السبت، 24 ديسمبر 2011

السلام بين الناس

من القضايا التي تؤكّدها الشريعة الإسلاميّة: مسألة السلام بين الناس.. ولا غرو، فالإسلام هو دين السلام والعدل والمحبّة والتفاعل بين الناس.
 والله تعالى يريد للناس أن يعيشوا في سلام فيما بينهم، ويريد للإنسان أن يعيش في سلام داخليّ مع نفسه، بمعنى: أن لا يعيش حالة الصراع والتوتّر والحدّة في قرارة نفسه؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى إثارة القلق والارتباك والتشويش في كلّ مواقع أفكاره أو مشاعره وأحاسيسه..

ومن ناحيةٍ أُخرى، يريد له أن يكون في سلام مع ربّه، بحيث تكون علاقته مع الله تعالى علاقة العبوديّة المطلقة التي يتمثّل فيها الخضوع له عزّ وجلّ في كلّ ما أراده منه، وفي كلِّ ما أحبّه له، وفي كلّ ما كرهه وأبغضه له، بحيث يصل الإنسان إلى مرحلة يتطلّع فيها إلى الله، ولا يعيش الحرب مع الله، ولا يتمرّد عليه في توحيده، ولا في ربوبيّته، ولا في شرائعه، كما لا يعيش الحرب معه بمعصيته في أوامره ونواهيه، بل يعيش في سلام مع ربّه، بحيث ينفتح عليه بالمحبّة التي يستشعر فيها كلّ معاني الحمد والثناء، ليصل إلى ثمرة هذه المحبّة وهي الظفر بحبّ الله له، كما دلّت عليه الآية الكريمة: [قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله].

والإسلام يريد للإنسان أيضاً أن يعيش حالةً من السلام مع الناس، بحيث يعيش فيهم من دون أن يصدر منه أيّ عمل سلبيٍّ يؤذيهم في أمورهم الخاصّة والعامّة، كما ورد في الحديث: (المسلم مَن سلِم الناس من يده ولسانه)، فالمسلم لا يصدر منه تجاه الناس إلّا كلمات الخير، وأفعال الخير، فلا هو يؤذيهم بلسانه، ولا يعتدي عليهم بيده، بل يحترمهم، ويحترم خصوصيّاتهم، ويصونهم في أعراضهم وأسرارهم، ولا يفشي عيوبهم، ولا يركّز على عثراتهم.

وعلى هذا الضوء، أراد الله للإنسان أن يعمل على أساس الإصلاح بين الناس في خلافاتهم ومنازعاتهم وتعقيداتهم التي من شأنها أن تُحدث اهتزازاتٍ في المجتمع، وتفرّق الناس بعضهم عن بعض، فيتدخّل من أجل الإصلاح بين الناس ليجمع كلمتهم، وليسدّ الثغرات فيما بينهم، ليعودوا إلى حالة السلام بعد أن كانوا يعيشون حالة الحرب والتأزّم، قال تعالى: [لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً]، أي: من كان يعمل في اتّجاه تحقيق السلام بين الناس من أجل الحصول على رضا الله، لا من خلال حالةٍ مزاجيّة، أو من خلال بعض الأطماع الذاتيّة، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً.

ولهذا نجد الإمام عليّ بن أبي طالب ينصّ في وصيّته للإمامين الحسنين في آخر حياته، يقول: (وعليكما بإصلاح ذات البين، فإنّي سمعت جدّكما رسول الله(ص) يقول: إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام)، (والمقصود طبعاً هو الصلاة المستحبّة، لا الواجبة، والصيام المستحبّ، لا الواجب)، على اعتبار أنّ الخلاف بين الناس والنزاع والحرب فيما بينهم يخرّب الصلاة والصيام؛ لأنّه يخرِّب النظام الروحيّ للأفراد، علاوةً على الأضرار التي يُلحقها بالنظام الاجتماعيّ الحاكم في المجتمع.

ولعلّ أكبر تأكيدٍ إسلاميّ على ضرورة إحلال السلام بين الناس هو أنّ التحيّة الرسميّة التي أقرّها الإسلام وأراد للمسلمين أن يشيعوها ويفشوها فيما بينهم جاءت تحيّةً توحي بالسلام والمحبّة والأمن والثقة والاطمئنان والرحمة، وهي كلمة: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، وهي أفضل تحيّة عرفها الإنسان؛ لما تبعثه نحو الآخرين من طاقةٍ إيجابيّة مشرقة، فالمسلم عندما يلتقي بمسلم آخر، يحيّيه بكلمة السلام، ليقول له: سلام عليك، أنا مسالم لك، أي: أنّ علاقتي بك هي علاقة السلام، لا علاقة الحرب، فأنا لا أؤذيك، ولا أسبّك، ولا أعتدي عليك، ولا آكل حقّك، بل أعيش معك عيشة السلام، ثمّ يدعو له في هذه التحيّة بأن تناله (رحمة الله) وبأن تنزل عليه (بركاته).

ولذلك جُعلت هذه التحيّة في الأدبيّات الإسلاميّة (تحيّة أهل الجنّة)؛ نظراً لمعانيها العميقة، والآثار الإيجابيّة الكثيرة التي تتركها في المجتمع، ونظراً لدورها الكبير في إرساء دعائم الأمن الاجتماعيّ، وفي هذا المعنى ورد في القرآن الكريم في صفة تحيّة أهل الجنّة: [وتحيّتهم فيها سلام]، وفي موضعٍ آخر: [جنّات عدنٍ يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار].

ولهذا نشدّد على هذه المسألة، أن نعلِّم أطفالنا ونساءنا وشبابنا وشيوخنا، أن لا يتركوا هذه التحيّة؛ لأنّها تكرّس في الذهنيّة العامّة للمجتمع الكثير الكثير من المعاني السامية والقيم الروحيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، وتجعل الناس يعيشون في واقعهم هذا المفهوم الإسلاميّ الرائع، لتصير المجتمعات الإسلاميّة بذلك صورةً عن مجتمع المؤمنين في الجنّة، ذلك المجتمع الآمن المسالم الذي يقول القرآن الكريم في وصفه: [ادخلوها بسلامٍ آمنين * ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سررٍ متقابلين]. 

--------------------
حسن يحيى

الخميس، 15 ديسمبر 2011

عن الانقسامات الطائفية والمذهبية - بقلم : صبحي غندور

إلى أين يسير الشارع العربي بانتقاله الموسمي من حال السبات إلى حال الانفعال العشوائي؟ من «تكيّفٍ» مع وضعٍ مأسوي في داخل عدّة بلدان عربية، ممزوجٍ أحياناً بتسلّطٍ خارجي، إلى انفعالات غرائزية نراها تحدث بأشكال طائفية يواجه فيها بعض الوطن بعضه الآخر وكأنَّ هذه البلاد العربيّة قد فقدت البوصلة التي توجّه حركة قياداتها، فإذا هي بمركب في بحر هائج تدفع به الرياح والأمواج بينما ينشغل طاقم السفينة بأموره الخاصّة أو يركن إلى عجزه عن القيادة السليمة!
صحيح أنَّ لإسرائيل عملاء يتحرّكون ويعملون في أكثر من مكان بالعالم، وأنَّ بعضهم انكشف واعتقل حتّى في أكثر الدول صداقة ورعاية لإسرائيل كالولايات المتّحدة، كما هي حال الأميركي جوناسون بولارد، المعتقل بتهمة التجسّس لإسرائيل في أميركا منذ العام 1986... وصحيح أنَّ اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والعراقيين والمصريين يعرفون أكثر من غيرهم من العرب حجم التّسلل الإسرائيلي في بلدانهم على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن، منذ ظاهرة كوهين في دمشق إلى انفضاح العشرات من العملاء في لبنان... وصحيح أنَّ السلطات المصرية كشفت مرات عدّة عن شبكات تجسّس إسرائيلية وما زال بعض عناصر هذه الشبكات معتقلاً، رغم وجود علاقات طبيعيّة بين إسرائيل ومصر... صحيحٌ كل ذلك وغيره من الأمثلة، لكن هل يعقل أن تكون إسرائيل وحدها في كلّ مكان وفي كلّ قضية ساخنة تعيشها حالياً المنطقة العربيّة وجوارها الإقليمي؟! أطرح هذا التساؤل لأنَّ كلاً من التطورات الحاصلة في المنطقة، يحمل طابع المصالح والمنافع الإسرائيلية فقط، بينما «الآخرون» - وهم هنا العرب والمسلمون والأوروبيون والأميركيون- يتضرّرون ممّا في هذه التطورات من مخاطر أمنيّة وسياسية على مجتمعاتهم وأوطانهم وعلى مصالحهم المشتركة. فالانقسامات الطائفية والمذهبية تزداد في المنطقة، وأصوات العداء بين «الشرق الإسلامي» وبين «الغرب المسيحي» ترتفع حدّةً بينما إسرائيل التي هي «جغرافياً» في الشرق، و«سياسياً» في الغرب، وتنتمي إلى حالةٍ دينية «لا شرقية إسلامية ولا غربية مسيحية»، هي المستفيد الأكبر من صراعات الشرق مع نفسه، ومن صراعاته مع الغرب!
وهل هناك أصلاً منفعة أميركيّة حقيقية من فلتان الأوضاع الأمنيّة في بلدان عربية؟!، وهل تقدر الإدارة الأميركيّة على ضبط نتائج هذا الفلتان إذا ما حدث؟ ألا يكفي العراق وأفغانستان نموذجاً لنتائج السياسات الأميركيّة الفاشلة؟!. فالمصلحة الأميركيّة الحقيقيّة لا يمكن أن تكون في توسيع دائرة الغاضبين على أميركا، ولا يمكن أن تكون في زيادة الهوّة بين العرب والمسلمين من جهة وبين الأميركيين والغرب عموماً من جهة أخرى... فهذه مصالح فئويّة لقوى حاكمة لكنّها حتماً ليست مصالح الدول والشعوب.
هناك الآن الكثير من «المعارك» الإسرائيليّة الّتي تجري تحت «راية أميركيّة»، لكن المصالح الأميركيّة هي جزء من ضحاياها! وكم هي مفارقة محزنة أميركياً أن يُنظَر لإسرائيل في القرن الماضي وخلال فترة الحرب الباردة، على أنَّها «رأس الحربة الأميركيّة» في الشرق الأوسط، بينما يُنظَر إلى أميركا الآن، وهي القطب الدولي الأوحد، على أنَّها تنفّذ سياسة إسرائيل في المنطقة!
أمّا على الطرف العربي والإسلامي، فـ«الإسرائيليّات» موجودة أيضاً بكثافة. وهناك عرب ومسلمون يقومون أيضاً بخوض «معارك إسرائيليّة» تحت «رايات وطنيّة أو عربيّة أو إسلاميّة». وهم عمليّاً يحقّقون ما كان يندرج في خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة من سعي لتقسيم طائفي ومذهبي واثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة لصالح فئات تستفيد من فتات الأوطان فتقيم ممالكها الفئويّة الخاصّة ولو على بحر من الدّماء. أليس هو مشروعٌ إسرائيلي تفتيت المنطقة العربيّة إلى دويلات متناحرة؟ أمَا هي مصلحة إسرائيليّة كاملة نتاج ما جرى في العراق من تفكيك لوحدته الوطنية؟ أليست هي أيضاً رؤية إسرائيليّة لمستقبل لبنان وسورية والأردن ومصر والسودان واليمن وشبه الجزيرة العربيّة؟!
أليس هو بمنظر خلاّب ممتع للحاكمين في إسرائيل وهم يرقبون ما يجري في لبنان من أحاديث عن الفتنة ومن محاولة النيل من المقاومة اللبنانيّة الّتي أذلّت جيش الاحتلال الإسرائيلي؟! إنَّه «زمن إسرائيلي» ينتشر فيه وباء «الإسرائيليّات» وتقلّ فيه المضادات الحيويّة الفكريّة والسياسيّة، وتنتقل فيه العدوى سريعاً، ويُصاب به «بعض الأطبّاء» أحياناً فتجتمع العلّة في الطبيب والمريض معاً!! هذا «الوباء الإسرائيلي» لا يعرف حدوداً، كما هي دولة إسرائيل بلا حدود، وكما هم العاملون من أجلها في العالم كلّه. لكن المشكلة لم تكن ولن تكون في وجود «الوباء»، بل هي بانعدام الحصانة والمناعة، وفي انعدام الرّعاية الصحيّة الفكريّة والسياسية داخل الأوطان العربيّة وبلدان العالم الإسلامي، وفي الجهل المقيت بكيفيّة الوقاية والعلاج بل حتّى في رصد أعراض مرض الانقسامات الطائفية وسهولة انتشاره!
فمن المهم أن يدرك أتباع أي طائفة أو مذهب أين تقف حدود الانتماء إلى طائفة، فلا نردّ على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ يحرمنا من الوطن كلّه بل ربّما من الوجود على أرضه. وعلى الجميع أيضاً، تقع مسؤولية فهم ما يحصل بأسبابه وأبعاده السياسية، وليس عن طريق المعالجة الطائفية والمذهبية لتفسير كل حدثٍ أو قضية أو صراع.
إن المعرفة السليمة لكل من جوهر الرسالات السماوية و«الهويّة العربية»، والعرض السليم لهما من قبل المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، سيساهم من دون شك في معالجة الانقسامات الطائفية والاثنية في المنطقة العربية. كذلك، فإنّ البناء الدستوري السليم الذي يحقّق العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، هو السياج الأنجع لوحدة أي مجتمع. فالعطب أساساً هو في الأوضاع الدّاخليّة الّتي تسمح بحدوث التدخّل الخارجي، الإقليمي والدولي. إنّ البلاد العربيّة لا تختلف عن المجتمعات المعاصرة من حيث تركيبتها القائمة على التّعدّديّة في العقائد الدّينيّة والأصول الإثنيّة، وعلى وجود صراعات سياسيّة محليّة. لكن ما يميّز الحالة العربيّة هو حجم التّصدّع الداخلي في أمّة تختلف عن غيرها من الأمم بأنّها أرض الرّسالات السماويّة، وأرض الثروات الطّبيعيّة، وأرض الموقع الجغرافي المهم. وهذه الميزات الثلاث كافية لتجعل القوى الأجنبيّة تطمح دائماً للاستيلاء على هذه الأرض أو التحكّم بها والسّيطرة على مقدّراتها.
إنّ إلقاء المسؤوليّة فقط على «الآخر» الأجنبي أو الإسرائيلي فيما حدث ويحدث في بلاد العرب من فتن وصراعات طائفيّة وأثنية هو تسليم بأنّ العرب جثّة هامدة يسهل تمزيقها إرباً دون أي حراك أو مقاومة. فإعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم في خدمة الطّامعين بهذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، كما أنّ عدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم الّتي تغذّي الصّراعات والانقسامات، جيلاً بعد جيل.