم يحدث، حيث كان الصحابة يختلفون وتتعدّد أنظارهم وآراؤهم والرسول بين ظهرانيهم يتنزّل عليه الوحي من لدن عزيز حكيم، ولو كان مطلوباً لكان النبيّ(ص) أولى الناس بالدعوة إليه، ولكنّه لم يفعل، بل أقرّ هذا الاختلاف ضمن ضوابطه، وفي دائرةٍ لا تصل إلى حدّ التناقضات الهدّامة.

وعليه: فلا ينبغي لنا أن نقلق من هذا الاختلاف، سواء كان في أمور شرعيّة أم في أمور حياتية، بل على العكس من ذلك، علينا أن نسعى إلى تحكيم هذا الاختلاف وجعله منهجاً في الحياة، يطبّقه الزوج في بيته مع زوجته وأولاده، وتطبّقه المؤسّسات والشركات والدوائر على اختلاف موقعيّتها في المجتمع، بدءاً المؤسّسات الصغيرة، كالأسرة، ووصولاً إلى مؤسّسات الدولة والمجتمع المدنيّ، وانتهاءاً إلى مجموعة الدول، بل العالم أجمع.

إنّ الرجل الذي يريد أن يحوّل زوجته وأولاده إلى نسخة مكرّرة منه؛ هو رجل فاشل في إدارته لأسرته، ورئيس العمل الذي لا يقبل من الناس إلّا أن يفكّروا كما يفكر هو، ويُؤَمِّنوا على قوله وأفعاله دون اعتراض ولا تفكير؛ فسيقضي على مؤسسته بالضياع والانهيار، وعلى هذا تقاس كلّ أمورنا.
قال تعالى: [وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ].
ويبقى هنا شيء هامّ...

فإذا كان الاختلاف حقيقة كونيّة، وضرورة شرعيّة؛ فلماذا يؤدّي إلى التناحر والتشرذم والتفرق والضعف؟؟
إنّ السبب الرئيس في هذه المسألة هو غياب آداب وأخلاق الاختلاف، فكلّ يُصرّ على رأيه، ويعتبر نفسه محور الحقّ والعدالة، وبالتالي: فكلّ من يخالفه الرأي فقد حاد عن جادّة الصواب.

وأوّل وأهمّ آداب الاختلاف: روح الأخوّة الإنسانيّة والإسلاميّة، وبغياب هذه الروح يتحوّل الاختلاف من نعمة إلى نقمة، ويصبح الاختلاف مثاراً للفرقة بدل أن يكون مدعاةً للاجتماع، ومن وسيلة للبناء إلى آلة فتّاكة هدّامة، تدمّر ولا تعمّر.. وأمّا حضور هذه الروح، وتعزيز وجودها، فهو وحده ما يضمن للجميع أن يتعايشوا في سلام ووئام.

-------------------------
حسن يحيى

الأربعاء، 6 يوليو 2011

التعددية .. اشارات تشريعية ومصاديق تكوينية

يعتبر التنوع والاختلاف والتعددية في مظاهر الكون من الموضوعات التي يكاد يلمسها العالم والجاهل، الصغير والكبير، الرجل والمرأة، فهي من الأمور البادية للعيان والملموسة لمس اليد، بل ان الانسان بحد ذاته واحد من مصاديق التنوع، وبالإمكان إدراك معنى التنوع تكوينيا وتشريعيا، تكوينيا عبر ما أبدعته يد الله العليم في هذا الكون، وتشريعيا من بين ثنايا آيات القران الكريم وسنة الرسول (ص) وهي قوله وفعله وتقريره لفعل او قول او حادث صدر في حياته الشريفة، وتعتبر الشيعة الإمامية قول المعصوم وفعله وتقريره – إشارة الى الأئمة الاثني عشر ابتداءاً بالإمام علي (ع) وانتهاءاً بالإمام الحجة المنتظر، الى جانب سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) – جزءاً من السنة الشريفة، فيما يعتبر أهل السنة قول الصحابي وفعله وتقريره جزءاً من السنة.(1)
اضاءات قرآنية
     واذا كان الله الخالق العلام سبحانه وتعالى قد اشار بوحدانيته وتفرده في آيات كثيرة، من قبيل قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأوُلوا العلم قائما بالقسط لا اله إلا هو العزيز الحكيم} سورة آل عمران:18، وقوله تعالى: {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما} سورة طه/98، وحث البشر على إعمال الفكر والعقل والتدبر لمعرفته والاقرار بخالقيته للكون والكائنات، من قبيل قوله تعالى: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ ..} سورة الأعراف/185، وقوله تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} سورة ق/6-8، فانه سبحانه وتعالى قد اشار في آيات كثيرة الى التعددية والثنائية والاختلاف القائم في كل ما صنعته يداه من انسان وحيوان وجماد، ومما نعلم ومما لا نعلم، قال تعالى: {خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين. والأنعام خلقها لكم فيها دفٌْ ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم الى بلد لم تكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} سورة النحل/4-8. بل ان الكون كله حاك عن هذا التنوع والثنائية والتعددية، وقد اشار القران الكريم في آيات كثيرة الى نماذج من هذه الثنائية والتعددية ان كان في خلق الكون او الانسان او التعددية في نفسية الانسان ومزاجه وهي الصورة الواضحة لنا.
وفي الإسلام تبلغ التعددية – المؤسسة على طبع وسجية التنوع والاختلاف – مبلغ الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. قد تُكبت او تُقهر، لكنها سنّة من سنن الله لا تبديل لها ولا تحويل.
ولان هذا هو شأن الاختلاف، ومكان التعددية، ومقام التنوع، في الرؤية الإسلامية، كان القران الكريم – كتاب العقيدة والشريعة ومنظومة القيم وفلسفة التنظيم والتدبر والعمران – هو المصدر الأول لآلتماس موقف الاسلام من التعددية والاختلاف.. فنحن – بازاء هذه القضية – لسنا حيال فكرة حديثة أو طارئة ابتدعناها او استعرناها، وإنما بازاء "مبدأ إسلامي" أخبرنا القران انه "... إلهي" وسنة "أزلية"- أبدية قد فطر الله عليها جميع المخلوقات.. فلم ولن تكون الناس نمطا واحدا أو قالبا فردا وإنما كانوا ولا يزالون مختلفين.(2) يقول تعالى في محكم كتابه: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب ونخيل صنوان وغير صنوان يُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} سورة الرعد/4.(*) فبالرغم من ان الأرض المزروعة التي ارتوت بماء المطر كما يبدو للعيان هي ارض ذات طبيعة وخصيصة واحدة لكن القران ينبهنا الى حقيقة الاختلاف والتنوع في مخلوقاته من انسان ونبات وحيوان وجماد, والتفاضل القائم بينها، بل ان هذا التفاضل هو جوهر الاختلاف والتنوع في الكون وفي الانسان والنبات، بل وهو الطريق الموصل الى أحد النجدين في الآخرة أما النعيم وأما الجحيم.
تنوع متعدد الأبعاد
ان نظرة بسيطة الى ما حولنا في الكون المادي الطبيعي، وانتباهة الى ما يحيط بعالمنا ومحيطنا الخاص، على مساحة الكرة الأرضية تجعل الانسان كما يقول الشيخ شمس الدين: "يتلقى فورا إحدى اكبر الحقائق الموضوعية التي تطبع عالم الشهادة القريب والبعيد، تطبع الأكوان كلها، وهي التنوع الهائل المدهش الذي تتسم به كل العوالم: عالم المادة الجامدة بشتى تجلياتها، من الذرة وما تستنبطه من عوالم الى المجرات الكبرى، وعالم النبات بكل تنوعاته المدهشة والمعجبة، من الذرة الصغيرة المتناهية في الصغر الى الأشجار العملاقة، أشجار السيكويا الكبيرة.
هذا التنوع ليس تنوعا في الأشكال فقط، بل هو تنوع في المهمات وفي الوظائف، وفي التركيب الداخلي، وفي المظاهر الخارجية، انه تنوع يستوعب كل شيء او يشمل كل شيء".(3) فالآية الكريمة واضحة في دلالاتها ومعانيها ومصاديقها الخارجية، فتفرد نزول المطر على ارض واحدة لا يعني نتاج نباتي واحد، بل متعدد، وهذه عملية تكوينية منسجمة مع الفطرة الكونية القائمة على أصالة التعدد والتنوع، قال تعالى: {والنخل والزرع مختلفا أُكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه} سورة الانعام/141، وقال تعالى: {ألم تر ان الله أنزل من السماء ماءاً فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، ومن الجبال جُدد بيض وحُمر مختلف ألوانها، وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه...} سورة فاطر/27-28(*).
 ان اختلاف الألوان أو اختلاف الأنواع، كما يقول الداعية المصري الشيخ يوسف بن مصطفى القرضاوي: "أمر يقوم عليه الكون كله، اختلاف التنوع هذا لابد ان يوجد"(4)، وقال تعالى: {وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذّكّرون} سورة النحل/13، فالقرآن يذكر المؤمنين دائما بأن من الطبيعي اختلاف البشر: "ليس فقط في ألوانهم وحظوظهم فقرا وغنى وأجناسا وألسنة، بل اكثر من ذلك، حيث يصف تعدد المواقف على اختلافها في النظر الى الكون بما فيه ومَن فيه، بأنه خاضع لحكمة الله ومشيئته"(5)، وفي هذا الشأن فقد: "روى اليماني – ذعلب- عن احمد بن قتيبة عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن دحية قال: كنا عند أمير المؤمنين عليه السلام وقد ذُكر عنده اختلاف الناس فقال:إنما فرّق بينهم مبادئ طينهم(*) وذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ ارض وعذبها، وحزن تُربة وسهلها، فهم على حسب قُرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافها يتفاوتون. فتام الرُّواء(**) ناقص العقل، ومادُّ القامة قصير الهمّة، وزاكي العمل قبيح المنظر، وقريب القعر بعيد السَّبر، ومعروف الضريبة مُنكر الجليبة، وتائه القلب مُتفرِّق اللب، وطليق اللسان حديد الجنان".(6)
تخاطب لا تفاضل
     فسنة الله في كونه ومخلوقاته الأختلاف والتعدد وعدم وجود الواحدية والأحدية الاّ له سبحانه وتعالى، فمن اختلاف الألوان الى اختلاف الألسن واللغات واختلاف الفصول والليل والنهار الى جميع المظاهر الأخرى المحيطة بسمائه وأرضه ومخلوقاته من انسان وحيوان:  "ولو أراد الله ان يكون خلقه هذا على نمط واحد وطراز واحد لما عجز عن ذلك حاشا لله.. لكنه أراد هذا الاختلاف سنة ليستطيع الانسان من خلاله عمارة الأرض كي يكون جديرا بمهمة الاستخلاف المنوطة به"(7)، مع ملاحظة أمر غاية في الأهمية، ان بعض مظاهر التنوع ليس مدعاة للتكبر على جنس البشر، وإذا حصل مثل هذا التفاضل السلبي او التكبر فهو من الانسان وليس من الله، من ذلك اختلاف اللغات، يقول المحاضر والكاتب الاسلامي، السعودي، الشيخ حسن موسى رضي الصفار: "ولا يعكس اختلاف الألسنة وتعدد اللغات حالة تفاضل أو تفوق بين الشعوب، فليست هناك لغة تمنح التقدم للناطقين بها، او لغة تفرض التخلف على أبنائها، وإنما اللغة وعاء وأداة، تتسع وتضيق بحسب مستوى ثقافة المتحدثين بها، يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (83-148هـ) ضمن حديثه المفصل عن توحيد الله تعالى الذي أملاه على تلميذه المفضل بن عمر (ولد في الكوفة نهاية القرن الاول الهجري ومات عن اكثر من ثمانين عاماً): تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الانسان، من هذا النطق، الذي يعبر به عما في ضميره، وما يخطر بقلبه، وينتجه فكره، وبه يفهم عن غيره ما في نفسه...الى ان يقول (ع): وكذلك الكلام إنما هو شيء يصطلح عليه الناس، فيجري بينهم، ولهذا صار يختلف في الأمم المختلفة بألسن مختلفة".(8)
فاذا اعتبرنا اللغة على سبيل المثال وسيلة وآلة لنقل المعلومة الى الآخر والتخاطب معه، وليست قيمة بحد ذاتها حتى تكون عرضة للتفاخر والتفاضل السلبي، فان تعلم الانسان للغة أخرى هو محل التفاضل والتمايز الإيجابي، فتعلم اللغة، وليس اصل اللغة، ما يعطي لمتعلمها التمايز العلمي والمؤهل الاجتماعي، ولذلك اذا تقدم اثنان لوظيفة او عمل فيها اللغة عامل أساسي او حتى ثانوي، فان الذي يجيد اكثر من لغة يتوفر على حظوظ اكبر للفوز بالوظيفة الشاغرة او المعلن عنها، فضلا عن ان اللغة الثانية تميزه حتى في مجال الأجر، والوضع الاجتماعي، لكن لا ان تطغيه، لان التعلم هو بحد ذاته نعمة إلهية، وشكر النعم احترامها والتواضع لها وتعليمها للاخرين، كما قال الامام علي بن ابي طالب (ع): "زكاة العلم نشره"(9) لا اتخاذها مطية للتكبر على الناس فاختلاف الألسن لا يعطي ميزة لأمّة على أخرى لان هذا التمايز من بديع خلق الله الذي خلق الناس سواسية، يقول الإمام علي (ع) في بيان حكمة الاختلاف والتنوع في الكون واللغات، وهو يشرح بديع خلق الله للنملة: "ولو ضربتَ في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلتك الدلالة إلا على ان فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصل كل شيء، وغامض اختلاف كل حي، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء، فانظر الى الشمس والقمر والنبات والشجر، والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال – رؤوس الجبال- وتفرق هذه اللغات، والألسن المختلفات. فالويل لمن جحد المقدور وأنكر المدبر".(10)
ويمكن تقريب المعنى، من خلال النظر الى اللغة التي يتبادل بها الأخرس والأصم مع نظرائه، فليس هناك أبجدية متعارف عليها بين اللغات، مثل العربية والانجليزية والفرنسية، حتى يمكن وضعها في خانة التفاضل والتفاخر، ولكنها لغة الإشارات التي يتخاطبون بها، ذلك ان اللغة في حقيقتها محل للتخاطب لا للتفاضل، ولو كانت محلا للتفاضل لكانت بعض لغات العالم افضل من اللغة العربية التي نزل بها القران، والتي هي لغة التخاطب في الجنة كما يروي السيوطي (849-911هـ)(11) فالأبجدية العربية تضم 28 حرفا، في حين ان بعض اللغات تضم 32 حرفا وبعضها اكثر من ذلك، نعم هناك توصيات عدة من المعصوم بتعلم اللغة العربية لأنها لغة الرسالة الخالدة ولغة القران ولغة الفقه: "قال الامام جعفر بن محمد الصادق (ع): تعلموا العربية فانها كلام الله الذي تكلم به خلقه ونطقوا به الماضين".(12)
 ولكن في الوقت نفسه، لا ينبغي ان تكون العربية مدعاة للتفاخر، وهذه وصية رسول الاسلام محمد بن عبد الله (ص) فقد ورد في خطبته التي أوردها بعد فتح مكة المكرمة في العام 8 هجرية، قوله: "أيها الناس انكم من آدم وآدم من طين، ألا وان خيركم عند الله أتقاكم وأطوعكم له، ألا وان العربية ليست بأب والد، ولكنها لسان ناطق فمن طعن بينكم وعلم انه يبلغه رضوان الله حسبه، ألا وان كل دم مظلمة او أحنة كانت في الجاهلية فهي تظل تحت قدمي الى يوم القيامة".(13)
التعددية من حقائق الابداع
     فالتعددية اذن (بمعنى الاختلاف) في أنواع الخلق، وبين أفراد كل نوع كما يقول العوا: "هي من حقائق الإبداع الرباني المسلمة"(14)، وليقرأ من يشاء قوله تعالى: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمستقر ومستودع، قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون. وهو الذي أنزل من السماء ماءاً فأخرجنا به نبات كل شيء، فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا، ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا الى ثمره اذا أثمر وينعه إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} سورة الأنعام/98-99 (*) فالإختلاف والتعدد بين البشر على حسب كلام الداعية المصري، البنا: "مما أراده الله، ومما يفصل فيه يوم القيامة".(15) وهو امر ثابت لا مفر منه. هذا المعنى يؤكده الباحث الإسلامي والصحافي المصري فهمي هويدي، فرغم: "أننا لا ندعو الى الاختلاف ولا نتمناه، إلا ان أحدا لا يستطيع أن ينكر ان الاختلاف من طبائع الأشياء، وانه واقع بمشيئة الله تعالى"(16) بل ان الكون الفسيح ليعد من أبهى جماله وكماله: "التلون والتشكل بأشكال مختلفة، وألوان مختلفة، وألوان متميزة، فهل من الصحيح أن يقول أحد، بأن من الأفضل توحيد أشكال الفواكه وطعومها وألوانها ومزاياها، وذلك بأن لا تكون فاكهة إطلاقا الاّ التفاح، بل والتفاح أيضا- بما فيه من أشكال وألوان وخصوصيات ومزايا مختلفة- يكون من نوع واحد فقط؟... إن من حكمة الله البالغة ورحمته الواسعة أن {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}(سورة طه:50) فكل محتاج الى الله - بلسان التكوين – أعطاه الله حقه: الماء العذب والمالح، والتراب والذهب، والفاكهة المرة والحلوة والحامضة، وغيرها".(17)
      وأميل الى ما يذهب اليه وزير الاعلام السعودي الأسبق الدكتور يماني من انه: "لابد من التسليم به ان التنوع ظاهرة كونية في آفاق السماء، وفي جنبات الأرض وفي الحضارات المتعاقبة على مر الزمان وفي كل أنحاء المعمورة في البشر والمخلوقات حيّة وجامدة"(18) وما يذهب اليه الصفار من ان: "البشر الذين هم جزء من هذا الكون المتميز بالتنوع والتعدد والاختلاف، فبالرغم من انهم يتساوون في إنسانيتهم العامة، وفي خصائصهم الأولية المشتركة، فانهم في حقيقة الأمر، يتمايزون داخل المحيط البشري بدرجة او أخرى، وهذا التنوع الذي يتحدث عنه القرآن - في آيات كثيرة - إنما هو جزء من ظاهرة كونية تشمل أصناف المخلوقات والكائنات".(19)
     فمن مظاهر التعدد في الكون إبداع الله في النحل وما ينتجه هذا الحيوان الصغير من شراب غني مختلف الألوان، قال تعالى: {وأوحى ربك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سُبل ربك ذُللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، ان في ذلك لآية لقوم يتفكرون} سورة النحل:68-69، وإيحاء الباري الى النحل، دلالة على الجانب التكويني والفطري لخلقة النحل والمعمل التكويني الذي أودعه الله في أحشائها، فإذا كان الانسان الماهر يقتطف الورود لصناعة ماء الورد بأنواعه، وهي مهارة لا تتواجد عند كل انسان, فان صناعة العسل مهارة متوفرة عند كل النحل العامل بلا استثناء متوطن عليها فطريا وتكوينيا .
الأديان تقر التعددية
وإذا كنا نبرهن على التعددية من خلال آيات القران الكريم أو أحاديث المعصوم، فان هذين المصدرين الذي يعود إليهما المسلم في شؤون حياته وأخراه، ليسا وحدهما من اشار الى سنة وحتمية التعدد والتنوع والاختلاف في الكون وفي حياة الانسان نفسه، فقد سبقت الأديان الأخرى الاسلام في إقرار التعدد والتنوع، يقول الباحث السوري الدكتور صالح بن عبد الله عضيمة: "ولا يوجد هناك بين الباحثين من لا يقول بأن الأديان التي هبطت من السماء الى الأرض وان الدعوات والمذاهب التي خرجت من الأرض باتجاه السماء لم تعرف التعددية، ولم يكن لها فيها حضور كبير، فهذه الديانة اليهودية ومثلها أختها المسيحية، عندما نقرأ كتابيهما العهد القديم والعهد الجديد، نرى انهما يؤكدان على ان التعددية، هي أوضح سنة من السنن الإلهية، وعندما نقرأ ما جرى في تاريخهما من الوقائع والأحداث، نشاهد أن التعددية هي القانون الذي لعب الدور الأكبر في توجيه مجرى هذا التاريخ وتصويره على هذه الصورة التي هو عليها، وهكذا كان شأن الدين الإسلامي مع قانون الله ومع فطرته. لقد عرف الاسلام قيمة التعددية حق المعرفة، ونزل على أمرها بمعنى وأنزلها على أمره بمعنى آخر".(20) فلا يمكن مضادتها او تجاهلها.
منتهى القول ان تعدد الثمار وتنوعها، والألوان وتنوعها، والأزهار وتنوعها، والكائنات الحية وتنوعها، نجد مصاديقها التشريعية في الكتاب والسنة ونجد مصاديقها التكوينية في أنفسنا وما يحيط بنا، ومما نعلم ومما لا نعلم، مما يبدو للعين المجردة ومما خفي عنها.
المصادر والهوامش:
 (1) راجع: الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن (بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع) ص119-251. وراجع: العمري، د. نادية شريف، اجتهاد الرسول (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط3، 1405هـ /1985م) ص 217-316.
(2) انظر: الجوادي، د. علاء "الإسلاميون والديمقراطية في مصر" فصلية المعهد (لندن، معهد الدراسات العربية والإسلامية، السنة 1، العدد2، 1420هـ/2000م) ص147.
(*) صنوان: نخلتان او نخلات يكون اصلها واحدة، او الصنو: المثل، وفي الحديث عم الرجل صنو أبيه، وفي صاده لغتان الكسر والضم. راجع: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب (بيروت، دار صادر، ط1) ج1، ص250.
(3) شمس الدين، محمد مهدي، من مقدمة لكتاب: التعددية والحرية في الاسلام للشيخ حسن الصفار (بيروت، دار المنهل، ط2، 1416هـ/1996م) ص5-6.
(*) الجدُد: طرق الجبال وجاداتها تبدو للعيان على واجهة الجبال كالعروق والخطوط، منها البيض دلالة على كثرة سلوكها من قبل الناس والدواب ودونها الحمر وهي اقل سلوكا، ومنها الغرابيب السود، وواحدتها (غربيب) أي حالكة السواد دلالة على وعورتها وقلة ارتياد الانسان لها. انظر: ابن كثير، اسماعيل القرشي الدمشقي، تفسير ابن كثير (بيروت، دار الفكر، 1401هـ) ج3، ص554.
(4) حليمة، ابو بصير عبد المنعم مصطفى، حكم الاسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية (لندن، المركز الدولي للدراسات الإسلامية، ط2، 1420هـ/2000م) ص220-221. والكلام للدكتور القرضاوي في حديث مع قناة الجزيرة ضمن البرنامج الأسبوعي "الشريعة والحياة" الذي يقدمه الدكتور احمد منصور، ولم يشر الكتاب الى تاريخ إجراء الحلقة الأسبوعية.
(5) هوفمان، د.مراد، الإسلام كبديل (ميونيخ, مؤسسة بافاريا ومجلة النور الكويتية، ط1، 1413هـ/1993م) ص115.
(*) جاء في هامش شرح النهج: جمع طينة يرد عناصر تركيبهم. والفلقة – بكسر الفاء -: القطعة من الشيء. وسبخ الأرض: مالحها. والحزن – بفتح الحاء – الخشن ضد السهل فتقارب الناس حسب تقارب العناصر المؤلفة لبناهم وكذلك تباعدهم بتباعدها.
(**) جاء في هامش شرح النهج: الرواء – بالضم والمد – حسن المنظر. وماد القامة طويلها. والقعر يريد به قعر البدن أي انه قصير الجسم لكنه داهي الفؤاد. والضريبة الطبيعة. والجليبة ما يتصنعه الانسان على خلاف طبعه.
(6) عبده، محمد، شرح نهج البلاغة (بيروت، دار البلاغة، ط4، 1409هـ/1989م) ج2، ص511
(7) الجراح، حيدر "الرأي الآخر .. حصانة يضمنها أهل البيت" مجلة النبأ (بيروت، المستقبل للثقافة والإعلام، السنة 5، العدد 42، 1420هـ/2000م) ص110.
 (8) الصفار، حسن، التنوع والتعايش .. بحث في تأصيل الوحدة الاجتماعية والوطنية (بيروت، دار الساقي، ط1، 1999م) ص30. والحديث عن: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار (بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط3، 1983م) ج3، ص82.
(9) الطبرسي، حسين بن محمد تقي النوري، مستدرك وسائل الشيعة (بيروت، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث) ج7، ص46.
 (10) عبده، محمد، شرح نهج البلاغة (مصدر سابق) ج2، ص404-405. جاء في هامش الشرح: أي دقة التفصيل في النملة على صغرها والنخلة على طولها على ان الصانع واحد.
(11) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (بيروت، دار الفكر، 1993م) ج5، ص5.
(12) الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة (قم ايران، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث) ج5، ص84.
 (13) الطبرسي، حسين بن محمد تقي النوري، مستدرك وسائل الشيعة (مصدر سابق) ج12، ص88.
(14) انظر: العوا، محمد سليم، "التعددية السياسية من منظور اسلامي" من كتاب: مشاركة الإسلاميين في السلطة، للدكتور عزام التميمي (لندن، منظمة ليبرتي - الحرية للعالم الإسلامي- 1994) ص25.
(*) قنوان: جمع قنو، يثنى قنوان كصنو وصنوان بكسر الجيم، ويجمع قنوان، وهو عذق النخلة، والعذق من النخلة كالعنقود من العنب. راجع: القرطبي، محمد بن احمد الانصاري، الجامع لأحكام القران (تفسير القرطبي) تحقيق احمد عبد العليم البردوني (القاهرة، دار الشعب، ط2، 1372هـ) ج7، ص48.
(15) البنا، جمال، حرية الفكر والإعتقاد في الإسلام (القاهرة، دار الفكر الإسلامي) ص7.
(16) الجوادي، د. علاء "الاسلاميون والديمقراطية في مصر" فصلية المعهد (مصدر سابق) ص137.
(17) الشيرازي، محمد، الفقه .. كتاب القانون (بيروت،  ط1، 1417هـ/1997م) ص334 .
(18) اليماني، د. محمد عبده، من تقديم لكتاب: التنوع والتعايش .. بحث في تأصيل الوحدة الاجتماعية والوطنية  للشيخ حسن الصفار (مصدر سابق) ص7.
(19) الصفار، حسن، التنوع والتعايش .. بحث في تأصيل الوحدة الاجتماعية والوطنية (مصدر سابق) ص21.
(20) عضيمة، د. صالح "التعددية بين الرؤية والواقع .. نقد وتصويب" فصلية الجامعة الاسلامية (لندن، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية, السنة 2، العدد 7،  1416هـ/1995م) ص273.

----------------------
نضير الخزرجي

الجيل الجديد وأزمة البدائل الإسلامية

يثير عنوان المقال ( الجيل الجديد وأزمة البدائل الإسلامية ) مجموعة من الاشكالات ، ذلك أن تحليله إلى سلسلة متوالدة من التساؤلات المتحجبة وراء تقريريته الشاقة عن التسليم بأزمة هي أزمة غياب البديل الإسلامي ، وما يمكن أن ينجم عنها من آثار قد تصيب الجيل الجديد من الأعماق .
ولعل أهم الأسئلة التي أثارها العنوان هي :
أولا : البديل الإسلامي المنشود ، بديل ماذا ؟ ، أهو بديل للإسلام الموجود أم بديل الوافد إلينا من الآخر ؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل المشروع مشروطة بتحديد البديل .
ثانيا : أين مكامن الخطر المحدق بالأجيال الصاعدة ؟ وما الذي يتهددها فعلا وواقعا ؟
أهو سيل المعلومات الجارف والمتدفق إلينا عبر وسائل الاتصال التي أتاحتها ثورتي الاتصالات والمعلومات ، والتي حولت كوكبنا إلى قرية صغيرة تنتقل فيها المعلومات والصور والبضائع والسلع والأفكار والقيم مخيلة إيانا بلا حول ولا قوة إزاءها ؟ أم أن مصدرها الغياب التام للنتاج الاسلامي الذي يمكن أن يرد على تساؤلات الشباب وقلقه وتطلعاته وطموحاته ؟
ثالثا : هل الأزمة المشار إليها خاصة بالجيل الجديد دون سواه من الأجيال ؟ وهل هي ابنة اليوم ووليدة العصر أم أنها متجذرة تطفوا على السطح مع اشتداد المواجهة الحضارية مع الآخر وتخبو بخبوها ؟
أزعم أن المأزق الذي نتنادى اليوم للخروج منه والبحث عن سبل مواجهته ، مأزق جديد قديم ، جديد بمعطياته ، وطروحاته ، متجذر بإشكالياته ووجوده ، وإذا أردنا ألا نخوض بعيدا في البدايات الأولى له ، واقتصرنا على تاريخنا القريب ، أقصد بداية ما سمي بعصر النهضة العربية ، لوجدنا أن الوعي العربي الاسلامي قد تحرك كرد فعل على الزلزال الذي أحدثته المواجهة الحضارية مع الآخر ، أي الغرب ، بعيد الغزو الأوروبي للعالم الاسلامي ، وتحديدا مع الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت ، عام 1798 ، وقد كان لعامل اللقاء بين الأنا والآخر تداعيات على المستوى الداخلي للأمة ، صبغ بصبغها واقعنا وسجلاتنا الفكرية ولا يزال ، كما كشفنا أننا نرى إلا ذاتنا ولا نسمع غير صوتنا والتي اطلنا النوم على حرير أمجادها ، وكأننا لم نسمع إلى قوله تعالى ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون ) .
ما تقدم لا يعني بالضرورة أن لكل لقاء بين الأنا والآخر لقاء درامي مأزقي ، بل ما يحدد طبيعته هو دافع الذوات المتقابلة في اللحظة التاريخية المعينة .
لقد شهد التاريخ العديد من المواجهات الحضارية ، ومن المعلوم أن لا حضارة تنشأ وتزدهر بمعزل واستقلال عما سبقها أو يحيطها من الحضارات ، بل تتفاعل وتتلاقح معها ، وتضيف إليها من عندياتها ، مع الحفاظ على التمايز الحضاري لكل شعب ، ويكفي في هذا السياق أن نذكر تفاعل المسلمين الأوائل وانفتاحهم على الحضارات اليونانية والفارسية والهندية آنذاك كانت الذات الاسلامية في أوج نشاطها الروحي والمادي والعقلي ، وتعاطت بوعي وحرية ولا عقد مع الآخر ، بل شكرت له انجازه ، واعترفت له بفضل السبق فيما سبق إليه .
بالانتقال إلى الحاضر ، ما هي الصورة التي يتبدى عليها العالم ؟ وما موقعنا منه وفيه ؟
لقد شهد القرن الأخير ثورات ومنعطفات خطيرة وهامة على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والفكرية والعلمية غيرت معالم كوكبنا تماما ، حتى المفاهيم والمعارف التي طالما ركنا إليها انمحت من معاجم تداولنا ، لا سيما مع ثورتي الاتصالات والمعلومات اللتين شهدتا تناميا متسارعا في العقود الخمسة الأخيرة ، فأزالت الحدود والحواجز بين الجماعات والأفراد والدول ، وغيرت مفاهيم الزمان والمكان والعمل مع ما يستتبع ذلك من انقلاب على القيم والسلوكيات والتعاملات الانسانية الفردية والعامة في شتى الميادين . فأين نحن من كل هذا ؟
من الجلي أن أزمتنا مضاعفة ، وسببها ذلك الفصام بين سلوكنا وتعاليمنا من جهة أفكارنا من جهة أخرى ، نحيا في عصر ونفكر في عقلية عصر آخر . ولا شك أننا ورثة حضارة عريقة أدت للإنسانية وللحضارة الكثير ، إلا أن السؤال الذي يلح هو ما فعلنا بهذا الإرث ؟
ولا شك أننا أيضا مستهلكين لمنتجات الحضارة الراهنة ، ولكن هل لنا موقع قدم على سلمها ؟ هل نحن شركاء فيها ؟
أزعم أن السلبية هي سمة علاقتنا مع الماضي الراهن ، مع التراث والحداثة ، وفي أحسن الأحوال فنحن مستهلكون لمنتجات الحضارة الراهنة والتراث معا ، ومقلدون بامتياز دون الالتفات إلى نفعية أو صلاحية ما نستهلك ونقلد .والحضارات بمكوناتها الروحية والمادية لا تعدو كونها تلك الاضافات والاستجابات التي يبدعها الانسان ويجترحها للرد على المشكلات والتحديات التي تواجهه، وهي تزول وتضمحل عندما تكف عن ذلك .
والفعل الحضاري وتاريخ الحضارات ليس تاريخ أشخاص أو أفراد ، بل هو فعل تشاركي ينهض به المجتمع ككل ، وليس حكرا على فئة أو جنس أو جيل ، فهل يطبق علينا هذا التوصيف ؟
نحن جميعا كمسلمين ، نصبو إلى بديل اسلامي حضاري اسلامي فاعل ينهض بالأمة وبالإنسان عامة ، ولهذا النهوض شروطه الروحية والمادية اللازمة وهو يستحيل دون تحققها وتوفرها ، والبديل الإسلامي يفترض أولا الاشتغال على الذات والتواصل مع الارث تواصلا فاعلا متجددا ، والإرث الأهم هو القرآن الكريم وهو حجر الأساس في بناء عمارتنا الحضارية ومائزنا عن سوانا .
أجمع المسلمون على أن المرجعية الأساس التشريعية والقيمية والعقدية هي القرآن ، وإن القرآن نص مفتوح على فضاء التأويلات والقراءات والاجتهادات الانسانية في كل مكان وزمان باعتباره رسالة للعالمين هدى وتربية وتزكية وتعليما وطريقة ومنهاجا لتحقيق الاستقامة والعدل على المستويين الفردي والاجتماعي ، ومركز قطبها جميعا ، وغايتها التوحيد المتمظهر في العبودية لله رب العالمين .
فهل يمكن الكلام عن البديل الاسلامي دون فهم الرسالة وإدراك مقاصد الشرع ؟
أو دون فهم المرسل إليه وقدراته واستعداداته وكوامن طاقاته وحاجاته وتطلعاته وتساؤلاته ؟
أو دون توفير الشروط اللازمة لتسييل الفكر إلى عمل ؟
وهل يصح طرح البديل الإسلامي دون معرفة بالزمان والمكان ؟
هذا الكم الهائل من الأسئلة والإشكاليات المطروحة تحتاج مقاربتها إلى تضافر الجهود وتشاور العقول وتشاركها ، ويبقى السؤال مفتاح المعرفة ، ومحرض العقل على التفكر وقادح زناده .
ولأن ما هو موجود غير شاف لا شكلا ولا مضمونا لتقادمه وعرفيا ومنهجيا ، نجدنا اليوم بأمس الحاجة إلى تجديد النظر في المرجعيات والأصول المعتبرة وإعادة قراءتها بعين العصر وروحه ومعارفه ومنهجياته وأدواته وفي ضوء مشكلاته وتحدياته ، أستدرك هنا للتأكيد على أن مقالتي هذه ليست دعوة إلى القطيعة مع التراث ونتاج الأسلاف الغني ، بل هي دعوة إلى الإضافة والاستفادة والاستزادة من منجزاته للاشتغال عليه وفيه اشتغالا صاقلا وناقدا ، إنها دعوة لتشييد البنى القوية الاسلامية على بنية تحتية جامعة تستنطق مقاصد الشرع من النص القرآني ليرفع فوقها الصرح المعرفي الاسلامي من كلام وفقه وتفسير وسواها من العلوم الاسلامية ، إنها دعوة لمقاربة مقاصد الشريعة وأهداف الدين والتي أرادها المولى عز وجل من وراء ارسال الرسل والرسالات ، والتي جعلت الأحكام طرقا وسبلا .
أقول هذا لأن الآية انقلبت فالواقع الاجتهادي مثلا يتحرك وكأن الأحكام مقصودة لذاتها لا لغرض ورائها ، ومعلوم ما من حكم إلا وتقبع خلفه حكمة ، وكل فعل إنما يكون لغرض وكذلك كل أمر ونهي ، وأجرؤ على القول إن كثيرا من الأحكام الجزئية والتشريعات الاجتهادية وقد تناست المقاصد أتت متناقضة مع الغاية والهدف المفترض لها .
وبمعنى آخر سقط الجوهر عن طريق التمسك بالجزئي والقشري ، فتحول السجود مثلا إلى استقرار الأعضاء وهو تجلي التوحيد في العبودية الحرة لرب العالمين في لأرقى أشكاله . وتحول الزواج إلى عقد يتملك الرجل فيه بضع المرأة وقد جعل المولى غايته السكن المشروط بالمودة والرحمة ، ومعلوم ما للروتين من آثار ومترتبات متباينة أشد التباين .
والمثال الآخر هو علم الكلام والذي عرف تقليديا بأنه علم الدفاع عن العقيدة ، فلا زلنا نتداوله ونلقنه بحرفية ما ورثناه من القرن الرابع للهجرة ، ومعلوم أن اشكالياته متساؤلاته وردوده ومنهجياته إنما هي استجابة لتحديات ذلك الزمان وبأدواته ، أما نحن فبحاجة للرد على إشكالياته ومتساؤلاته اليوم حول الدين وبمنهجيات العصر ولغته التي يفهمها أبناؤنا ، وتعليق الاشتغال على هذا الأمر والاستهانة به لا بد وأن يدفع الجيل الجديد للبحث عن إجابات أسئلته في أماكن أخرى .
إذن أولى الواجبات الملحة بل وحق الدين علينا تجديده وبعث الروح فيه ، وذلك من خلال إعادة قراءته قراءة معاصرة تلب حاجاتنا وترد على أسئلتنا نحن ، وتستجيب التحديات التي نواجهها .
أما بالنسبة لعلاقتنا بالآخر ومنظومته الحضارية وهي لا شك حضارة تجتاح العالم ولها فعاليتها ، وتعمل جاهدة لتكريس ذاتها نموذجا أوحدا ، فلا نستطيع اليوم غض الطرف عنها وتجاهلها أو إيصاد الأبواب ونصب العوازل والسواتر دونها ، لاستحالة الأمر من جهة لا سيما في زمن الانترنت والفضائيات ، ولأن نفس الفعل الحضاري لمجتمع ما لا يكون إلا بالتواصل والتفاعل المبدع والخلاق الذي يتلاقح وينقد وينقض ، يتمثل ، ويهضم ويبيىء ما يصله من الآخر فيطبعه بطابعه ويضيف إليه ويشذب ما يحتاج إلى تشذيب ويهمل ما يتنافى أو يتناقض مع بنيته الحضارية والقيمية العقدية ، إنه تواصل الفعل لا الانفعال ، والاتباع والتقليد والاستلاب .
ما سلف يظهر أن المهمة التي ينبغي التصدي لها مهمة صعبة وشائكة لأن المشكلة التي تقابل مركبة ، نريد المشاركة في الحضارة العالمية مع الحفاظ على هويتنا ، وتمايزنا الحضاري ، بل نريد تقديم نموذج حضاري مختلف يصحح المسار ونحن خارج الفعالية الحضارية ، وبمعنى آخر علينا أن نجد أنفسنا كمسلمين وأصحاب حضارة موقعا ودورا فاعلا في عصر تجري فيه الأمور بسرعة الضوء ، وهو يستلزم بالضرورة الاستفادة من المنجزات الحضارية الراهنة ، وباعتبارها انجازا انسانيا عاما والتأسيس لرؤية اسلامية متجددة ومعاصرة ، تشكل القاعدة المعيار للنتاج الموجود أو البديل المنشود ولهذه العملية شروطها ، وهي شروط قيام ونهوض لا بد من تواصلها لأي مجتمع يبغي الخروج من ركوده إلى أفق الابداع والانجاز وأهم هذه الشروط على الاطلاق :-
1- إعادة الاعتبار للعقل : فالعقل هو الفصل المقوم للإنسان ومائزه عن غيره من الموجودات ، به كرم وبه يثاب ويعاقب ، ويعمر الأرض ويستخلف فيها من هنا ذاك الحث المتكرر في القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية على التعقل والتدبر والتفكر والتأمل والنظر والاعتبار تارة تفضيلا وطورا جمالا يستغرق الوجود كله ، والذي عبر عنه بأعمق ما يكون وأوجزه الآفاق والأنفس . إن ذلك التكثيف في الحض على التعقل بمفرداته المتنوعة يرفعه إلى درجة الفريضة وهي من أسف فريضة غائبة أو مغيبة ويكرس غيابها في اعتقادي ركوننا إلى فلسفة الواجب وتغليبها على فلسفة الحق ، إضافة إلى مجموعة سلطات كفت عقولنا عن النظر وأيدينا عن العمل وآليات الحجب والمنع والاقصاء والاستبعاد للمقاربات التجديدية النقدية ، ونتيجتها اللازمة التعطيل لكل فاعلة وابداع وتطوير ، ولكن هل للعقل أن يشتغل في الأسر وبعيدا عن فضاء الحرية ؟
2- ضمان الحرية : أو الاشارة إلى أن الحرية حق وليست معطى ناجزا بل تنجز وتتحقق من خلال عملية الكدح الفردي والجماعي ، والحرية مقصد من مقاصد الشرع ، قال تعالى ( يضع عنهم اصرهم والأغلال ... ) والضمير في يضع راجع إلى الرسول (ص) فيما يحمله من رسالة .
ومما لا شك فيه أن هناك العديد من السلطات التي تعارض وتنافي تنجز التحرر ، منها البيولوجي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي ، فهي جميعا تعمل على قهر الانسان واستعباده إلا أن هذه السلطات لا صفة جبرية لها مع وجود الارادة والقدرة على الاختيار اللذين حيي بهما الانسان والقدرة على الاختيار تفترض التعدد والأختلاف وهما مظهران للثراء والغنى إذا ما عرفنا كيف ندير الاختلاف دون تحويله إلى خلاف واصطراع .
وبمعنى آخر الحرية لا تعني فقط حقنا في القول والاعتقاد والتعبير والعمل ، بل الاعتراف بحق الآخر المختلف والمغاير في كل ذلك أيضا والقبول به .والحرية ثقافة وهي الأرضية الخصبة للإبداع والفضاء الرحب للإجتهاد والابتكار وضمان فاعلية العقل ومفجرة الطاقات والاستعدادات والكوامن الانسانية ، أي أنها ما لم تتحول إلى جزء من شخصيتنا الفردية والجماعية وظلت مقولات تلوكها الألسن دون تسييلها على أرض الواقع والممارسة ، فلا يمكن اطلاق تسمية الحرية عليها ، ةلأعطت خلاف نتائج الحرية بل هي أخطر من الكبت والقمع السافرين .
ما تقدم اقرار بأن العقل والحرية شرطان ضروريان للنهوض الحضاري ولكن هل هما كافيان ؟
إن مآلات الحضارة الراهنة لشاهدة على ضرورتهما ، بل هي في ظل غياب الشرط الثالث شهيدتهما ، ويكفي في الدلالة على صوابية ما نذهب إليه أن منجزات الحضارة الفذة أدت للانسانية خدمات جليلة ، تحمل بذور فنائها وزوالها دون أن تتيح الفرصة لقيام حضارة بديلة ، إذ أن تهديدها يطال الكوكب برمته وما عليه ، صحيح أن منجزات الحضارة التكنولوجية والمعلوماتية والجينية ، على سبيل المثال ، وفرت للبشرية مزيدا من الراحة والرفاهية وقربت لمسافات والحدود ورفعت الحواجز بين الناس وقضت على العديد من الأمراض وهي تعد بالمزيد ، إلا أنه من ناحية أخرى أخلت بالتوازن البيئي للكوكب ، وتهدد بدماره بما أنتجته من أسلحة دمار نووي وكيماوي وجرثومي ، وبدا ان تعم خيرات الثروة والعلم والطبابة والرفاه في العالم فإنه يزداد انقساما وتتسع الهوة بين عالمين ، عالم يمتلك كل شيء يمثل 2% من مجموع سكان العالم وعالم متسلب ومجرد من كل شيء يمثل 98% من سكان العالم ، وبدل أن يكون هدف الانسان التقدم والتطور التقني والعلمي أصبح في خدمته ، فاستلبت انسانيته وتحول مجرد مستهلك وقلق لا فاعل .
إن تدارك هذا الخطر الداهم على الحضارة والانسان غير ممكن دون الشرط الثالث وأعني به الأخلاق ، ومما لا شك فيه أن الأخلاق بما هي قيم انسانية عامة مقصد أساسي من مقاصد الشرع كما جاء في الحديث ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) فالأخلاق هي البوصلة التيي تتيح إعادة توجيه المركبة التي تقلنا جميعا وجهتها الصحيحة ، وليست المشكلة في منجزات الحضارة أو العلم ، أو الابداع الانساني ، بل في سوء استخدام هذه المنجزات من قبل الانسان ، وفي استغلاله الوحشي للطبيعة والتعدي على قوانينها ، وعدم احترام الآخر وحقوقه ، ومادية الربح السريع وتحقيق المكاسب الآنية ، الشخصية والفئوية على حساب البشرية جمعاء ، إنه الجشع والطمع البشريين أنه طغيان وتغول الأنا والخروج على الوسطية والاعتدال السوية في التعاطي مع الذات ومع الآخر .
----------------------------------
د. زينب إبراهيم شوربا
رئيسة تحرير مجلة " المنطلق الجديد " اللبنانية