الاثنين، 30 يوليو 2012

حوار مع الشيخ حيدر حب الله حول الحراك الجماهيري، قراءة في مستقبل الإصلاح والتغيير في الأمّة

البصائر: بدءاً، تشهد الساحة العربية والإسلامية حراكاً جماهيرياً يطالب بالتغيير على المستوى السياسي، وهذا الحراك ربما يعبر عنه بالاحتقان الداخلي، والنتائج التي حقّقها هذا الحراك الإطاحة بنظامي ـ تونس ومصر ـ جثما على صدر الأمّة عقداً من الزمن، لم تشهد الساحة العربي والإسلامية خلالها إلا الظلم والاستبداد والتقهقر. السؤال هو: كيف تقرؤون هذا الحراك الطالب بالتغيير من حيث دلالات شموليّته للعالم العربي، ومن حيث تأثير العامل الدولي، وما هي نتائجه المستقبليّة؟

 أعتقد أنّ العناصر المبرّرة والدوافع الكامنة خلف الحركة الثورية الأخيرة في عالمنا العربي لا تقف عند حدود هذا البلد العربي أو ذاك؛ لأنّها مشتركة، مع الحفاظ على الخصوصيات هنا وهناك، مما يعطّل بعض العناصر هنا لصالح عناصر أخرى والعكس هو الصحيح.
ولو عدنا قليلاً إلى بعض هذه العناصر لوجدناها على نوعين:
1ـ الدوافع الراجعة إلى تردّي حال الداخل العربي والوطني على الصعد السياسية والاقتصادية، وعلى مستوى الحريات وقضايا الأمن والشباب وغير ذلك.
2ـ الدوافع الراجعة إلى تردّي الموقف العربي والوطني إزاء القضايا الكبرى التي تهمّ الأمة وسيادتها وكرامتها وعنفوانها، وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينية.
عندما تكون المبرّرات مشتركةً بين بلداننا العربية، فمن الطبيعي أن تترك الحركة في مصر وتونس تأثيراتها على مجمل هذه البلدان. إنّ فشل القومي والعروبي والقطري في تقديم أنموذج سليم في التجربة العربية دفع نماذج أخرى للظهور بهدف صيرورتها بديلاً عن الوضع القائم المتردّي، وإذا كان الأنموذج السلفي لم يقدر على اجتذاب الشارع العربي في تجربته السلطوية، نظراً لما رآه المواطن العربي في تجربة طالبان وباكستان وغيرها من انتكاسات وتداعيات وفشل على مستوى بناء الجماعة والأوطان، وإذا كان الأنموذج الصوفي ـ إذا صحّ التعبير ـ لم يقدر على تحسين أوضاع السودان، ولا أخرج المغرب الإسلامي من مأزقه، فإنّ المجتمع العربي اتجه فترةً للأنموذج الإيراني بعد أن رأى بعض منجزاته، لاسيما على صعيد القضايا الكبرى للأمة.
ويبدو لي أنّ النفخ في النيران الطائفية قد ساعد على تضعضع الصورة الحسنة للأنموذج الشيعي ـ إضافة إلى مشكلات داخليّة خاصّة ـ فتراجع تأثيره بشكل بارز في الفترة الأخيرة، وشكّل الملفّ العراقي مادّةً دسمة ومركزاً خصباً لبناء جدار الفصل بين المجتمعات العربية من جهة وهذا الأنموذج الجديد من جهة ثانية، ساعد على ذلك بعض المظاهر السلبية التي أبداها هذا الأنموذج في السنوات الأخيرة عن نفسه، لاسيما بعد الانتخابات الأخيرة في إيران..
إنّ تراجع سلسلة نماذج كانت لها ريادتها من القومية إلى القطرية إلى السلفية إلى الصوفية إلى الشيعية السياسية، أو بناء المعوقات أمامها، أدّى إلى حركة شعبية في الوطن العربي لا تنطلق من خلفية هذه الأيديولوجيات، وتحاول أن تفرّ من شيء إلى شيء لم تجده في جميع أو أغلب هذه التجارب، وهو قضايا الإنسان اليومية وحاجاته الأساسية من الحريّات والتعددية والحقوق والمشاركة في القرار والموقف، والتوزيع العادل للثروة وتخفيف حدّة الشرخ الطبقي القاتل و.. إنّ أغلب هذه النماذج لم يوفر استجابةً حقيقية وعميقة لهذه الحاجات؛ لهذا لجأ الشباب العربي لصرخة تعرف ما لا تريد لكنها حتى الآن لا تعرف ماذا تريد؛ لأنها لم تختر بديلاً واضحاً يمكن بناء الوضع عليه، من هنا لاحظنا سعياً غربياً للاستفادة من مشهد الفراغ الأيديولوجي هذا ربما لتكريس ما يشبه الأنموذج التركي المعتدل الذي يقدر على تلبية الحاجات العاطفية والدينية للشعوب العربية مع حدّ معقول من الرجولة السياسية في القضايا المتعلّقة بفلسطين المحتلّة، إلى جانب إسلامية معتدلة تتعاطى الديمقراطية وتستطيع التعايش مع أشدّ أنماط العلمانية تطرّفاً.
هنا يظهر العمل الدولي في اشتغاله على سَوْق هذه الحركات الشبابية الناهضة نحو نماذج في الحكم والتغيير تنسجم مع المصالح الكبرى للدول الأجنبية والكيان الغاصب، وأعتقد أنه إذا لم يشتغل أصحاب المشروع الإسلامي الحركي على نقد ذاتي جادّ ليخرجهم من مجموعة المفاهيم القاتلة في الاجتماع الإسلامي، فسوف يزداد الشرخ بين الشارع العربي والحركة الإسلامية بالمعنى العام، ما سيعزّز النفوذ الإسلامي المتطرّف أو النفوذ الليبرالي المشبوه، ويزيد من صعوبة الموقف في المستقبل.

البصائر: الأيقونة المستجدّة: (الشعب يريد تغيير النظام) تفتح الباب على جملة أسئلة، ما يتصل بسياق الحوار هو مقاربة مفهوم (الإصلاح) الذي بات يقترب من الثورة، أو ما يتداول في أدبيات النهضة من الإصلاح الشمولي الجذري. كيف تنظرون لعمليّة الإصلاح من حيث المفهوم ومن حيث إمكانه؟

الإصلاح حاجة طبيعية متكرّرة تتطلّبها حياة الفرد والجماعة باستمرار؛ وفاءً للديمومة وتواصل العيش، يتخذ الإصلاح شكلين أساسيين عادةً: أحدهما عندما يتراجع المستوى الميداني لأداء الفرد والجماعة بسبب انحرافات حصلت أو اكتشاف خطأ ما في الرؤى والأفكار، أما النوع الثاني من الإصلاح، فلا يختزن بالضرورة فرضية وجود مرض ما في مكان ما في حياة الفرد والجماعة، فعندما تتطوّر الحياة وتتعقّد تحتاج الرؤى والأفكار والممارسات إلى إصلاح، بمعنى أن نسقها القديم لم يعد كافياً فصار لابد من إجراء تعديلات فيها يُقدرها على الاستجابة الصحيحة للمتغيّرات.
يعتقد كثيرون منّا أنّ الإصلاح والتجديد يختزنان صورة سلبية مفترضة عن الذات الفردية والجماعية، وحيث تكون الذات هذه هي التراث والتاريخ والعمق الحضاري للأمّة، سيعني مشروع الإصلاح افتراضاً نقدياً لهذا التراث وتمرّداً عليه ورغبةً في كشف عورته.. القضية ليست كذلك دائماً، فقد يكون التاريخ والتجربة والموروث الديني والاجتماعي وغيرهما ناجحاً، لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة قدرته على تحقيق النجاح في اللحظة التاريخية المعاصرة، هذا ما يفرض إعادة بنائه أو إجراء تعديلات عليه، إما بحذف جزء أو بإضافة آخر أو بإعادة تنظيم الأجزاء ومواقعها في الخارطة العامّة.
يمكن الاشتغال على الإصلاح بهذين المديين له دون أن يجرّ ذلك إلى وضعنا قهراً في مواجهة وجودية مع التاريخ والتراث، لكنّ إمكانات هذا الموضوع تظلّ عسيرةً؛ لأنّ الإصلاح هنا سيعني تلقائياً أنّ مواقع السلطة في الاجتماع العربي والإسلامي والتي تبلورت على أساس الوضع السابق، سوف تتعرّض تلقائياً للاهتزاز بفعل تغيير الأفكار والممارسات والأهداف ولو تغييراً جزئياً معقولاً، الأمر الذي يضع حركة الإصلاح أمام مواجهة مباشرة مع السلطة.. إنّ جرّك إلى هذه المواجهة قهريٌ ولا يمكنك الفرار منه..
لو أخذنا حركة الأنبياء لوجدنا كيف وضعتهم في مواجهة مباشرة (وجودية) مع الملأ بالمفهوم القرآني، وهم السلطة المالية والسياسية والدينية بمفهومنا المعاصر.. وعندما تكون في مواجهة السلطة فمن الطبيعي أنك ستقف في موقع الذي لا يملك الإمكانات التي تملكها السلطة، وبتعبير آخر لا تملك حصّة السلطة في الوجود؛ لأنّ سلطويتها جاءت من إمساكها بمفاصل القوّة في المجتمع، وهي القدرة والمال والنفوذ الروحي.. وعندما يشتدّ الصراع بين الطرفين ستجد السلطة نفسها مضطرّةً للقمع والكبت والحسم، مما يفرض المنطق الثوري حينئذٍ، أي الإصلاح الشمولي والجذري الذي يمكّن المصلحين من تحقيق نتائج تماماً كما في المواجهة الحادّة بين الأنبياء ومللهم حيث كان ضرب الأساس الاعتقادي بمثابة إعلان حرب شاملة على كلّ مواقع السلطة التي تعتاش على هذه العقيدة.
لا أريد أن أميل لفكرة الحلول الجذرية؛ لأنني أعتقد ـ فقهياً ـ أنّ هذا النوع من الإصلاح في الداخل الإسلامي يمثل الاستثناء لا القاعدة، وهو موضوع يتصل بمعالجة فقهية مطوّلة للمسألة لسنا بصددها الآن، لكنّني أريد الإضاءة على أنّ الإصلاح الجذري قد تندفع الأمّة إليه بطريقة غير مدروسة، وبتعبير آخر ليس للثورة لحظة مقرّرة من قبل، إنّها لحظة ذاتها التي لا يمكن التنبؤ بها على وجه الدقّة دائماً.

البصائر: عندما نتحدث عن ضرورة الإصلاح في الأمّة فذلك يستدعي وجود مبررات تستدعي ذلك الإصلاح، وأيضاً يستدعي وجود قدرة عند مجتمع ما.. على ممارسة الإصلاح. وأيقونة (الشعب يريد تغيير النظام) تتجه رأساً نحو الإصلاح السياسي من خارج قوانين اللعبة السياسية المعتمدة… فهل يعني ذلك أنّ مجتمعاتنا تجاوزت الإصلاح الثقافي؟

يؤسفني القول بأنّ الأمة كانت تتجه في الستينيات والسبعينيات ثم في التسعينات نحو إصلاح ثقافي، إلا أنه باء بالفشل؛ ولأنّه كذلك، لا نجد ديناميات أيديولوجية أو ثقافية تحرّك المشهد الثوري في عالمنا العربي اليوم، وإن حاول كثيرون اعتبار هذا المشهد امتداداً لهم، مع الإقرار بأنّ مفاهيم الديمقراطية والحرية و.. تعبّر عن رؤية ثقافية ما.
هل يتقدم الإصلاح الثقافي على السياسي أم العكس هو الصحيح؟ لكلّ واحد من الخيارين سلبياته وايجابياته، فتقدّم الإصلاح السياسي على الثقافي قد يفضي إلى فرض أفكار الأمر الواقع، وهي أفكار وإن اتسمت بالواقعية حيث تستجيب للواقع لكنّها تظل الأمر الثانوي المتفرّع على الواقع دون أن يصنع واقعاً.. فهناك فرق بين أن تصنع واقعاً وبين أن يصنعك الواقع، لقد كانت هناك إمكانية في لحظة ما أن تنتقل الأمة من مرحلة إلى أخرى انتقالاً واعياً، إلا أنّ سوء إدارة الأنظمة والسلطات السياسية وغيرها فوّت علينا هذه الفرصة التاريخية التي تعالج مشكلات الأمة بدون حاجة إلى عمليات جراحية.
لكن ثمّة مصلحة تكمن خلف تجاوز الإصلاح الثقافي، وهي ولادة المثقف من جديد، فقد بات عالمنا العربي يشهد غياب المثقف النهضوي والعلمي لصالح المثقّف المقاول، كما يحبّ بعض علماء الاجتماع العرب أن يسمّيه، وأظنّ أنّه لا يجوز منح هذا النوع من المثقف موقع ريادة نهضة الأمة؛ لأنّ المثقف المقاول أو المنفعي ليس جديراً ولا أهلاً لإطلاق مشروع إصلاحي في الأمة؛ لهذا تركته الأجيال الشابّة، ففي الغرب الحديث كان المثقف إلى جانب الشاب يتناغمان في أيقونة التغيير والصيرورة، لكن عندما يرى شبابنا العرب مخملية مثقفنا وتعاليه وجلده لمجتمعه وإجادة التلاعب بالأفكار لمصالح شخصية، فلن يكونوا على استعداد لفعل شيء من أجل أفكاره.
ربما نحن بحاجة إلى ثورة مؤمنة شبابية داخل الجسم الثقافي تطيح بالأصنام المتكلّسة التي باتت تحكم حياتنا الثقافية والدينية معاً.

البصائر: الآمال أصبحت كبيرة منذ شرارة ( بو عزيزي) لكنّ التعقيدات التي تشهدها المجتمعات العربية من الحالة القبلية والطائفية وضعف مؤسّسات الدولة والمجتمع المدني، ومن كونها موضع تأثير وتجاذبات الدول الكبرى، فإنّ عوامل القلق أيضاً كبيرة، السؤال عن التحديات الأساسية التي تواجه الحراك التغييري وسبل تخطّيها؟

تبدو مخاطر الحالة القائمة من عدة نواحٍ، فنحن من جهة لا نجد قيادة ذات تجربة في العمل السياسي أو النهضوي، الأمر الذي يجعلها عرضة لأحد أمرين: إما الاندفاع السطحي الحماسي نحو خيارات مدروسة أو الذوبان في مشاريع الآخرين دون إحساس بذلك ممّا يعرّض منجزات الثورة للاضمحلال، ومن ثم فنحن أمام مصيرين: إما التطرّف والجمود المكْلِفَين أو التلاشي والفشل. وهذا ما يفرض مساهمة العلماء والمثقّفين الناضجين في مشروع دعم هذه الثورة وترشيدها دون ممارسة وصاية عليها، إنّ مسؤولية العلماء والمثقفين تكمن في هذه المرحلة في التواصل مع الحركة الشبابية لتبادل الرؤى والأفكار معها أو مدّها بما ينفعها من إرشادات وأفكار.
وأذكر هنا مشاركة السيد محمد باقر الصدر في تدوين دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، فإنّ هذا العالم المثقف لم ينتظر من الحركة الثورية أن تطلب منه المساعدة أو مدّ يد العون، وإنما قام من تلقاء نفسه بالمشاركة وقبل انتصار الثورة في الترشيد الثقافي والديني دون أن يسأل عن إمكانات استجابة الفريق الآخر له في رؤيته الفكرية هذه، لاسيما ونحن نعلم أنّ بعض الأجنحة لم تكن على صلة جيدة به، لكنّ هذا لم يمنعه من العمل من موقع المسؤولية.. إنّ مسؤولية علماء الدين والمثقفين الواعين اليوم أن يكتبوا ويتكلّموا أو يعبّروا ويساهموا ولو لم يُطلب منهم في أيّ موقف أو قضية من القضايا التي تهمّ الحركة الشبابية دون أن يتعاطوا معها بمنطق الوصاية أو على طريقة الأب القاهر.
المشكلة الأخرى التي نلاحظها اليوم هي دخول بعض التيارات الدينية المتطرّفة على الخطّ مستفيدةً من الحالة القائمة، ونحن نعرف أنّ هذه التيارات المتطرّفة لا تؤمن حتى بأصول الحركة الشبابية هذه، مثل الديمقراطية والتعدّدية والمجتمع المدني ومنطق المؤسّسات؛ لأنها تعيش على الفردية والاستبداد وتنتفع من الديمقراطية للوصول إلى مآربها حتى إذا بلغتها نحرت الديمقراطيةَ نفسها.. هذا الخطّ يتهدّد الحركة الشبابية إذ إما أن يصادرها أو تنجرّ إلى التصادم والاصطراع معه، وعلى كلا التقديرين نحن أمام مشكلة جديدة، إذ قد تكون الغلبة للتيار المتطرّف؛ لأنّ مواجهته قد تجعل القاعدة الشعبية تشعر أحياناً ـ نتيجة عدم وجود وعي ديني متقدّم ـ بأنّ الحركة الشبابية تقف ضدّ الدين، وهو عنوان سيشكل وصمة عار لهذه الحركة في مجتمعاتنا ذات الطابع الديني المحافظ.
مشكلة أخرى في هذا السياق هي الاندفاع نحو تمثل الأنموذج الغربي بطريقة غير منسجمة مع الأصول العقدية والتراثية والحضارية لأمّتنا، ممّا يضع التجربة أمام حالة التبعية للغرب، لذا من الضروري أن تبدي الحركة الناهضة شكلاً معتدلاً ومعقولاً من أشكال الممانعة والخصوصيّة لا يفضي إلى تقوقع، ولا يعزلها عن التواصل مع الغرب بوصفه مركزاً من مراكز العلم وحضارةً للحظة الحاضرة.

البصائر: الروح الجديدة (الشبابية) طرحت تساؤلات عن الريادة وصناعة المبادرة بين النخبة والشباب، وأعادت الاعتبار للعمل الجماهيري الشعبي.. بيد أنّ ظاهرة بعض المجتمعات، خصوصاً في الشريحة الشبابية أنّه يعيش حالة من اللا اهتمام بالشأن العام والروح التغييريّة.. ما رأيكم بذلك وما السبيل لخلق تحوّلات في اهتمام الشباب في العالم العربي والإسلامي نحو مسؤولية الإصلاح؟

يحتاج هذا الأمر إلى تغيير ما في نمط الحياة والتفكير، سآخذ مثالاً فبعض مجتمعاتنا ما زال تفكيرها الديني سكونياً، إنها تثور لحدث طقسي بسيط قد يفضي إلى جرح نرجسي، لكنها لا تتحرّك إزاء أكبر قضايا الأمّة، ما هو السبب؟ أحد الأسباب هو نسق الوعي الديني الذي لم يراعِ منطق الأولويات، فقدّم ما حقّه التأخير وأخّر ما حقّه التقديم، إذاً فنحن بحاجة في بعض المجتمعات المحكومة لنسق التديّن التقليدي إلى حفر معرفي جديد لتغيير الوعي؛ لأنّ بعض أشكال التديّن التقليدي ذات نمط تعطيلي، فليست الجبرية هي الاتجاه التعطيلي الوحيد في الأمة، بل هناك التيارات التي تتخذ من الطاعة أساساً للتديّن، إنّ هيمنة فكرة الطاعة بشكلها المفرط في بعض النظريات عند هذا المذهب أو ذاك قد سدّ الأفق أمام حياة نقدية وأما منطق الشورى والنصح للحاكم.. إنّه منطق تعطيلي؛ لأنه يعطّل دور الأمة في المشاركة السياسية بل في الحياة السياسية عموماً.. من هنا أظنّ أننا بحاجة إلى إصلاح ثقافي في بعض هذه المجتمعات كي يوفّر المناخ المحيط لولادة فاعلية شبابية..
الأمر الآخر هو نمط العيش ودخول بعض مجتمعاتنا العربية ـ وهي تعيش الأمن والاستقرار ـ في النمط ما بعد الحداثوي للحياة، إنّه نمط يقصّر من مدى النظر، ويجعل منتهى الآمال في أن يلبس بطريقة خاصة أو يعيش كالفنّان الفلاني أو ينشغل بمتابعة الرياضة الفلانية بطريقة إفراطية.. هذه الثقافة السطحية تلعب وسائل الإعلام العربية أكبر الأثر في خلقها، إنّها ممتازة في تسطيح الوعي وتعليب الأفكار والأذهان وصناعة العقول الناجزة، مما يحوجنا إلى نهضة في وسائل الإعلام تقدر على تغيير نمط الوعي وإيجاد تحوير في المثل ـ القدوة التي تصنع لشبابنا اليوم.
ومن الضروري أن نشير إلى أمر، وهو أن لا تأخذنا الحماسة لاستنساخ تجربة مصر وتونس في كلّ البلدان العربية قبل دراسة مقوّمات وإمكانات وظروف كلّ بلد، إنّ هذا الخطأ حصل في بداية الثمانينيات بعيد انتصار الثورة في إيران، ثم توصّل قادة الثورة أنفسهم بعد زمن إلى أنّ هذه الطريقة غير صحيحة وأنّ عملية الاستنساخ هذه لابد أن تدرس بدقّة، فليس من الضروري لو نجحت تجربة في مكان أن تنجح في مكان آخر، حتى نقوم بجلد ذواتنا وأجيالنا الصاعدة بحجّة عدم حركتها.

ــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشر هذا الحوار في مجلّة البصائر، العدد 48، عام 2011م

ورقة مفتاحية حول حقوق الإنسان في الإسلام

موضوعة حقوق الإنسان في الإسلام من أكبر الموضوعات الإشكالية التي يواجهها الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، موضوعة شكّلت اليوم أزمةً للفكر الديني من جهة، وللأنظمة الدينية من جهة ثانية، وصارت جزءاً من الأوراق السياسية الخطرة التي تحرّك ـ ولو ظاهرياً ـ الحروبَ ومظاهر الغزو، وتبرّر الأنشطة العسكرية.
ولسنا هنا بصدد طرح رؤية حول موضوعة الحقوق في التصوّر الإسلامي، بقدر ما نريد تسجيل نقاط، نعتقد أنّها دالّة وضرورية، لتطوير الدرس الحقوقي في الثقافة الإسلامية المعاصرة.
1 ـ أوّل إشكاليّة تورّط فيها الخطاب الإسلامي الحديث منذ القرن التاسع عشر الميلادي، كانت إشكالية الخطاب الحقوقي الأيديولوجي التعبوي العام، فكثيراً ما نجد في خطابات الإسلاميين تبجيلاً لحقوق الإنسان في الإسلام، وكلمات من نوع: الإسلام حفظ للمرأة تمام حقوقها، ووضع قوانين شاملة ودقيقة ورائعة لكل حركة من حركات الإنسان، وحفظ حقوق الشعوب، و... وهي كلمات لم تعد ـ بصيغتها هذه ـ نافعةً في توجيه خطاب علمي إسلامي دقيق، يضع النقاط على الحروف.
إن مقولة: الإسلام هو الحلّ، لم تعد تنفع بإطلاقيتها وعموميّتها، سيما بعد فشل تجارب إسلامية عديدة في العالم الإسلامي، لهذا صار المطلوب من المفكّر الإسلامي أن يتعامل بواقعية أكبر، ولغة رَقَمِية أدق، بعيداً عن التهويمات، والإطلاقيات، وثقافة التضبيب.
إنّ الحديث ـ بلغة الإطلاقية ـ عن أنّ الإسلام حفظ حقوق الإنسان، بات يواجه اليوم إشكالية المفردات، إن المثقف المسلم أو الشاب المتطلّع لم تعد تكفيه الجمل الإطلاقية هذه، إنه يقول لك: أيّ حقوق وأنتم تقتلون المرتد لمجرّد فكره؟! وأين هي حقوق المرأة العظيمة في الإسلام ولزوجها الجاهل أن يطلّقها ساعة يشاء ويدمّر حياتها وأسرتها لرغبة جامحة آنية له في امرأةٍ أخرى؟! وأين هي حقوق الشعب وأنتم لا تقبلون برأي الشعب ميزاناً في الحكم وفق بعض النظريات؟!... إنّ هذه الأسئلة جادّة، لم يعد خطاب الأيديولوجيات والتعبوية كافياً لجوابها، أو حتى قادراً على الوقوف بوجهها.
2 ـ من هنا يجب التفكير في وضع صيغة عقلانية أنضج لتكوين خطاب ثقافي موزون، لكن لا يفترض بهذه الحركة نحو إعادة التفكير أن تقع تحت تأثير الهزيمة النفسية إزاء الغرب، كيلا يقع المثقف والمفكّر الإسلامي في استلاب فكري، يخرّ على إثره مغشياً عليه، إنّنا لا نريد أن ننتج النظام الحقوقي الإسلامي في المصانع الغربية، فلكلّ أمّة تراثها وثقافتها، إنّما نريد أن نعيد إنتاج نظامنا الحقوقي مستفيدين من التجربة الإنسانية عموماً، بما في ذلك التجربة الغربية نفسها، وهذا شيء مختلف تماماً عن التبعية والذوبان والاستلاب، ولا يصحّ ـ بدعوى الخصوصية ـ أن نعيش القطيعة مع العالم، بل المفترض أن نوازن بين ما ينتمي للخصوصية وما ينتمي للحاصل المشترك الإنساني العام.
من هنا، نلاحظ على بعض التجارب الثقافية الإسلامية أنّها خلطت بين هذين المفهومين، فذهب فريق إلى الارتماء في أحضان الغرب أو السقوط النفسي والفكري إزاءه، حتّى سمعنا أصواتاً تطالب بالتخلّي ـ جملةً وتفصيلاً ـ عن القانون الإسلامي، ورفع اليد نهائياً عن الفقه وأحكامه، والحديث عن نفي أيّ نوع من أنواع النظام الحقوقي في الإسلام، مطالبين بتبنّي الإعلان العالمي للحقوق دون مناقشة، والانخراط في المواثيق الدولية دون مساءلة أحد أو نقده، وكأن هذه المواثيق نصّ سماوي منزل! وكأن من كتبها استشار الإنسانية بأديانها وأطيافها وحضاراتها وقواها الحقوقية والثقافية! وكأن من كتب هذا القانون كان خارج الإطار التاريخي الذي شهدته أوروبا خصوصاً بعد الحربين العالميتين!...
إنّ الغرب الحقوقي والإنسانوي، قد تقدّم تقدّماً مذهلاً في مشروعه الحقوقي بعد الحرب العالمية الثانية، على صعيده الداخلي، إلاّ أنّ أزمة تعامله مع خارج حدوده الجغرافية ما تزال قائمة، وهذه إشكالية حقيقية في الثقافة الغربية، لماذا لم تشمل الرؤية الحقوقية الإنسانية عند الغرب ما وراء جغرافيا أوروبا وأميركا؟ ولماذا لم تقوَ أصوات مناصري الإنسانيات لوضع حدّ للاستبداد الغربي؟
كما ذهب فريق آخر لدعوى القطيعة التامّة مع النتاج الغربي الحقوقي، بوصفه تقنيناً بشرياً يفتقد صفة الإلهية، ومن ثمّ الشرعية، وكأن العقلاء لا دور لهم في التقنين على بعض الصعد حتى في نظم القانون الديني! وكأن الغرب كلّه استعمار، ونهب، وسلب، وقتل، وفتنة، ولا يوجد فيه أهل رحمة، ولا عاقلون، ولا ..! وكأن الغرب ليس تطوّراً في الاقتصاد، والسياسة، والأمن، والتكنولوجيا، والعلم و...!
هذان الاتجاهان مخطئان بنظرنا، يجب أن نكون أكثر توازناً في الاستفادة من التراث والجديد معاً.
3 ـ لكنّ السؤال الأساسي يكمن ـ عندما نخوض غمار الحياة المعاصرة ـ في ما هي الآلية لتكوين نظرية حقوقية في الإسلام؟ فهناك اتجاهان أساسيان في الثقافة الإسلامية المعاصرة، يختلفان عن بعضهما في منهج اكتشاف النظرية الحقوقية، وفي مكوّنات النظرية أيضاً.
المنهج الأول: ويحاول أن يستخدم منهج الصعود من الأسفل إلى الأعلى، من المفردات الفقهية والقانونية الإسلامية الصغيرة المتناثرة إلى تكوين فقه النظرية، بعد تكميل الصورة الفسيفسائية للمنظومة القانونية، وهو المنهج الذي نظّر له وكان من رادته الشهيد محمد باقر الصدر، نرصد الأحكام الفقهية الصغيرة، وهي التي تكوّن لنا ـ على ضوئها ـ النظرية العامة الحقوقية.
والأولوية في هذا المنهج تكون دائماً لصالح المفردات، والفتاوى، النابعة من ممارسة الاجتهاد الفقهي المدرسي، فيما يُشاد الصرح العُلْوي على هذه المفردات، ويتبع أوضاعها، ويتناسب معها.
المنهج الثاني: وهو المنهج الذي يعكس الصورة، فينطلق من الأعلى ليصل إلى الأسفل، وقد كان من رادته العلامة المغفور له الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وقد اعتقد هذا الاتجاه بأنّ المطلوب أولاً غضّ الطرف ـ للخروج بنظرية حقوقية متكايفة ونفسها ـ عن المفردات، ونتائج الاجتهاد المدرسي، مركّزين النظر على القواعد العامة في التشريع، لا المفردات المتفرّقة، ومعنى ذلك أن تغدو هذه القواعد العامة حاكمةً على المفردات، تكيِّفُها تبعاً لها، لا العكس، أي أنّ مبدأ وجوب العدل المستفاد من الآيات والروايات مثلاً يكون حاكماً على بعض حالات الطلاق التي يراها العقلاء ظلماً، أو يكون مبدأ الأخوّة الإسلامية متقدّماً على بعض الحالات التي قد يراها الفقيه متنافيةً وهذا المبدأ، كجواز غيبة المخالف ولعنه ونحو ذلك.. وأعتقد أن تحديد الخيار بين هذين المنهجين له دوره الكبير جداً في حسم الموقف إزاء قضايا إشكالية اليوم، ونحن لا نبتّ هنا؛ لاحتياجه إلى مجال أوسع.
4 ـ والإشكالية التي أثرناها في النقطة السالفة حول المنهج وضرورة اختياره عن دراسة علمية مثبتة ومستدلّة، لا تقلّ عنها ـ في الأهمية والخطورة ـ إشكالية أخرى، نعتقد أنّها أهم إشكالية اليوم أو من أهمّها، فهناك سؤال كبير يقف يقول: هل يوجد في الفكر الإسلامي والموروث الديني شيء اسمه الحقوق؟! هل مقولة الحقّ دينيةً أم أنّها صنيعة التطوّر الحداثي الغربي؟!
ويقوم هذا التساؤل على التمييز بين الاتجاه الحقوقي في الثقافة، والاتجاه التكليفي فيها القائم على مبدأ الطاعة، ومن ثم يُنظر إلى النص القرآني بوصفه خطاباً من الأعلى، يستبطن تكليفاً وإطاعة لا حقاً ومناصرة، وحتى تلك الخطابات الدينية القابعة في الكتاب والسنّة والتي تشتمل حقاً من الحقوق، لا تحوي خطاباً حقوقياً بقدر ما تحوي خطاباً إلزامياً، فبدل أن تقول الشريعة: للمرأة مثلاً حق كذا وكذا، توجّه الخطاب إلى الرجل وتقول له: يجب عليك فعل كذا مع المرأة، أي أن الطافح على السطح على مستوى الخطاب لغة التكليف والطاعة لا لغة الحق والحقوق.
وهذه القضية أساسية جداً، لأنّها قد تنسف ـ لو ثبتت ـ كل جهود الإسلاميين لبناء نظام حقوقي إسلامي، ولهذا لابدّ من دراستها انطلاقاً من عناصر متواشجة وكثيرة، ليس آخرها رصد مسألة طبيعة اللغة الدينية، ومكوّناتها الخاصّة، وخصوصية المتكلم الحكيم سبحانه وتعالى وأمثال ذلك، كما ليس آخرها أيضاً رصد تجارب الإنسانيين المسلمين عبر الموروث الإسلامي، ومتابعة موضوع الأنسنة في الثقافة الإسلامية، متابعة علمية محايدة، كتجربة المفكر الجزائري محمد أركون في كتابيه نزعة الأنسنة، ومعارك من أجل الأنسنة، وتجربة المفكّر المغربي محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي (قسم الأخلاق)، بقطع النظر عن موقفنا من المحاولتين المذكورتين.
5 ـ وفي هذا السياق تأتي مسألة إعادة ترتيب النصوص الدينية، ولدينا هنا ملاحظة نقدية تتمثل في استبعاد الفقهاء نصوصاً كثيرةً عن الساحة الحقوقية والقانونية، لمجرّد ما يسمّونه: اللسان الأخلاقي في النص، إنّ هذه المقولة تؤدّي إلى تغييب نصوص يحتاجها الدرس الحقوقي الديني، فعلى سبيل المثال، رسالة الحقوق للإمام السجّاد ، وهي الرسالة التي نفتخر بها في تراثنا الإمامي، إنّ هذه الرسالة سوف تفقد قيمتها الحقوقية في البعد القانوني حينما تتحوّل برمّتها إلى نصّ أخلاقي لا يحمل معطى جاد في التقنين، وهذا ما ينسف دورها الرئيس على صعيد الحقوق الإسلامية.
إنّ هذا موضوع أساسي نحن مطالبون بإعادة قراءته، أي أن بإمكان التخلّي الجزئي عن هذه المقولة أن يؤمّن لنا حجماً أكبر من النصوص القانونية الحقوقية التي تساعد الباحث على تكوين نظرية في الحقوق الإسلامية، بدل خطاب أخلاقي تعبوي عام.
6 ـ وتبقى نقطة ضرورية نختم بالإشارة إليها، وهي معيار التقنين في الإسلام واختلافه عمّا هو الموجود في المدارس الأخرى، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: إن العلوم الإنسانية التي نمت في الغرب، ولدت داخل أنساق علمانية، لا تأخذ في إنتاجها للمفاهيم، ولا رصدها للظواهر، مسألة الغيب وما يؤمن به العقل الديني، ولهذا كانت الدراسات الظاهراتية الغربية مختلفة عن أي درس نفسي أو اجتماعي داخل التصوّر الإسلامي، وهذه نقطة أساسية يجب فهمها بدقة، دون التورّط في مفهوم سلبي لأسلمة العلوم، لأن التفريط أو الإفراط فيها يؤدي إلى خسائر.
إذن، فالإنسانيات التي تشاد عليها الحقوق في الغرب، يفترض أن تُدرس وفق السياق الديني أيضاً، لتكوين حقوق دينية قائمة على إنسانيات متولّدة من داخل المناخ الديني نفسه.
الجهة الثانية: يذهب بعض الباحثين الكبار في القرن العشرين إلى أنّ القانون الحقوقي الإسلامي يقوم على مبدأ العدالة العامّة، ومعنى ذلك أنّ المعيار في نظام الحقوق ليس راحة الإنسان ودعته ورفاهيته دوماً، فكل قانون يعزّز هذه المسائل يغدو حقوقياً ممدوحاً، إنّما المعيار هو العدالة العامة، وهي قد تستدعي الشدّة، والإنقاص من بعض الحقوق لصالح الاجتماع العام، الذي يعود على الفرد نفسه بالخير والمصلحة، فللمجتمع حقّ على المجرم أن يعاقب، وللمجتمع حق على المرأة أن تسمح بتعدّد الزيجات، وهذا موضوع أساسي وهام يجب درسه، لتقويم المعايير المنهجية.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].

---------------------
 بواسطة : حیدر حب الله