الجمعة، 15 أبريل 2011

ما هو التعايش؟

إن التعلم للعيش المشترك، وقبول الاختلاف، وجعل العالم مكاناً آمناً له؛ سوف يكون أحد أهم التحديات الكبرى للقرن الواحد والعشرين.

فالتعايش هو المصطلح الذي تم استخدامه بشكل مترادف في سياقات عدة، كما استخدم بوصفه عبارة رئيسية في ظهور عدد كبير من الحركات الاجتماعية والسياسية، والسمة الرئيسية في تعريف كلمة «التعايش» هو علاقتها بكلمة «الآخرين» والاعتراف بأن « الآخرين» موجودون.

التعايش يعني التعلم للعيش المشترك، والقبول بالتنوع، بما يضمن وجود علاقة إيجابية مع الآخر. فلقد عرَفت هوياتنا العلاقة مع الآخر، فعندما تكون العلاقات إيجابية وعلى قدم المساواة معه، فإن ذلك سوف يعزز الكرامة والحرية والاستقلال، وعندما تكون العلاقات سلبية ومدمرة فإن ذلك سيقوّض الكرامة الإنسانية وقيمتنا الذاتية. وهذا ينطبق على الفرد والجماعة والعلاقات بين الدول، فبعد أن شهدنا حربين عالميتين وحروباً لا حصر لها من الدمار والإبادة الجماعية، صارت مسألة تعزيز التعايش على جميع المستويات أمراً ملحاً للقرن الواحد والعشرين.

واحد من المفاهيم الأساسية في تاريخ الثقافة الغربية عموماً، والفلسفة الحديثة على وجه الخصوص، هو أن الشرعية الفعلية للوجود المفترض مع صفاتها المحددة موجودة فقط عندما تعترف بها ذاتية أخرى، ووفقاً لهيغل، فإن جوهر فكره قائم على مصطلح «وجود» وهو في الأساس «تعايش». وينطبق ذلك على الأفراد والجماعات والطبقات، فالمطلوب هو الاعتراف المتبادل، كشرط ضروري من أجل الحرية والاستقلال. وهناك أمثلة ممتازة للعديد من أشكال النضال لأجل الاعتراف والتأكيد على الاستقلال في تاريخ الحركات الاجتماعية. ومن الأمثلة المهمة في هذا السياق، الكفاح من أجل التعايش بين الرجل والمرأة والخلاص من البطريركية (الأبوية) للنضال من أجل تحرير المرأة، والمساواة بين الجنسين، والنضال ضد الاستعباد وضد عبودية الإقطاع معروفة جيداً. وفي عصرنا الحالي فإن الكفاح من أجل التعايش يتواصل مع عملية تحول الاتحاد السوفيتي السابق، والثورة السلمية في أوروبا الشرقية.

وفي المفردات السياسية الحديثة فإن مصطلح «التعايش السلمي» تم تصوره كاستراتيجية للبقاء والوجود بين الحرب بالمعنى الحرفي والسلام بالمعنى المثالي، فالتعايش السلمي في هذا السياق يعني علاقة سلمية بين الدول، في حين أن التنمية المركزية لكل دولة تتطلب التعايش داخل الدولة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وقد كان ذلك أحد أهم الركائز الأساسية لدبلوماسية الدولة. وكان لينين أول من أعلن التعايش السلمي باعتباره سياسة الدولة للثورة، وخلال المرحلة الأولى من الثورة الروسية قد استعمل لوصف الفترات التي ستتخلى عنها السياسة السوفيتية في الهجوم الشامل على كل الجبهات ضد العالم غير الشيوعي والاستعاضة عنها بأساليب أكثر دهاءً من إبرام اتفاقات مع بعض الحكومات في بعض المجالات، مع الحفاظ على الضغط الشديد في أماكن أخرى، فالغرض من التعايش وفقاً للينين، كان تكتيكيًّا بحتاً، ومرحلة مؤقتة، فبواسطة طريقة تغيير طبيعة الهجوم وتخفيف الضغط، وتقسيم الدول الرأسمالية، والتي تكون متلازمة، سيسمح بالتالي لتطوير وسائل إضعاف أعداء الشيوعية .

ولكن في سياق الحرب الباردة فإن «التعايش السلمي» الذي أعلنه خروتشوف، وجعله تحولاً استراتيجيٍّا وركز وبشكل واضح عليه، حيث كان من المُسلَّم به فيما لو استمر الصراع بين النظامين، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى التدمير المتبادل للنظامين الغربي والشرقي بأكملهما.

وأما التعايش وفقاً لغورباتشوف فهو يعني استمرار الصراع بين النظم الاجتماعية، ولكن بالطرق السلمية، من دون حرب، ودون تدخل من جانب دولة واحدة في الشؤون الداخلية للأخرى، و تكون المنافسة بين النظامين في حقل سلمي .

وجاء التحول في معنى آخر مع مؤتمر باندونغ حيث تم استخدام مفهوم «تعايش»، وذلك بهدف خلق بيئة دولية أكثر سلمية، وكان نهرو قد دعا لمفهومه للتعايش السلمي بين القوتين العظمتين من حيث المبادئ الخمسة: الاحترام المتبادل لسلامة الأراضي وسيادتها، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، والمساواة، والمصالح المتبادلة . وكان لدى نهرو قناعة بأن الهند يمكن أن تسهم في تحقيق المصالحة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي من خلالها «كجسر سياسي» وذلك من خلال فكرة التعايش التي كانت متجذرة في استراتيجية غاندي (ساتياغراها)، أو نبذ العنف. على الرغم من أن تلك المبادئ قد صدرت من ضمن تطلعات الدول الناشئة الحديثة الاستقلال وهي عدد من الدول الإفريقية والآسيوية، والتي جاءت إلى الواجهة بحقيقة الاعتراف لهذا المفهوم «التعايش» في عملية صنع السياسة الدولية.

إن التعايش كنموذج يجب ألَّا يقتصر على العلاقات بين الدول ولكن العلاقات داخل الدول كذلك، فالتعايش بين مختلف الشعوب والأعراق والجماعات الدينية والعشائر والقبائل وطيف من الهويات هو التحدي الكبير للقرن 21، كما أن التعايش بين الشعوب أصبح ضرورة ملحة في المرحلة المقبلة من تطور الحضارة. ومن جهة أخرى صار الكفاح من أجل تقرير المصير للشعوب عاملاً رئيسيًّا في الحروب القومية في القرن 20، وقد بلغ ذروته في استكمال عملية تصفية الاستعمار، وحاليًّا الحروب الأهلية والعرقية وصراعات الهوية هي التحديات التي تواجه نظام الدولة القائم.

وهناك سلسلة متصلة من النضال لأجل الاعتراف بهويات جديدة، وتحديات الخصام التي تواجه دولة الوحدة، وفي بعض حالات الخصام والحرب تؤدي إلى تقسيم الدول، وتكثر الأمثلة الحديثة، كفصل باكستان عن النظام السياسي الهندي، وفصل بنغلاديش عن باكستان، وانهيار يوغوسلافيا السابقة. من ناحية أخرى كان هناك أيضاً التوسع في كيان أكبر، حيث إن توسع الاتحاد الأوروبي ليس سوى مثال تقليدي واحد، وأن تشكيل الاتحاد الأوروبي هو مثال جيد لقرار وقف الحرب بين القوى العظمى. وقد عمل جان مونيه وآخرون في صياغة إطار معياري لتطوير التعايش السلمي بين فرنسا وألمانيا، من خلال التعاون الاقتصادي، ومن ثم إلى توسيع مفهوم أوروبا ككل، والذي يقدم مثالاً ممتازاً على الاعتراف بالتنوع والمحافظة على التعايش.

* الهوية والانتماء العرقي والتعايش

عندما نبحث عن كثب، فإن الغالبية الساحقة من الدول القومية في مجتمعنا العالمي تكشف عن انقسامات داخلية كبيرة، على أساس العرق والجنس والدين، كما أن نوعية هذه الاختلافات في العملية الاجتماعية والسياسية تختلف على نطاق واسع، وكذلك مدى شدة أهميتها في تسييس الشرائح الاجتماعية، سواء داخل الدول أو فيما بينها، كما أن الافتراض الأساسي بعد انتشار صراعات الهوية والعرقية، لا سيما بعد الحرب الباردة، هو إدراك أن التعددية الثقافية هي سمة دائمة في الحياة السياسية المعاصرة، فلم يعد هناك أي مبرر للتشبث في الاعتقاد بأن مجموعة من العمليات المعروفة باسم «تحديث» من شأنها أن تؤدي تلقائيًّا إلى فكرة أمة واحدة، أو أن تؤدي إلى تآكل التضامن الثقافي أو العرقي أو الديني، بل قد يحدث عكس ذلك، فالتغيير الاجتماعي يميل إلى إنتاج أقوى للهويات الطائفية، والدراسات التي تركز على أن الفرد هو الوحدة الأساسية في تحليل الصراعات، تشير إلى الحاجة إلى الهوية، باعتبار أن ذلك أمرٌ أساسيٌ لبقاء رفاهية الفرد والمجتمع الذي يوجد فيه هذا الشخص. وكان «بيرتون» وللحصول على نقاط أمثلة لمثل هذه الصراعات المعقدة التي طال أمدها مثل الصراع الفلسطيني، والصراع القبرصي، وصراع إيرلندا الشمالية؛ قد أكد على أنها جميعاً تستند إلى الحاجة إلى الهوية التي يسعى البشر لتلبيتها بغض النظر عن الظروف السياقية أو درجة الإكراه . ولأن «الاحتياجات الإنسانية الأساسية نهج»؛ ولذلك يرى أن الاعتراف بالهوية ضرورة عالمية، وباعتبارها أيضاً شرطاً أساسيًّا لتحقيق التنمية الفردية .

هناك بالطبع من المنتقدين الذين يشككون في قيمة ومدى عملية استخدام مفهوم التعايش. وهناك مدرسة فكرية واحدة تزعم أن العلاقات بين المجموعات المتنافسة لا يمكن تغييرها، وأنها الأساس ولا يمكن تحويلها، ويجادل آخرون بأن التعايش يعني قبول الوضع القائم، ويقول آخرون برأي أقوى من هذه الحجة، وهو أن التعايش ما هو إلا مصطلح يستخدم من قبل الأغلبية لكي يفرضوا سيطرتهم على الأقلية، وهو الزعم بأن الأغلبية المهيمنة ترغب في الاحتفاظ بهيمنتها من خلال اقتراح أشكال التعايش، والتي لا تقوض سيطرتهم. وما أود أن أقوله هنا، هو أن التعايش بين الطوائف والمجموعات هو في الأساس علاقة تحويلية، ديناميكية وايجابية، ومصطلح التعايش يعني أن الهوية هي القوة الدافعة الأساسية في التنمية البشرية التي تتطور من حالة الحد الأدنى من الاعتراف بالاختلاف وقبول التنوع والاعتراف المتبادل من جهة أخرى، إلى وجود علاقة تحويلية في المجتمعات، ربما على مرور الزمن قد تجد الآليات والمؤسسات المناسبة لتلتحم ومستوى أعلى في ذلك المعنى.

* مناهج لتعزيز التعايش

وهناك مجموعة متنوعة من الأساليب، التي يتم استخدامها حاليًّا في تعزيز جوانب التعايش بين الشعوب، فبعض الحركات الاجتماعية تعرف نفسها كمعززة لتسوية المنازعات، أو إدارة الصراع، وأن حل المنازعات أولوية في إدارتها، والتي تعرف نفسها عادة بأنها تسعى لجلب الطرفين إلى طاولة المفاوضات، كما أن متغيرات أخرى لحل النزاعات هو الرجوع إلى مختلف الأساليب والمناهج المتقدمة في مجال الدبلوماسية كمسارٍ ثانٍ، وحيث توضع الجهود التي يجب أن تدعم عملية المفاوضات الرسمية من قبيل نهج المجاملة، ومثل تعزيز العمل على تحقيق وبناء السلام بين المجتمعات المحلية، كما أن العديد من الجهود التي تبذل لحل مشكلة النهج، إلى حد كبير من قبل جماعات المواطنين القائمة على خلق مساحة للحوار من أجل تحسين التعايش بين الطوائف، إذ إن الحركة البيئية على سبيل المثال، وهو مثال كلاسيكي لتمديد التعايش مع الطبيعة بحيث أن الطبيعة تعتبر جانباً من جوانب وجودنا على كوكب الأرض، والحركة بين الجنسين هي مثال آخر حيث يتم التركيز على الاعتراف، والتحرر، والنضال من أجل المساواة والحرية. وعادة فإن مفهوم حل النزاعات، يعني الوسائل والخطوات التي اتخذت لتشجيع التعايش السياسي بين مختلف الأطراف في الصراع.

ومع أن حل النزاع كان ضيِّقاً جدًّا بالنسبة لأولئك الذين رأوا أن هذا المفهوم لا يعني سوى التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض بين أطراف النزاع، فإن هذا النهج لا يبدو أنه ينطوي على بناء السلام بين المجتمعات المحلية، ففي كثير من الأحيان تفشل التسويات التفاوضية إذا لم يتم اتخاذ العناية الكافية لمواصلة الجهود لبناء الثقة بين المجتمعات، وهذا هو السبب الذي كان قد قدم لمفهوم آخر، ويدعى تحويل الصراع. وتحويل الصراع هو مفهوم ضمني أوسع حيث الجانب الحاسم لحل النزاع هو تحويل العلاقات الاجتماعية بين الجماعات والهويات في المجتمع. وكان مفهوم آخر قد دخل حيز الرواج فوراً بعد انتهاء الحرب الباردة، هو مفهوم منع نشوب الصراعات. وقدم للدول التي يساورها القلق من انتشار الصراعات الداخلية والحروب الأهلية فيها، وكذلك الحروب بين الشعوب داخل الدولة المركزية لمنع نشوب الصراعات فيها، على أنه يعني منع نشوب الصراعات قبل أن يحدث العنف في الواقع. وكان البديل الأكثر تطوراً لمنع الصراعات والحد من العنف في أي نقطة في دورة الصراع، بالرغم من أن هذا المفهوم كان أيضاً يعاني من صعوبات في الاصطلاح، فهناك من يناقش على أن مصطلح «منع نشوب الصراعات» يطرح كمصطلح له دلالة سلبية، مما يشير إلى أن الصراعات مستوطنة في التعايش البشري، وبالتالي هي لازمة في سياق تطوره. ومع ذلك، ماذا كان يعني المفهوم ضمناً لمنع نشوب الصراعات العنيفة؟

* التعايش السياسي والتعايش الاجتماعي

إن سياسة المبادرات التي كانت قد وجهت للتقديم لأجل وقف الصراع بين المجتمعات المحلية، كانت قد وجهت إلى الإدارة المؤسسية في أعلى مراتب الحكومات وفي يد النخب السياسية. ولأن التحيزات والأحكام المسبقة والتي تنبثق عن السياسات الحزبية والسياسة الشعبوية في كثير من الأحيان تتورط في تلك السياسات المضادة للتعايش، لذلك تأتي تلك المبادرات للتصدي لسياسة خلق مناخ أفضل للتعايش المجتمعي وليكون ضمن الأولويات، ولأن جزءاً كبيراً من الصراع الطائفي الموجود في مجتمع اليوم، والذي من المقرر على صانعي السياسة اللجوء إلى الحيلة وأسهل الطرق للبدء في التوجيه السياسي إلى المركز على أمل أن يكون «رجع الصدى» للإصلاح المؤسساتي في المجتمع على مستوى القاعدة، ومنها يمتد إلى كافة المستويات، كما يجب التداول بشأن احتياجات التعايش السياسي من خلال تنفيذ الضمانات الدستورية، إلى جانب خطوة صنع السياسات فيما يتعلق بالتعايش المجتمعي، فيما يجب أن يتم التمييز بين تشجيع التعايش السياسي والتعايش المجتمعي، لأن التعايش السياسي يتضمن وسائل تطوير نظم الحكم التي يمكن أن تستوعب بشكل أفضل التنوع العرقي والتعددية، وهذا يعني أن البحث عن أشكال الحكم الدستورية تتراوح بين الفدرالية لأشكال الحكم الذاتي والحكم الذاتي نفسه، وقد يستغرق الأمر البحث أيضاً عن أشكال وأنواع مختلفة من الأنظمة الانتخابية، والتي يمكن أن تستوعب بشكل أفضل التوازن بين المجموعات العرقية في المجتمع.

غير أن ما يميز التعايش المجتمعي، هو أن مختلف الجماعات في كثير من الأحيان، سواء كانت عرقية أو دينية، والتي تعيش في فضاء العيش المشترك، وبذلك يكون تحديد علاقتهم مع بعضهم البعض، وكيفية إمكانية تطوير هذه العلاقات واستدامتها وتطبيعها هو ما يشكل تحدياً رئيسيًّا للقرن 21، ولأنه على مستوى المجتمع المحلي التقليدي والذي لا زال يعيش وفق التصور النمطي تجاه بعضه البعض، ووفقاً لماري فتزدوف، «وفي وقت سابق من التعارف الهادف في عمل العلاقات المجتمعية والتي تبدو على مستوى الأولوية نفسها عند المعنيين، مع التأكيد على فكرة وجود الانسجام بين الجماعات المختلفة مع الهدف المقصود من إدماج الأقليات في المجتمع الأوسع في أسرع وقت ممكن. وقد وضعت التعريفات في وقت لاحق على أن تكون الأهداف أكبر بكثير من مجرد التركيز على فكرة المساواة في الحقوق الأساسية والفرص لجميع الفئات، بل يكون الهدف هو تشجيع التنوع الثقافي في الوقت نفسه، باعتباره الخيار الأفضل» .

وفي تقييم العلاقات المجتمعية العاملة في إيرلندا الشمالية فإن ماري فتزدوف تقول: إنه يتزايد الاعتراف بمثل هذا العمل مع التركيز على الخلافات، كمثال أن تكون لاهوتية ذات طابع سياسي في بعض الحالات، والتي من المرجح أن تكون محدودة، فسيكون الهدف هو العمل على تسهيل النقاش الحر داخل المجتمعات المحلية، والذي يجب أن يتم بصورة منتجة، فإذا كان لا يتم مثل هذا العمل داخل المجتمع، والذي غالباً ما يكون بسبب حالة من الخوف والترهيب وعدم وجود هياكل متاحة من خلالها يتم القيام بمثل هذا العمل المشترك وفهمه فإن النتاج سيكون على الأرجح دفاعيًّا وبالتالي أقل فعالية.

* بناء أساس للتعايش: التعليم

إن محاولة إطلاق سراح الطفل من الحدود العرقية المقيدة، وإعادة توجيه وعيه إلى حقيقة وجود ثقافات ومجتمعات أخرى وأساليب متعددة للتفكير وللحياة، ولأن المقصود هو إعادة تكييف الطفل إلى أقصى حد ممكن من أجل أن يتمكن من الخروج إلى العالم وهو خالٍ من التحيز والتحامل، ولديه القدرة والرغبة لاستكشاف العالم بكل تنوعه ، وباعتبار أن العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين قد اقتربت من نهايتها؛ فإن البلدان في جميع أنحاء العالم منشغلة بالتحدي المتمثل في إيجاد طرق جديدة ومحسنة لتثقيف المواطنين للعيش في ظل التنوع في الألفية القادمة، فهناك أكثر من 2 مليار من الأطفال الذين سوف يرثون الأرض.

إن الحق في التعليم هو حق أساس معترف به من قبل جميع البلدان، غير أنه في الحقيقة لا يزال غالبية أطفالنا من دون مرافق تعليم مناسبة، وبناء على ذلك يجب تبني أسس للتعايش قائمة على أن يتمكن كل طفل من الحصول على التعليم والمشاركة في صنع القرارات التي تضمن تعليمه بشكل أفضل، ولأن التعليم والتعلم هما مبدآن ووسيلتان لتعلم العيش المشترك، وهذا يعني أن المدرسة تصبح مؤسسة كبرى لتعليم التعايش متعدد الثقافات، وأن اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن 21 في تقريرها عن التعليم في القرن 21 كانت قد وضعت مخطط الأعمدة الأربعة للتعليم، والذي منها التعلم للعيش المشترك وعرفته كتحدٍّ مركزي. (انظر مقدمة التعليم).

فكيف يمكننا غرس الاحترام والشعور بالحاجة إلى وجود ضرورة التعايش بين أطفال المدارس؟. كما أن عملية التثقيف حول التعايش تحتاج إلى أن تحدث على كل المستويات، من المستوى غير الرسمي بدءاً من كليات المعلمين، والمدارس ذاتها، إلى الجماعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية إلى وسائل الإعلام والشركات، وجميع الوسائل غير الرسمية بما في ذلك الأسر والمشاهير والكتاب والشعراء. أنه لتحدٍّ واضح في المجتمعات المتنوعة ثقافيًّا والتي تعكس بصورة مرضية احتياجات جميع الفئات الاجتماعية والثقافية في المناهج الدراسية، وضرورة تكييف المناهج الدراسية الأساسية المشتركة لتلبية الاحتياجات المحلية وإعادة صياغة التقاليد، وهو أمر ذو أهمية وحيوية، والتي يمكن أن تكون حاسمة، إذا ما كانت العلوم الاجتماعية ومناهج العلوم الإنسانية موضوعية وتصاغ لأجل ذلك، والتي تعكس على نحو متزايد، اهتماماً دوليًّا ووطنيًّا ومحليًّا بالتعددية وبالمجتمعات المتعددة الثقافات، كما أن عمليات تطوير المناهج الدراسية بحاجة إلى أن تصبح أكثر ديمقراطية، باعتمادها نهج اللامركزية التي تتيح إدخال ومشاركة جميع الفئات ذات المصلحة.

إن التعليم القائم على التعدد الثقافي هو وسيلة ناجعة للطلاب، لرسم الهندسة الاجتماعية التي تقوم على تقدير المجتمعات التعددية التي ينتمون إليها . فالتعليم والتعلم هما دائماً العمليتان الثقافيتان اللتان تشتملان على محركات النسج الاجتماعي المحدد، فعلى الرغم من تعلم الطلاب استخدام أفضل الأمثلة المستمدة من ثقافاتهم الخاصة، والاحتفاظ بخصو صية تلك الأمثلة المحددة ثقافيًّا، إلا أن هناك حاجة متزايدة للتعليم متعدد الثقافات وذلك للمساعدة في نزع فتيل العقليات النمطية الراسخة، والتحيزات التي قد غرست لتكييف بيئة ثقافية خاصة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من هذه التصورات الشخصية والأحكام الذاتية وغيرها. ومع ذلك إذا ما كان للتعليم المتعدد الثقافات في أن ينجح في تحقيق أهدافه، إلا أنه لا يمكن أن يكون مجرد برنامج مخصص للتنفيذ في المراحل الحاسمة من الصراع في محاولة عرجاء لتسوية الخلافات بين الفئات الاجتماعية المتضاربة، ولكن ينبغي أن يكون هناك مشروع طويل الأجل يتناول التعليم متعدد الثقافات مباشرة مع الحفاظ على الهوية. وكما أن التربية من أجل السلام كانت رد فعل لسياسات الحرب الباردة، فينبغي أن ينظر للتعليم المتعدد الثقافات بوصفه أداة أساسية وضعت للحد من الصراع العرقي، وهو أداة مهمة في تعزيز التعايش من خلال التعليم و المناهج الدراسية. ففي نهاية القرن 20 كان قد تم الاتفاق على أن تكون المناهج المعترف بها عالمية، وينبغي أن تكون مفتوحة ونشطة ومرنة ومتعددة الثقافات. لكن ترجمة هذه المثل العليا إلى حقيقة واقعية وذات مغزى في المدارس والفصول الدراسية يشكل تحدياً هائلاً في جميع البلدان. فالمناهج الدراسية الأساسية تحتاج إلى التكييف مع الظروف الداخلية وتأخذ في الاعتبار الهويات المحلية، كما أن ذلك يتطلب وجود نهج تشاركي لتطوير المناهج الدراسية، فأصحاب المصلحة يجب أن يتم توسيعهم إلى ما هو أبعد من واضعي السياسات في وزارات التربية والتعليم، بل ويجب إشراك العاملين في مجال التعليم المتخصص والآباء والمعلمين وقادة المجتمع والزعماء الدينيين والطلاب أنفسهم.

* الحاجة إلى وجود تحول في السياسة

الصراع موجود على جميع مستويات السلوك البشري ولكن هذا لا ينعكس دائماً كعامل محدد في صنع السياسات، فتضارب وجهات النظر يؤكد على ضرورة شرعية حقيقة وجود الحاجة إلى وسائل العيش المشترك، والذي لا بد من إيجادها على الرغم من هذه الخلافات. ففي حين ينخرط العديد من الناس في عمل التعايش، فإنه ليس بالضرورة أن تنعكس هذه المبادرات دائماً على مستوى السياسة العامة. الساسة والحكومات وقادة الرأي يجب أن يقبلوا بأن يكون التعايش هدفاً مشروعاً. وهناك اقتراح لإقامة إدارة أو وزارة خاصة للتعايش في جميع البلدان كوزارات البيئة التي أنشئت في 1970.

إن تعلم العيش المشترك لا يسقط من الفضاء، ومن الواضح أن التعايش هو سلوك مكتسب، وهو ما يتطلب عملية مستمرة من التعلم في المدرسة وعلى حد سواء داخل المجتمع ككل. وهذا يتطلب الهياكل والمؤسسات التي تدعم وتعزز التعايش من خلال العديد من المشاريع والبرامج. وعلاوة على ذلك، فإنه يتطلب تمويل هذه الجهود والالتزام من قبل الحكومة المركزية. والمثال الممتاز على هذه الجهود هو عمل مجلس العلاقات المجتمعية في إيرلندا الشمالية، والتي التزمت فيه الحكومة بموارد للمجلس لتعزيز التعايش الاجتماعي، ومثل هذا النموذج يجب أن يتكرر في بلدان أخرى، كما يجب أن يكون هناك التزام حكومي بالموارد المقدمة للمجلس لكي يكون فعالاً.

شكل آخر من أشكال الشرعية، هو ما يمكن عمله من خلال البلديات والهيئات الحكومية المحلية، ولأن هذه المؤسسات هي في الخط الأمامي للعمل من أجل التعايش، كما أنها تقع في الأماكن التي يعيش العديد من المجتمعات المحلية فيها معاً، وهناك ما يتعين وما يمكن للكثير القيام به لتطوير الفهم من خلال مجموعة من الخطط والبرامج، والتي يمكن أن تتراوح بين توفير الموارد لدعم المراكز الاجتماعية حيث يمكن أن تأتي جميع الطوائف للتعلم واللعب، ويمكن أن تكون في تقديم الألعاب وتشجيع الرياضة بين مختلف الطوائف، كما يمكن أن تكون هناك برامج لتعلم اللغات الأخرى، وتشجيع اللقاءات بين الطوائف، لمعرفة تاريخ الآخرين، كما يجب على البلديات والهيئات الحكومية المحلية والهيئات المنتخبة ديمقراطيًّا أيضاً، والتي لديها السلطة والموارد اللازمة، بأن تسعى لتقديم الدعم الفني للعمل في بناء التعايش المجتمعي.

* استنتاج

تعزيز التعايش الإيجابي بين الدول وبين الشعوب يشكل تحدياً رئيسيًّا للقرن 21. ولحسن الحظ هناك اليوم مجموعة من الحركات الاجتماعية قد بدأت في التعامل مع هذه القضايا، سواء على الصعيد الدولي أو الوطني أو على المستوى السياسي ومستوى المجتمع المحلي. وما يجب أن نقوله: هو أن التعايش السياسي لكي يكون ناجحاً يتطلب الاستثمار في التعايش على مستوى المجتمع المحلي. نحن بحاجة لجمع من الخبرات والطاقات من مجموعة متنوعة من مواطن الحركة الأساسية، وبناء نهج متعدد الأوجه لهذه المسائل. الحركات الاجتماعية تعمل بالضرورة على جوانب التعايش، وحينها سيكون الأثر التراكمي لهذه التحركات، والذي من شأنه أن يخلق مساحة للتعايش.

إن عمود مبدأ التعايش هو نظام التعليم، ونظام التعليم يتطلب تحولاً كبيراً في التركيز، حيث العيش المشترك ضمن التنوع والذي يجب أن يصبح قيمة مبدئية في تعليم الطفل. فنحن بحاجة إلى الاستثمار بكثافة في أطفالنا، وهذا يعني أن مواقفنا تجاه التعليم تتطلب إعادة تقييم أساسية، حيث حضور التعليم الذي ينبغي أن يكون تفاعليًّا بين المجتمع والمدرسة والطفل، وهذه هي العلاقة التي يمكن أن تخلق فضاءً للتسامح وقبولاً للتنوع. كما أن الاستثمارات في تعليم الأطفال هي في صلب عملية الاستثمار في ضمان عالم آمن للاختلاف.

كومار ربسنكة

* ترجمة: ذاكر آل حبيل
* المصدر: مجلة الكلمة، العدد 68، صيف 2010

الأربعاء، 13 أبريل 2011

قبول الآخر.. احترامٌ للذات وللآخر!

قبول الآخر.. احترامٌ للذات وللآخر! تنتشر في المجتمعات عادةً مقولاتٌ فكرية أو فلسفية يقوم الناس بتداولها واستخدامها ضمن ما تسمح به حدود الثقافة والواقع والفهم الدارج لمثل هذه المقولات والمتعلق بالمرحلة التي يمر بها المجتمع في لحظة تطورية محددة . من هذه المقولات مقولة " قبول الآخر "، وما أثير حولها ولا يزال يثار من لغط وبلبلة، وبدايةً فإنه لابد لي من توضيح بعض النقاط في مفهوم قبول الآخر على سبيل توضيح الموقف منه قبل الحديث في الجو المحيط بالمقولة ..
فمما لا أشك فيه أن المصطلح لم يرد ذكره في مراجعنا التاريخية ولا في نصوصنا الشرعية فلم يتناهى إلى مسامعنا أنه قد كان دارجاً في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية كما أنه لم يصل إلينا ما يشير إلى استخدامه في حضاراتٍ وثقافات سابقة . إذن نستطيع القول بأنه مصطلح حديثٌ نسبياً أو فلنقل بجملة تضعنا في صلب الموضوع إن المفهوم من ناحية الابتكار اللغوي لا يُعدُّ ابتكاراً إسلامياً وإن لم يكن كذلك فمن البديهي أن يكون حصيلة تجربةٍ إنسانيةٍ أخرى، سواءٌ كان خاصاً بتجربة حضارية محددة أم كان حصيلة تفاعلٍ بين حضارات مختلفة، فهو بذلك كغيره من المفاهيم المعاصرة وصلت إلينا عبر تجارب وخبرات لآخرين نتيجة معاناة مرَّت بها الشعوب وانتقلت حصيلة التجارب تلك إلينا، فمنها ما كان منسجماً مع أخلاقيات حضارتنا ومنها ما كان مخالفاً لها، وبكلمةٍ أخرى أقول أن منها ما يفرض نفسه كقيمة حضارية إنسانية عامة، ومنها ما يتطلب منّا قطيعة معرفية لما قد يحدثه من خلل بنيوي يتعارض مع مقوماتنا الحضارية، فكون الابتكار اللغوي عموماً- لأي مصطلحٍ -ليس أصيلاً في مكونات تراثنا فإن ذلك لا يبرر نبذه أو تجاهله أو اتخاذ موقفٍ عدائيٍ مسبقٍ منه أو من أصحابه فقط لكونه مستحدثاً لا وجود لجذرٍ " لغويٍ " له في ثقافتنا، بل الأجدر بنا سبر أغوار المصطلح والتعمق في معانيه ثم الحكم بعد ذلك على المحتوى بموضوعية، فمدلول أي مصطلح هو الأولى بتحديد شكل موقفنا وليس حداثة الابتكار اللغوي، لأن هذه الحداثة لا تعني عدم وجوده في ثقافتنا أو ثقافات غيرنا بأشكال تعبيرية قديمة ومختلفة، وإن لم يتيسر ضبط المعنى بحدود واضحة ودقيقة كما في بعض الحالات فإن الأولى فهم السياق الذي يطرح من خلاله المصطلح. وبالنسبة لقبول الآخر فإنه وحسب الاستخدام العام له – أو لنقل الاستخدام الأغلب الذي أؤيده – ما هو إلا إقرارٌ بحقيقة الاختلاف البشري وإيمانٌ بالتنوع الفكري سواءٌ أأقررنا بأن هذا التنوع ضرورة أم اكتفينا بموقفٍ محايدٍ منه على أنه حقيقة واقعية لم يمكن ولا يمكن إلغاؤها !
هذا الاختلاف الذي قد يتراوح بين التباين الفكري – المتعلق بالفروع - ضمن المذهب الفكري الواحد وبين الاختلاف التام الذي يتجاوز الفروع إلى الأصول، مُباعداً بين النظريات الفكرية وبين أصحابها، انتهاءً بالاختلاف بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل، لدرجة التباين بين الإيمان والكفر ..فالمسألة مسألة وعيٍ لهذه الحقيقة الإنسانية، وطالما أن المسألة متعلقة بالوعي فهي حالةٌ فوق الاستلاب العقلي أو العاطفي، إن فهم ما يعنيه قبول الآخر يقتضي إدراك أن هذا القبول لا يتعدى من الناحية العملية سوى تفهُّم وجود هذا الآخر ولا يقتضي بأي حال من الأحوال اعتناق فكر هذا الآخر أو التماهي معه أو تحول صاحب فكرة القبول ليصبح هو نفسه ذلك الآخر ! وكذلك فإن هذه المقولة لا صلة لها لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ بمفاهيم علاقة بين طرفين تحكمها حالة اعتداء عسكري أو حصار أو مؤامرة يقوم بها أحد الطرفين على الآخر كما يروِّج لذلك الرافضون للمقولة عند اتهامهم لأصحاب مقولة قبول الآخر بأنها وصلت بمعتنقيها إلى هذا المستوى من القبول، أي مستوى التماهي مع المعتدي ! إذ أنه من البديهي أن ترفض عدوان الآخر عليك في الوقت الذي تؤمن بحق هذا الآخر بالوجود، أما عندما تتحول المسألة إلى سؤال حول إيمانك بحقه بأن يلغي وجودك، فتلك مسألة أخرى يتم تحديد مفاهيمها والعمل عليها خارج مستوى هذه المقولة، ولنلاحظ فقط أن مسألة الاعتداء هذه لا تحدث فقط بين الأطراف المتناقضة فكرياً وحضارياً وإنما هي واردة الحدوث أيضاً بين من تجمعهم الأرض أو الدين أو المذهب الفكري كما حدث خلال مراحل مختلفة من تاريخنا، وبناءً عليه فإنه من غير الضروري أو المنطقي الخلط بين قبول الآخر – أياً كان هذا الآخر – وبين حالات الفتن والاعتداءات العسكرية المتوقعة منه، فلتلك المسائل نقاشٌ من نوع آخر ولا ينبغي الخلط بين النقاشين ..
وفي كلامنا عن الابتكار اللغوي لمقولة قبول الآخر، بعد اعترافنا بأننا لسنا أصحاب هذا الابتكار، فإنني وخروجاً من دوّامة المصطلحات المتغيرة والمتطورة بتغيُّر الأزمان أعتبر - في ضوء الفهم الذي قدمته للقبول في بداية كلامي - أن مضمون وجوهر المقولة يتوافق مع جوهر الخطاب التوجيهي للقرآن حين يدعو الأنبياءَ وأتباعهم إلى تفهم الطبيعة البشرية، ولو أن القرآن لم يعبّر عن المضمون بنفس الصياغة إلا أنه لم ترد لفظة أو معنى ينقضان جوهر المصطلح الجديد الذي نتحدث عنه، كما لم يرد مصطلح آخر محدد ومضبوط يؤيد ما نتحدث عنه يمكننا من الاقتصار عليه للدلالة على جوهر الفكرة وإنما تمت الدلالة على المعاني التي نتحدث عنها من خلال أجواء حوارية بين الأنبياء وأقوامهم، فعلاوة على دعوته تفهم هذه الطبيعة فلقد ذهبت الدعوة القرآنية أبعد من ذلك بأن يلتزم المسلم تبليغ رسالته متقبلاً حقيقة أنه لو شاء الله لجعل المختلفين أمةً واحدةً عندها لن يكون هناك مشكلة مع الآخر ولا في قبوله إذ لن يكون هناك آخرٌ نختلف معه (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل93، وتأكيداً على طبيعة الخلق هذه فإن القرآن يؤكد في مواضع عديدة أن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يؤمنون، بل إن أكثرهم معرضون وجاحدون ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )يوسف 103، فهل يعد قبول المصلح لهذه الحقيقة الموضوعية سبيلاً لتقاعسه عن أداء مهمته في الإصلاح والتبليغ؟!
إن إدراك هذه الحقيقة هو صمّام الأمان الذي يفرّج عن أيّ مصلحٍ كربته حين قد يقترب من اليأس نتيجة الأوضاع البائسة، إنها الضامن على المدى البعيد لعلاقة بين المختلفين تحكمها ضوابط العيش المشترك مع ممارسة كل طرف حقّه في اعتناق ونشر ما يعتنقه من فكر، وهنا يكون القبول ضامناً للسلم الأهلي ولأجواء الاحترام والحرية الفكرية، ولا أظن بأن الدعوة الإصلاحية بحاجة لأكثر من هذه الأجواء كي تنتشر انتشار النار في الهشيم إن كانت قائمةً على أسس سليمة، بينما نستطيع أن نتوقع ما قد تنتجه أجواء مناقضة لهذه ابتداءً من رفض واقع التنوّع الديني والفكري، مروراً بالرغبة العاجلة في أسلمة المجتمع من خلال فرض الرؤية الأحادية إكراهاً على كل أطيافه الفكرية، انتهاءً بنشوء فكر إقصائي يعتبر قبول الآخر نوعاً من انتحار الذات، عندها ستكون التضحية بالآخر هي الجهاد الأكبر في حملة تقديم القرابين البشرية التي تنصب على مذبحها نفسية الرضى بالذات، وبذلك فإنه ليس من المستغرب أن نُبادَل حين نكون نحن "الآخر" بأشكال مختلفة من الرفض والتضييق والإقصاء، بل لا عجب حينها بأن يقوم مخالفنا بالتضحية بنا في ساحة المذبحة نفسها! إن هذا القبول عندما يكون إيماناً بحقيقة الاختلاف، ما هو إلا تنظيمٌ للعلاقة بين المختلفين، بين المصلح والآخرين، فهو حالة تضمن التوازن الذي يجعل من جميع الأطراف على مسافةٍ واحدة ومضبوطة، نؤصِّلها عندما يكون المصلح هو من يمثل الآخر المختلف، كما نسعى لصونها عندما يكون المصلح هو صاحب الكلمة والسلطة في مجتمعه . فإذا كانت هذه الحالة من القبول مطلوبةً في أجواء كجو الآية التي ذكرناها عندما يكون المصلحون أقلية – بما عبر عنه بعبارة : "وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين " - ، فهو مطلوبٌ أيضاً – من باب أولى – عندما يكونون أكثرية أو عندما تتوافر الفرص المتكافئة بين الإصلاح والمعترضين عليه، فإذا كانت الثبات على الحق مع التبليغ كافياً عند توافر أجواء القبول والرضى بوجود الآخر المختلف في حالة كون الإصلاح مستضعفاً، فإنه وفي حال وجوده قوياً منصوراً بأتباعه لا يحتاج لأكثر من هذه المقومات كي يؤتى نتائجه ويحقق أهدافه.
 ولكن أمام هذا التقديم، هل سيغيّر هذا القبول من طبيعة الدعوة وآلياتها في إعلاء كلمة الحق وتأثيم الباطل، أي هل سيتعارض هذا المفهوم الذي قدمته مع جهر الإنسان بمبادئه والدفاع عن ما يعتبره معبراً عن جوهر وجوده في هذه الحياة؟! إن ما يجيب على هذا السؤال هو سيرة الأنبياء المؤصّلة قرآنياً، فهذا القبول لم يكن يوماً مقيِّداً لحرية التعبير والتبليغ، بل كان وعيّاً مطلقاً للحق وجهراً به وثباتاً عليه حرصاً على الأقوام، وفي الوقت نفسه قبول لحقيقة أن الواقع قد لا يكون في كثيرٍ من لحظاته في صف أصحاب الحق والفكر السليم، وإيمانٌ بأن طريق التبليغ طريقٌ واحدةٌ لا عدول عنه مهما كانت الظروف! أما بالنسبة لمن هم ليسوا بأنبياء، فإن نفسية القبول لابد وأن تأتِي معبرةً عن مدلولاتٍ أوسع ولكنها تخرج من الرحم نفسه، ولو استعرنا مشاهد الواقع لوجدنا بأن نفسية عدم القبول السائدة في واقعنا – والتي تظهر بأبسط أشكالها برفض السماع لأي آخر وسوء فهمه والولوغ في نواياه – تعكس حقيقةً اعتقاد امتلاك الحق المطلق، هذا المطلق الذي أصبح مطيَّة لكل صاحب مذهبٍ فكري، بشكل أصبح يحتار فيه المراقب والمتتبع لهذه المذاهب في فهم طبيعة هذا المطلق والذي تستطيع كل فئة أو مذهب احتكاره ثم يمكن تجزئته على اختلافاتٍ ضيقة ضمن المذهب نفسه، مع احتفاظه بصفة الإطلاق نفسها! وبما أن القبول والسماع والتفهم، جميعها تعابير تعارض فكرة امتلاك الحق المطلق، عندها تصبح ثقافة القبول عبئاً ثقيلاً ينبغي التخلص منه بشكلٍ من الأشكال، وأسلم هذه الأشكال وضعها في خانة القيّم الدخيلة المفروضة على ثقافتنا من خلال التغريب، اعتماداً على حداثة الابتكار اللغوي أحياناً، أو من خلال تقويل المقولة أكثر مما تقول حقيقةً، وتحميلها أكثر مما تحتمل، أوتحميلها في بعض الأحيان ما لا يمكن أن تحتمل، وربما إقحامها في مجالات بعيدة عن دائرة دلالتها لشلِّ فعاليتها لما تشكله بعض هذه المقولات من خطرٍ على بنى فكرية ما هي إلا امتداد تاريخي لبنى قديمة إقصائية باتت تقدم نفسها في كثيرٍ من الأحيان بصورةٍ " عصرية " مع الاحتفاظ بالمضمون نفسه، وهي دعوةٌ مرة أخرى إلى التنبُّه للمضمون دوماً فليست حداثة الابتكار اللغوي أو قِدَمه نقطتي الفصل في موقفنا وإنما هو المضمون، والمضمون فقط! ..
فلقد كتب أحمد خيري العمري مقالاً في العرب القطرية بتاريخ 4/4/2008 بعنوان " قبول الآخر .. انتحار الذات؟ " فانطلق من فرضية مسبقة فحواها أن قبول الآخر لا يُقدَّم - في الأدبيات التي تؤيد المقولة - على سبيل التعايش مع الآخر، وهي فرضيةٌ لا نتفق معه بها ابتداءً، فإن كان البعض يسيء فهم واستعمال المقولة كأن يشعر بالنقص تجاه الآخر وتذوب ذاته الحضارية مع الذات الحضارية الأخرى، فإن ذلك لا يسيء إلى المقولة نفسها، لأن الأمر هنا ببساطة لا يتعلق بالمقولة وإنما له أبعاد أخرى ينبغي الحديث عنها ومعالجتها ضمن سياقٍ آخر، أما قبول الآخر فهو الذي أعتبره شخصياً صمام الأمان الذي يحفظ الأطراف المختلفة على مسافة واحدة بما يؤمِّن التدافع والتلاقي في الوقت نفسه، كما لا يجب أن لا تعمي الفرضية المسبقة أعيننا عن قراءة آخرين يضعون المقولة في نصابها الصحيح دون تشويه.
ثم وظّف الكاتب جهده لتتبع الجذر اللغوي لمصطلح التسامح، بعد أن افترض جدلاً – مرة أخرى – أن التسامح هو مصدر وأساس المصطلح الجديد، ولا ضير في أن يحاول الكاتب المقاربة أو التفريق بين مصطلحين على سبيل تحديد مفاهيم كل مصطلح ونقاط التقائه أو اختلافه عن المصطلح الآخر، لكن أن يتم افتراض أن أحدهما مشتقٌ من الآخر انطلاقاً من مقولة : " ربما يكون أساسه ومصدره " ثم تحويل مسار الكلام بأكمله لمناقشة ظروف ولادة المصطلح المفترض بحجة هذه ال " ربما " يجعل من البحث يأخذ طريقاً غير موضوعياً، فيصبح الحديث بمجمله عن التسامح وكيف تمارسه القوى الأكثر هيمنة مع الأضعف اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً، ثم يشير إلى أن هذا التسامح بالإضافة إلى اشتماله على حقيقة التفاوت في موازين القوى المادية، فإنه يحمل معنى رفض بعض المعتقدات والأفكار مع إمكانية السماح لأصحابها باعتناق بعض العقائد وممارستها على النطاق السلوكي، وهنا نرى أن الكاتب تحوّل من الكلام عن قبول الآخر للكلام عن التسامح ثم الانتهاء بالحديث عن إمكانية السماح، وقد خرج – بشكل صريح- من عرض السياق التاريخي لنشوء فكرة التسامح بمفهومها الغربي إلى التشكيك بمقولة قبول الآخر، دون أن يفترض أن لهذا القبول معنى غير المعنى الذي طرحه والذي قيَّده بمفهوم التسامح ودورة نشوئه في الغرب! ثم بعد الخلط بين التسامح والقبول، يقحم الكاتب المسألة في حالة الصراع العسكري بين دولتين أو حال الصراع الحضاري بين حضارتين، ولا ضير أيضاً أن نميّز بين عدة أصناف للآخر كأن نصل في التمييز إلى عزل الآخر المعتدي والمحتل والمغتصب وتأطير التعامل معه ضمن أطر خاصة، ولكن ألا يعتبر هذا خروجاً عن الموضوع إلى موضوعٍ آخر يخص مقاومة شعبٍ أو أمة ضمن حالة من الصراع العسكري؟!
وبالمناسبة فإن هذه الحالة ليست خاصةً فقط بالعلاقة بين أطراف متحاربة تنتمي لمنظومات فكرية مختلفة ومتناقضة، فالإسلام وضع لحالات الفوضى ضوابط خاصة لحل الإشكال الحاصل نتيجة ظروف هي أقرب لظروف فتنةٍ مؤقتة دون تعميم الضوابط إلى ما بعد انتهاء الفتنة، فلقد ورد في القرآن الكريم أنه (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الحجرات9، أي أن مسألة الاعتداء مضبوطةٌ حتى في حالة البغي بين الأخوة المؤمنين، ولا تتداخل هذه الضوابط التي وجدت لرفع الظلم مع ضوابط أخرى لتنظيم العلاقة فيما بعد رفعه أو لتنظيم العلاقة بين الأطراف الحيادية متجاورةً كانت أم متباعدة، وبالتالي فإن الحديث عن قبول الآخر والحديث عن اعتداء الآخر حديثان منفصلان لا ضرورة للخلط بينهما طالما أن منظومتنا الفكرية تفصل بين الأمرين على سوية الأخوة في الدين والوطن وبالتالي أن يكون للعلاقة مع المعتدي المستعمر طبيعة خاصة- محكومة بظرف الاعتداء - أمرٌ مفروغٌ منه أو بمعنى تحصيل حاصل، والملاحظ أن الكاتب وقع في الخلط بينهما فتخيل الآخر دوماً على صورة الآخر العسكري والمحتل المغتصب للأرض، وإن كان يجب أن لا نتعامى عن هذه الصورة كأحد أجزاء الصورة الكلية للآخر، ولكنها بالتأكيد ليست الصورة الكاملة خاصة وأننا نعلم جميعاً أن من بين صفوف ذلك الآخر العسكري من يقف في وجه ذلك التوجّه الباغي وفيه من الحياديين أو المستنكرين والمبدئيين ما ينبغي التنويه إليه من أصحاب المواقف العادلة والمشرِّفة، وفيه من المفكرين من يحترم فكره ويشاد بموضوعيته مع العلم بأن هؤلاء المفكرين ينتمون إلى نفس المنظومة القيمية الأم التي تخرج منها التقنية والرفاهية والحروب والإمبريالية!
والغريب أن الكاتب الذي يعيب على الآخرين قبول الآخر أو بشكل من الأشكال قبول أفكار الآخر الذي ينتمي إلى منظومة قيم مختلفة - خاصة حين تكون تلك المنظومة هي نفسها التي صدّرت نفس القيّم المادية والتوسعيّة – فإنه وفي نفس مقالته لجأ ليس فقط إلى قبول فكر الآخر، أو أنه لم يكتفي فقط بمعرفته – كالحد الأقصى الذي سمح به لمعنى القبول في مقالته – بل ذهب أبعد من ذلك إلى الاستشهاد بفكر ذلك الآخر والانطلاق منه واعتماده في تحديد الشكل المسموح به للتسامح – الذي افترض جدلاً بأنه يوازي القبول - ! وعلى ما يبدو أنه يريد تجزيء ذلك الآخر في نفس الوقت الذي يريد فيه جعله كتلةً متماسكةً لانتمائه لمنظومة واحدة، وكذلك فإنه يضع خطوطاً صارمة للتعامل مع ذلك الآخر لا يسمح لأحد بالعدول عنها ضمن ما أسماه " موكب الزفّة الإعلامية المصاحبة لمفهوم قبول الآخر " ولكنه وفي الوقت ذاته يقوم بانتهاك صارخ لما وضعه من خطوط وضوابط كما سيتبين بعد قليل !
فهل المسألة عبارة عن تناقضات فكرية، أم أنها عبارة عن إدراك دقيق لتلك الضوابط والخطوط الدقيقة الفاصلة بين المفاهيم ثم تجاوزٌ محسوبٌ لها بما يعني بأن هذا التجاوز هو حق يمنحه الكاتب لنفسه ويحجره على الآخرين، مما سيخرج المسألة من نطاق تناقض الأفكار وتضاربها إلى حالة أكثر تعقيداً يريد أن يُري فيها الكاتبُ الناسَ ما يراه "هو" وحده! ويتابع الكاتب حديثه انطلاقاً من فرضية أخرى يفرِّق من خلالها بين معرفة الآخر التي تعني – ضمناً- قراءته قراءة نقدية وبين قبول الآخر بمعنى تقبُّل فكره أو بمعنى آخر الاقتناع بهذا الفكر عندما تنتهي الحدود بين النظريات الفكرية مما يساوي بينها جميعاً، وفي هذا افتراض خاطئ في أنّ القبول مختلف عن معرفة الآخر وافتراضٌ آخر أن القبول يتساوى مع الاقتناع والتقبّل!
والملفت المثير للاستغراب أيضاً هو إقحام الكاتب لمفهوم الآخر عند " هيغل " و " فانون " في بحثه عن المفهوم المشوّه لقبول الآخر وهو ما يحاول الكاتب تقديمه على أنه النسخة العصرية الدارجة لهذا المفهوم، مما أوقع الكاتب مجدداً في الخلط – اعتماداً على ما ارتكز عليه من أقوال هؤلاء الفلاسفة حول الآخر – بين حالة العلاقة بين السيّد والعبد أو بين المستعمِر والمستعمَر والحالات الأخرى التي نتحدث عنها، ولا أظن – مجدداً – أن هنالك ممن ينادون بالقبول من يتباسط في طرح مفهوم القبول على هذا المستوى، وحتى إن وجد من يصل به التباسط واختلاط المفاهيم هذا الحد المثير للشفقة فإنه من الإجحاف تعميم تلك الحالة على شريحة أوسع أو على مفهومٍ عام بريء من هذا الخلط، وإذا فسحنا المجال أمام تمرير هذا الخلط فإنه لا يتوجب علينا وقتئذٍ انتقاد الآخرين الذين يعممون تصرفات فئة مسلمة أو أفكارها على المسلمين بأكملهم بل على الإسلام ككل، ولا أظن أيضاً أنه من المنطقي والموضوعي استعارة قول " هيغل " عن أن كل وعي للذات يطارد موت الآخر، ليستلهم منها الكاتب بأن كل قبول بالآخر قد ينتهي بانتحار الذات! فعلاوةً على أنني أرفض مقولة هيغل فوعي الذات لا يتطلب بالضرورة موت الآخر، كما لا يتطلب قبوله هلاك هذه الذات، كما أنني أستغرب استخدام الكاتب مقولة هيغل للخروج منها بفهم لقبول الآخر يجعله عنواناً لمقالته علماً بأن هيغل نفسه هو حسب مقاييس الكاتب " آخر " ينتمي لمنظومة فكرية مختلفة، وهنا يحضرني كلام الكاتب عن تصريحه بأن الآخرين ممن يقولون بقبول الآخر وقعوا تحت تأثير دونيتهم واستلابهم للآخر " الأشقر "، فهل يا ترى يحق لنا طرح التساؤل نفسه بخصوص استلابه أمام مقولة هيغل الإقصائية ! ويستمر الكاتب في خلطه بين قبول الآخر، وبين الاستسلام لعدوٍ يحاول محوَ كيانك وإلغاء ثقافتك وصهرك ضمن كيانه الحضاري، ولكن هذا الخلط ما كان ليدعو للقلق طالما أنه بدا واضحاً من عنوان المقال ومما ورد فيه من أفكار، ولكن ما يدعو للقلق فعلاً ويحتاج وقفةً وتأملاً أن الكاتب حقيقة لا يؤمن بقبول الآخر على مستويات أضيق من هذه وأكثر وضوحاً وحساسية، ففي مقابلةٍ معه نشرت على موقع دار الفكر على هامش التكريم، وفي سؤال وجه له عن طريقة تعامله مع الرأي الآخر يقول بأن مشكلته الحقيقية هي مع رأيين : أحدهما بلا انتماء محدد وبلا هوية واضحة، والآخر يظهر غير ما يبطن ويمرر أفكاراً مضادة عبر وضع شعارات إسلامية فضفاضة، طبعاً بعد أن استبعد بدايةً من لا تربطه معهم قواسم فكرية مشتركة، وإذا قاطعنا بين هذا الكلام وبين حديثه عن قبول الآخر في مقالته فإن ما سنتوصل إليه مختلفٌ تماماً عما قدّمه في مقالته الأولى، فبعد أن فهمنا أن لديه خلط بين الآخر " الفكري " والآخر العسكري التوسعي، كما فهمنا إن لديه إشكاليةً مع أن يصل القبول إلى درجة اعتناق مبدأ هذا الآخر ووضحنا الموقف من هذه الإشكاليات، فإن من الواضح أن للكلام أبعاداً أخرى تتجاوز حدود الآخر المهيمن ويتجاوز كذلك حدود الذوبان في الآخر، والكلام هنا يدل على أن الإشكالية حقيقةً أبعد من ذلك بل أعمق وأشد تجذّراً، إنها تتجاوز الخوف على الذات إلى مرحلة رفض حتى ذلك الآخر الذي لا يتبدّى لنا انتماءه الواضح – علماً أن هذه مسألة فضفاضة جداً لا يمكن ضبطها بتلك البساطة التي تظهر من خلال كلامه – والأسوأ من ذلك رفض الآخر الذي يبطن غير ما يظهر – وتلك مسألة أكثر إشكالية يمكن من خلالها إدخال كل المختلفين عنّا في هذه الخانة تمهيداً لرفضهم جميعاً بعد الولوغ في نواياهم - ولا أدري إن كان الكاتب يقبل من الآخرين معاملته بالطريقة نفسها ورفضه، وأرجو منه أن يقبل ذلك من باب قبول المعاملة بالمثل إن أراد، أو أن يقبله -هذه المرة فقط- طالما أنه وجد نفسه في نهاية المطاف أكثر تقبلاً للآخر من بعض الذين يتحدثون عن قبول الآخر- كما قال في نفس المقابلة – ومما يلفت النظر إضافة لكل ما هو ملفت، أن يقوم الكاتب بتقديم نفسه على أنه أكثر تقبلاً للآخرين في الوقت الذي يعلن فيه تحفظه الشديد على طريقة استخدامه في الأدبيات الإسلامية، كما لو أنه يجعل المقولة وأصحابها في قفص الاتهام بعد أن يؤصِّلها لغوياً وتاريخياً رابطاً بينها وبين أطروح هيغل " ديالكتيك السيد والعبد " وبين الترويج الإعلامي المصاحب للاستعمار الماحق للهويات، مع حرصه في الوقت نفسه على نسب شرف قبول الفكر الآخر لنفسه أيضاً وفي ذلك تناقضٌ عجيب !
وما يأخذه الكاتب على مفهوم قبول الآخر أيضاً هو خطورته كونه مصطلح فضفاض ومطاط، ولكن هذا ما يحدث مع كل المفاهيم تقريباً، فكلها قابلة لأن تُخرج خارج سياقها، ولا أعتقد أن رفض الآخر – ولو أُخذ بأكثر معانيه إيجابية – يمكنه أن يَشذَّ عن هذه القاعدة، فليس غريباً عن قصص التاريخ والواقع أنّ هذا الرفض قد وصل بأصحابه في كثيرٍ من الأحيان إلى إقصاء الآخر انتهاءً بتصفيته لتحقيق الذات، فهل المطُّ في هذا الجانب مسموحٌ بينما يحرَّم المطّ في الجانب الآخر؟! ، ألا وجود لحل وسط بين رؤيتين متطرفتين نستطيع أن نتلمس من خلاله طريقة التعامل بين المختلفين؟ ، أليس من هذه الأمة رجل رشيد ! ألم يصل الأمر بالكاتب في سعيه لتقزيم مبدأ قبول الآخر إلى الإتيان بالأعاجيب حين أراد الحديث عن اليهود الصهاينة وكيف أمسكوا بزمام سلطة الاقتصاد والسياسة والسلاح في هذا العالم، فقال أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه لو أنهم اعتنقوا فكرة قبول الآخر " انظر مقالته : شايلوك يذهب إلى نيويورك، المنشورة في القدس العربي "، فهل يا ترى يرى الكاتب أن تعصّب الصهاينة ورفضهم لكل من هو ليس صهيونياً أمرٌ سليم يحتذى في عملية التقدم والريادة الحضارية، وهل كانت مشكلتنا الحضارية مع قبول الآخر ابتداءً حتى نتخيَّل انطلاق نهضتنا مع بدء رفض الآخرين – على سبيل وعي الذات – وهل ملأت قصص القبول صفحات تاريخنا حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، أم أنه طغت عليه روايات أخرى لها لون مميز ورائحة لا تنسى خاصة في لحظات التقهقر والانحدار ؟!
ألم يقع فيما يحذر منه من الشطط – الذي يقع به أصحاب قبول الآخر على حد تعبيره – حين وصل به رفض المقولة إلى الاستدلال بعنصرية " الصهاينة " ورفضهم للآخر؟! أم أنّ الكاتب قرّر " قبول " فكرة رفض الآخر من " الآخر " الصهيوني، لما يجده فيها من مركزية في هرم النهضة؟! ألا يعتبر هذا قبولاً للآخر بشكلٍ من الأشكال، ولكن أية فكرة قبلناها من ذلك الآخر، وأيُّ آخرٍ هذا !! ترى أين يضع الكاتبُ " هؤلاء الذين قبل منهم عقيدتهم الإقصائية " ضمن قائمة أصناف الرأي الآخر – الأصناف التي أشار إليها في مقابلته - ، وهل يا ترى عاملهم بناءً على انتمائهم الواضح وهويتهم المحددة أم بناءً على كونهم يظهرون ما يبطنون، أم أن للكاتب اعتباراتٍ أخرى لها علاقة بلون الشعر الذي يشدّد عليه كلما اقتضى الأمر؟!
أرى أن استنتاجاته كلها تخرج من رحم مقولة واحدة يعبر عنها الكاتب في نفس مقالته عن الصهاينة : " الهوية هي الضحيّة الأولى التي تقدم على مذبح قبول الآخر " وهذا الكلام يعيدنا إلى ما قلناه حول الفرق بين قبول الآخر وبين اعتناق فكره، بين انمساخ الذات بصورة تشبه صورة الآخر وبين مسخ الوطن في طريق مسخ العالم بكل تنوعه على صورة ال " أنا " المتضخمة التي لا ترى في هذا العالم سوى لوناً واحداً وفكراً أحادياً طاغياً .. ختاماً أرجو أن أكون قد قدمت في مقالتي هذه مفهوماً ورأياً واضحين فيما تعنيه لي مسألة القبول، وآمل أن أكون قد وفقت في إيصال صورة جيدة عن قبول فكرٍ آخر وهو الذي يمثله المقال بصفته هو " الآخر " هذه المرّة، وهو قبول – حسب رأيي – يعترف بالآخر وبفكره كجزء أساسي من نسيجنا الثقافي، قبولٌ لا يتغاضى عن نقد ما نراه بحاجة إلى نقدٍ وتوضيح، بما يحقق التعايش – على بيّنة- بين فكرين مختلفين دون أن يقصي أحدهما الآخر، كما أرجو أن يجد نقدي التفهم من الطرف الآخر، فإن لم يكن على سبيل " قبول الآخر الذي لا يعتقد به الكاتب "، فليكن – إن أمكن – على سبيل تفهُّمه لحقي أو لواجبي – لا فرق بين الاثنين هنا - في التصدي لبعض الأفكار طالما أن الزبد – كما نعلم جميعاً - لا يمكن أن يذهب من تلقاء نفسه، فلا بد للمؤمنين بالفكرة من التوضيح دفاعاً عما يعتقدونه سليماً إلى أن يظهر الله الحق ويزهق الباطل عملاً بالآية الكريمة التي يعبِّر البعض عنها بنظرية الزبد : " كَذَلِكَ يَضْرِب اللَّه الْحَقّ وَالْبَاطِل فَأَمَّا الزَّبَد فَيَذْهَب جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنْفَع النَّاس فَيَمْكُث فِي الْأَرْض كَذَلِكَ يَضْرِب اللَّه الْأَمْثَال " الرعد17 هذا الزبد الذي أراه الآن على صورة فكرة " رفض الآخر " وما يقرِّب إليها ويزيّنها من محاولاتٍ لتشويه مفهوم " قبول الآخر" وتحريف دلالاته ... أما نظرية الزبد نفسها وما يثار حولها من لغط، فيحتاج منّا وقفة أخرى، ربما في مقالٍ آخر! 
ـ عماد العبارـ