الأحد، 15 أبريل 2012

الرهان على ثقافة التنوير

للثقافة والفكر دور أساس في صياغة حياة الأمم وتشكيل واقع المجتمعات. فالثقافة الحية السليمة تجعل الأمة في واقع سليم، بينما الثقافة المريضة المتخلفة تدفع بالأمة نحو هاوية التخلف والانحطاط. ويشير النص الوارد عن الإمام علي إلى دور الفكر والثقافة في تشكيل رؤى الإنسان وانطباعاته «الأفكار أئمة القلوب»، ولأن القلوب هي مركز المشاعر والأحاسيس فإنها توجه سلوك الإنسان وممارساته فهي «أئمة الحواس».
لقد عاشت المجتمعات الأوروبية في العصور الوسطى تخلفا مدقعاً في مختلف المجالات، ولم تتجاوز ذلك التخلف إلا حينما تحرك المفكرون والمثقفون وأنتجوا وأبدعوا ثقافة تنويرية تحررية، وحينما انتشرت وسادت الثقافة التنويرية في المجتمعات الأوروبية أنقذتهم من حياة التخلف، التي فرضها الاستبداد السياسي بالتحالف مع رجال الكنيسة، لقد صنعت الحركة التنويرية والعقلانية واقعاً جديداً، وحياة أخرى في أوروبا. وبالعودة إلى تاريخنا العربي، يدرك الجميع مدى الواقع البئيس الذي كانت تعيشه الأمة قبل ظهور الاسلام، لكن الثقافة والهدي الذي جاء به نبينا محمد، هو الذي أنقذ الأمة من ذلك الواقع الجاهلي المتخلف، وسار بها نحو طريق التقدم والرقي.
تعيش مجتمعاتنا العربية اليوم حالة مخاض وصراع، بين ثقافة تريد الحفاظ على حالة التخلف، وبين ثقافة جديدة تدفع نحو النهوض والتقدم. إن وضعنا كمسلمين يختلف بالطبع عن وضع الأوروبيين، ذلك لأننا لا نعاني من مشكلة في جوهر ديننا، وإنما نعاني مشكلة في طريقة فهم هذا الدين. هناك فهم سيء للدين في بعض الأوساط، وهناك خرافات وأوهام وعادات وتقاليد سارت عليها وتوارثتها أجيال الأمة، هي التي تجعل الامة أسيرة لواقع التخلف والانحطاط، بينما تتجه الأمم الأخرى إلى طريق العلم والتقدم في مختلف المجالات. وإذا كان هناك من رهان على مستقبل لهذه الأمة، فإنه يتمحور حول الثقافة التنويرية التي يجب أن تسود في مجتمعاتها.
هناك في الساحة من يرفض أي تغيير ثقافي، حرصاً منه على مصالحه المرتبطة بالواقع المتخلف. وتعد بلادنا من الساحات التي تعاني من سيادة ثقافة متشددة ترفض الانفتاح، وترفض التغيير، والسير في مسارات النمو والتقدم. وما دامت هذه الثقافة هي السائدة فإن واقع بلادنا لا يمكن أن يتغير ويتقدم.
لكن هناك بشائر أمل تتمثل في بروز أفكار تنويرية تعيد النظر في الفهم التقليدي السائد للدين، والنأي عن الفهم الذي جعل من الدين حارساً للاستبداد والتخلف، وسبباً للنزاعات والخصومات بين المذاهب وأتباع الديانات والأمم الأخرى، ومنع الأمة من الاستجابة للتقدم والنمو في مختلف المجالات، وكما هو الحال في كل التاريخ البشري، فإن الثقافة المتجذرة لا تستسلم بسرعة، ولا تخلي مكانها للثقافة الجديدة، بل تتشبث بوجودها لأن هناك قوى مصلحية تستفيد من ثقافة التخلف.
لقد جسّد معرض الكتاب الدولي بالرياض جانباً من الصراع بين قوى التنوير والتخلف في مجتمعنا. فمعرض الكتاب الذي انتهى الجمعة الماضية، بعد أن استمر لعشرة أيام، يعد فرصة كبيرة للانفتاح على الثقافة والعلم والآراء الأخرى، حيث أصبح من أقوى وأنشط المعارض في البلاد العربية، لكن هناك تياراً من المتشددين الذين يرفضون الانفتاح لخشيتهم من الفكر والرأي الآخر، ولهذا حاولوا جهدهم أن يمنعوا تنظيم هذا المعرض ويعوقوا ارتياده، وقد أصدر أكثر من 74 ممن ينتمون إلى هذا السلك من العلماء والدعاة بيانا دعوا فيه لمقاطعة المعرض، واعتبروا اقامته من أعظم المنكرات، بل كان بعضهم يخطط لخلق المشاكل داخل المعرض، لولا الاستعانة بأعداد كبيرة من رجال الأمن الذين تواجدوا داخل المعرض، لم تنجح محاولات المتشددين في التشويش على المعرض الذي بلغ عدد زواره ما يقارب المليوني زائر، وبلغت مبيعات الكتب فيه أكثر من 40 مليون ريال، وشاركت فيه أكثر من 450 دار نشر من مختلف دول العالم، ذلك بالرغم من شكاوى كثير من الزائرين من وجود بعض القيود والمشاكل، التي صاحبت تنظيم المعرض، خصوصاً لجهة منع كتب المذاهب الاسلامية الأخرى، وهذا يكشف لنا جانباً من طبيعة المعركة الدائرة بين التنوير والتخلف.
تعاني بلادنا من وجود سدنة للتخلف وحراس للاستبداد. وهؤلاء لا يريدون للأمة التقدم، ويرفضون الانفتاح على الآخر، ويمارسون الهيمنة والاستبداد الفكري. والأنكى من كل ما سبق اصرار هذه الفئة المتشددة على ربط الناس بثقافة التشدد والاستبداد التاريخي، فلازالوا يحاولون ربط المجتمع بالشخصيات المستبدة في التاريخ.
هناك شخصيات تاريخية مختلف عليها بين السنة والشيعة، لكن هناك في المقابل شخصيات متفق على سوء سيرتها بين المؤرخين والمحدثين والعلماء في كل المذاهب، لكن مع ذلك تصر هذه الفئة المتشددة على إحياء ذكر هذه الشخصيات المستبدة، ويجهدون في تلمس الأعذار لأخطائها وطغيانها. ذلك لأنهم يريدون للناس أن ترتبط بهذه الشخصيات الظالمة، وإلا فما مبرر إحياء ذكر وسيرة يزيد بن معاوية، وهل يستحق هذا أن يقدم كنموذج للشباب خصوصا وقد اُتفق على فساده وسوء سيرته، حتى مع تردد البعض في المجاهرة بلعنه، فقد افتتحت في هذا العام في مدينة الرياض مدرسة ثانوية بعنوان ثانوية يزيد بن معاوية!، وكأن هؤلاء لم يجدوا شخصًا أفضل منه!، فأي تخلف وأي استبداد ذلك الذي يريد هؤلاء ربط الناس به.
وقد أثار هذا التوجه نحو تمجيد بعض الشخصيات التاريخية السيئة بعضا من مثقفي البلاد. فقد كتب الأستاذ عبدالله فراج الشريف ناقدًا لهذه الحالة في مقاله في جريدة البلاد بتاريخ 11/2/2012 تحت عنوان "وليزيد بن معاوية مدرسة! "، جاء فيها: في هذا العام تأسست مدرسة ثانوية في عاصمة الوطن "الرياض" في حي الحزم على امتداد شارع حمزة بن عبدالمطلب، واختير لها اسم هو "مدرسة يزيد بن معاوية" الملك الثاني الأموي، الذي نعرفه جميعاً، وما أثير حول سيرته أثناء فترة ملكه التي استمرت أربع سنوات، وكانت من أكثر فترات التاريخ الإسلامي دموية، والذي قال عنه الإمام الذهبي في سير النبلاء: «كان قوياً شجاعاً، ذا رأي وحزم، وفطنة وفصاحة وله شعر جيد، وكان نصابياً، فظاً، غليظاً، جلفاً، يتناول المسكر، ويفعل المنكر، افتتح دولته بمقتل الحسين، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يبارك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين، كأهل المدينة قاموا لله، وكمرداس بن أُديّة الحنظلي البصري، ونافع بن الأزرق، وطواف بن معلى الدوسي، وابن الزبير بمكة، وروي أن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز عند ما ذكر رجل عنده يزيد فقال: أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، أمر بضربه عشرين سوطاً»، ثم نقل قول ابن كثير أيضاً وكلاهما من العلماء المقبولين عند السلفيين يقول: «وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم أو الحلم، والفصاحة، والشعر والشجاعة، وحسن الرأي في الملك، وكان ذا جمال وحسن عشرة، وكان فيه إقبال على الشهوات وترك الصلوات في بعض أوقاتها، وإماتتها في غالب الأوقات». كل هذا الكلام عن يزيد بن معاوية!، ثم يقول الكاتب في آخر مقاله: «والسؤال موجه لوزارة التربية والتعليم من كانت هذه سيرته ما الحكمة في أن يعلو اسمه هامة إحدى مدارسنا، مع أن في الأخيار من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم وأفذاذ العلماء غنية عن مثله، ولنا أمل أن تسمى هذه المدرسة باسم أحدهم». والأكثر من ذلك، قامت إدارة المدرسة بتدشين موقع على الانترنت كله دفاع عن يزيد! وما هذا إلا لإرادة توجيه الناس نحو الارتباط بسيرة يزيد بن معاوية وأمثاله من الظلمة الجبارين.
وعلى غرار ذلك كتب الدكتور خالد بن صالح السيف المحاضر في جامعة الإمام محمد بن سعود قي القصيم قسم الثقافة الإسلامية منتقدا تمجيد الشخصيات التاريخية السيئة. فقد كتب السيف في جريدة الشرق الصادرة بالدمام بتاريخ 22/3/2012م، حول الشخصية التاريخية خالد القسري تحت عنوان «من أحب خالدًا الفاسق فهو السلفي ومن أبغضه فهو جهمي بدعي»، وعرّف الكاتب بخالد القسري ناقلاً عن تاريخ الطبري من خطبة خالد القسري عندما كان واليا على مكة وقد توعد أهل مكة بالصلب وهدم منازلهم إذا خرجوا عن طاعة الحاكم، ومما جاء في خطبته «عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة وإياكم والشبهات فإني والله ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم. إن الله جعل الخلافة فيه بالموضع الذي جعلها فسلموا وأطيعوا ولا تقولوا كيت وكيت. إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاؤه، واعلموا أنه بلغني أن قوما من أهل الخلاف يقدمون عليكم ويقيمون في بلادكم فإياكم أن تنزلوا أحدا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة فإني لا أجد أحدا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله فانظروا من تنزلون في منازلكم وعليكم بالجماعة والطاعة..». ثم يقول الكاتب: «ولمن لا يعرف خالدًا هذا لزاماً عليه الإطلاع على ما دون بحقه، إذ قال عبدالله بن أحمد بن حنبل؛ سمعت ابن معين يقول: خالد بن عبدالله القسري رجل سوء يقع في علي. وأخبر الأصمعي: أن خالدا القسري ذم بئر زمزم، وقال أبوعاصم: سمعت عمرو بن قيس يقول: لما أخذ خالد سعيد بن جبير وطلق بن حبيب، خطب فقال كأنكم أنكرتم ما صنعت، والله لو كتب إلى أمير المؤمنين لنقضتها حجرا حجرا يعني الكعبة!».
وهكذا نقل جرائم وفظاعات القسري، ثم يقول الكاتب: «ألفينا: «القسري» يحتل من الصندوق ـ السلفي ـ مكاناً رضيا! إذ بات مبغضه معدوداً فيمن كان في قلبه مرض ذلك أنه لا يحب خالداً إلا: «مؤمن/ سلفي» في الحال وفي المآل؛ في حين يطال الالتياث توصيفاً بـ: «الجهمي» البدعي من أبغض خالداً جراء أفعاله!
ثمة دين في رقابنا أوجزه بما يلي: يجب أن نصفي حساباتنا مع المظلم من تأريخنا وأن ننزع من قلوبنا «خوف» التاريخ وسوقه.
ومتى نفقه: أن من القرآن وصحيح السنة وحدهما يجب أن تؤخذ العقيدة الحقة فحسب لا من «التأريخ» وصراعات ساسة الملك العاض من بني أمية ومن الذين جاؤوا من بعدهم من الخلوف».
إذا هذا الصراع المكشوف يجري اليوم بين الثقافة المتشددة التي تريد الانغلاق وتبحث عن الخصومات وربط الناس بالجانب المظلم من التاريخ الإسلامي، وبين ثقافة جديدة تنويرية تدعو إلى التسامح والانفتاح والرقي والتقدم، والرهان في نهاية المطاف على هذه الثقافة الجديدة.
---------
  الشيخ حسن الصفار