الأربعاء، 28 سبتمبر 2011

أمتنا بين الانشطار والتماسك

لست سلبيًّا حينما قدّمت كلمة الانشطار على كلمة التماسك، ولا أريد أن أنظر إلى واقع أمتنا الإسلامية بعين سوداوية، ولكنها -مع كل أسف- وصف لواقع الحال. وقد عمل المخلصون -علماء ومفكرون ومثقفون وساسة وذوو الرأي والنظر- من أبناء هذه الأمة لإيقاف حالة الانشطار هذه والصيرورة إلى أحسن الأحوال، ولكنهم تفاجؤوا بأن ما يمكن الوصول إليه لا يرقى إلى مستوى التماسك فضلاً عن الاندماج الذي طالما طمحوا إليه وعملوا من أجله.
وعلى الرغم من أن الرباط الوثيق الذي به تم اتحاد المختلفين واندماج المتفرقين ما زال موجوداً، ويدَّعي كل من أبناء الأمة التمسك به والاعتصام بحبله المتين، مما يعني أن المشكلة تكمن في صحة الدعوى، أو في وجود موانع وعقبات تحول بين أبناء الأمة وقيم التماسك والاندماج الحقيقي، مما يجعلها تعيش التنافر بين ما تؤمن به والواقع الذي تعيش فيه.
وقبل الولوج في هذه الإشكالية ينبغي أن نقف على المعنى الذي من خلاله تتشكل الأمة، ومن خلاله تطلق الأمة.
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[1].
الأمة في اللغة على معانٍ، منها: الطريقة والملة والدين، ومنها: القوم المجتمعون على أمر ومقصد واحد، ومنها غير ذلك، لكن الذي يعنينا هنا هو أن كل قوم نُسبوا إلى نبي وأضيفوا إليه فهم أمة[2].
قال الشيخ الطبرسي: أصل الأمة الجماعة التي على مقصد واحد، فجُعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماعهم بها على مقصد واحد[3].
وقال السيد الطباطبائي: أصل الكلمة من: أمَّ يأمُّ إذا قصد، فأُطلق لذلك على الجماعة، لكن لا على كل جماعة، بل على جماعة كانت ذات مقصد واحد وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، وهو المصحح لإطلاقها على الواحد وعلى سائر معانيها إذا أطلقت[4].
وعلى هذا المعنى يمكن أن تكون القومية أو الجغرافيا أو العرق أو الفكر أو العقيدة مجتمعةً أو آحاداً مرتكزاً لتحقق مفهوم الأمة الواحدة، وحينها تنسب إلى ما ارتكزت عليه فتكون أمة عربية أو كردية أو غيرهما، وهكذا بالنسبة إلى البقية.
وأمتنا تنسب إلى الإسلام فكراً وعقيدةً وإيماناً مما يعني أن الدوائر الأخرى ينبغي أن تنصهر في بوتقة الإسلام، فالأعراق والقوميات والجغرافيا، وكذلك الأفكار، كلها تتصاغر وتندمج بعضها مع بعض تحت لواء الإسلام لتكون أمة واحدة متماسكة يخضع جميع أبنائها للواحد الأحد ويتمتع الجميع بالسوية، فلا يمتاز بعضهم على بعض إلا بالتقوى.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[5].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ كُلُّكُمْ لآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ وَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلا بِالتَّقْوَى»[6].

دعوى الانتماء:

الانتماء الحقيقي إلى أمة الإسلام لا يتم من خلال التواجد على أرض المسلمين أو الولادة من أبوين مسلمين[7]، وإنما يكون من خلال الإيمان بالجامع المكوِّن لمفهوم الأمة والعمل بمقتضاه أمراً ونهياً.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[8].
قال السيد المدرسي: «وفي هذه الآية يضع القرآن الحكيم المقياس الاجتماعي الذي يميز المنافق عن المؤمن وهو مقياس الوحدة الإيمانية، فلو ادَّعى جماعة أنهم مؤمنون ثم تفرّقوا أحزاباً وشيعاً انطلاقاً من أهوائهم ومصالحهم فإن ادّعائهم سيكون باطلاً وسخيفاً لأن المؤمنين تجمعهم كلمة واحدة هي كلمة التوحيد، وإن التقوى هي محور نشاطهم وصبغة أعمالهم وحياتهم»[9].

العلاقات وإشكالية الانشطار:

التفرّق والتمزّق الذي ابتليت به الأمة يعود في الغالب إلى اضطراب في العلاقة بينها وبين قيمها الجامعة، وبينها وبين مراكز القوى فيها، وينعكس ذلك على العلاقة بين سائر أبنائها.
1- القرآن الكريم حدد محورية الحق سبحانه في الأمة التي يريد وأمر بالاعتصام بحبله.
قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[10].
ونهى عن التنازع مبيناً أسبابه وعلاجه ونتائجه. قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[11].
2- يقوم الحاكم بدور هامٍّ وخطيرٍ جدًّا في حراسة القيم وتقديمها إلى أبناء الأمة بما يليق وشأنها وشأن الأمة التي تنتمي إليها، ولذا أصبح قربه منها معرفةً والتزاماً وسلوكاً، وقدرته على تحمل المسؤولية هو السبيل لتوليه هذه المكانة وهذا المنصب، كما أن بُعده عنها هو الآخر يبعده عن هذا الموقع.
ولعل الكلمة الجامعة لهذه المعاني وغيرها أيضا هي (الظلم) فمن اتَّصف بأي نوع منه فإنه لا يجوز أن يكون في هذا الموقع، ومن كان على هذه الصفة وتبوأ منصب الحكم فإنه يعد معتدياً مغتصباً للمنصب.
قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[12].
ومع أن هذه الآية الشريفة ترتبط بالنبوة والإمامة ارتباطاً مباشراً، وتبيّن أن من تلبّس بظلم في أي آن من آنات حياته فإنه لا يليق لهذا المنصب، إلا أنه يمكن لنا الاستفادة منها في المواقع المختلفة التي تحمل أية مسؤولية في الأمة.
وإذا دققنا النظر في الآثار المترتبة على الظلم فإننا سنجده سبباً أساساً في تمزيق الأمة وتفريقها وتقطيع أوصالها، وما الثورات والانتفاضات التي قامت ضد الحاكمين على مرّ التاريخ إلا صرخة في وجه الحاكم الظالم غالباً ومقاومة له، ومن الطبيعي أن يسفر عن التصادم بين الحاكم والمحكوم المزيد من التباعد والتباغض والتمزق والتفرق.
ولسنا هنا في صدد ذكر مثالب الحكام وتعداد المظالم الصادرة عنهم وعن رجالهم قديماً وحديثاً ولكن ما ينبغي الوقوف عليه هو: أن الظلم وما يتبعه من قهر وذلّ واستعباد وتعذيب وتنكيل هو من الأسباب الرئيسة في تمزّق الأمة، وعليه فإن الطامحين في وحدة الأمة والعاملين في هذا الحقل تقع عليهم مسؤولية مقاومة الظلم والظالمين بغض النظر عن انتماءاتهم العقدية أو الجغرافية أو غيرهما وموقعهم في السلطة، فقبح الظلم المقرّ من جميع العقلاء لا يخفّف من قبحه أي انتماء، ولا تستر سوءته المكانة والموقع في السلطة.
ولهذا انبرى الصالحون من أبناء هذه الأمة وفي مقدمتهم أهل البيت (عليهم السلام) والصحابة الأجلاء (رضي الله عنهم) لتصحيح الاعوجاج الصادر من الحكام، وبذلوا كل غالٍ ونفيسٍ لمنع الظلم ورفعه من واقع الأمة، وبغض النظر عن الإخفاقات والنجاحات في هذا المضمار إلا أنهم، ووفقاً لقيم الدين الحنيف الجامع لهذه الأمة، أدَّوا ما عليهم من مسؤولية تجاه دينهم وأمتهم، وتستمر قافلة المصلحين في مقاومة ما يفتت ويمزق الأمة، وما الدعوات التي تصدر من المصلحين لرفع الظلم والحيف عن الناس إلا طلباً لوحدة الأمة وتماسكها بالعودة إلى الدين الجامع. واتهامهم بتمزيق وحدة الصف وشقّ عصا المسلمين وغيرها من الأوصاف كالانفصاليين والمخربين ما هو إلا مجانبة للحقيقة والإمعان أكثر فأكثر في ممارسة الظلم، مما يعني المزيد من التشرذم والتفرق.
والصحيح هو: النظر إلى دعوات المصلحين بعين العقل وعرضها على قيم الدين فما وافقها ينبغي العمل به، والالتفات إلى آثار مخالفته. قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[13].
3- منذ أن ودّعت الأمة الإسلامية الخلافة العثمانية في العام 1924م تفرّقت إلى عدد كبير من الوحدات السياسية، وهذه الوحدات ليس لها كيان سياسي واحد سوى منظمة المؤتمر الإسلامي التي أسست في 12 رجب 1389 هـ الموافق 25 سبتمبر 1969م، وتضم سبعاً وخمسين دولة إسلامية، وهي شكل من أشكال التعبير عن وحدة العالم الإسلامي.
وهذا الشكل، وإن كان محفوفاً بالهشاشة والضعف في الكثير من القضايا الخلافية في العالم الإسلامي، إلا أن وجوده أمر مطلوب، ولكن يجب أن نعترف أنها لم تتقدم خطوة واحدة في سبيل وحدة الأمة، أو فقل ليس من اهتماماتها، ولكن من المؤكد أن من صلب اهتماماتها منع الانشطار والتشظي بين أبناء الأمة! وعليه ينبغي «إعادة تقويم خبرتها السابقة في مجال الأمن الجماعي والتسوية السلمية للمنازعات بين الدول الأعضاء. فالاتجاه العام الذي سيطر على موقف المنظمة هو الابتعاد عن النزاعات العربية والأفريقية وتركها للمنظمات الدولية المعنية مثل الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية. ولعل حالة الحرب العراقية الإيرانية تؤكد هذا الاتجاه. والشيء ذاته ينطق -وبدرجة أكثر وضوحاً- على مسألة الاحتلال العراقي لدولة الكويت»[14]. والاحتلال الأمريكي لكل من أفغانستان والعراق وهما من الدول الأعضاء.
وإذا تجاوزنا هذا الإطار واتجهنا إلى سائر الأطر ذات الطبيعة الجغرافية أو غيرها فهي ليست بأحسن حالاً من هذه المنظمة، مما يفرض على الجميع تقوية هذه الأطر من خلال العودة إلى القيم الجامعة التي يدين بها أبناء الأمة الإسلامية.
ولعل تصحيح العلاقات فيما بينهم تكون من الأولويات الملحة وخصوصاً في زماننا هذا الذي استبدلت فيه العلاقات الأخوية بالعلاقات الكيدية، بل والتآمر من خلال الاستعانة بالأعداء «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
4- شكّل دخول الناس في الإسلام انتماءً جديداً يتطلب منهم هجران الرواسب في انتماءاتهم السابقة، فالقبيلة والقوم والوطن وغيرها انتماءات مقبولة إذا كانت نقية من أدران الجاهلية وأدرجت في إطار الإسلام، بحيث يكون ولاء الإنسان إلى الدين أولاً وبالذات وليس العكس.
ولمزيد من الاندماج وتأكيداً لحالة الانسجام بين أبناء الإسلام فقد ارتقى بالعلاقة بين أبنائه إلى مستوى الأخوة وهي رباط معنوي يتصل بالواحد الأحد، وهكذا يكون الاعتقاد بالتوحيد له انعكاسات على الواقع الخارجي بين المؤمنين.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[15].
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِنِ اشْتَكَى شَيْئاً مِنْهُ وَجَدَ أَلَمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ جَسَدِهِ، وَأَرْوَاحُهُمَا مِنْ رُوحٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ لأَشَدُّ اتِّصَالاً بِرُوحِ اللهِ مِنِ اتِّصَالِ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِهَا»[16].
وسئل الإمام الرضا (عليه السلام): مَا حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ؟ فقال (عليه السلام): «فَقَالَ إِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمَوَدَّةَ لَهُ فِي صَدْرِهِ، وَالْمُوَاسَاةَ لَهُ فِي مَالِهِ، وَالنُّصْرَةَ لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَإِنْ كَانَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ غَائِباً أَخَذَ لَهُ بِنَصِيبِهِ، وَإِذَا مَاتَ فَالزِّيَارَةُ إِلَى قَبْرِهِ، وَلا يَظْلِمُهُ، وَلا يَغُشُّهُ، وَلا يَخُونُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَغْتَابُهُ، وَلا يَكْذِبُهُ، وَلا يَقُولُ لَهُ أُفٍّ فَإِذَا قَالَ لَهُ أُفٍّ فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَلايَةٌ، وَإِذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ عَدُوِّي فَقَدْ كَفَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَإِذَا اتَّهَمَهُ انْمَاثَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ»[17].
ومن خلال ذلك اجتمعت القوميات والأعراق والأنساب والأوطان كلها تحت راية التوحيد، وأصبح الجميع في دين الله أخواناً.
والآن هل العلاقة بين أبناء الأمة على هذا الوجه؟ أم أن الأمر عاد كما كان قبل الإسلام؟ والحقيقة المرة هي أن الأمر عاد منذ زمن بعيد حتى قال ابن خلدون: إن عصبية الجاهلية نسيت في أول الإسلام، ثم عادت كما كانت، في زمن خروج الحسين (عليه السلام) عصبية مضر لبني أمية كما كانت لهم قبل الإسلام[18].
وقال أحمد أمين: لم يكن الحكم الأموي حكماً إسلاميًّا يُسوّى فيه بين الناس، ويُكافأ فيه المحسن عربيًّا كان أو مولى، ويعاقب من أجرم عربيًّا كان أم مولى، ولم تكن الخدمة للرعية على السواء، وإنما كان الحكم عربيًّا، والحكام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية، لا النزعة الإسلامية[19].
وواقعنا المعاصر ليس بعيداً عن هذه العصبيات وتلك الرواسب التي عمل الإسلام على إبعادها عن أبنائه منذ اليوم الأول؛ لذا نحن بحاجة إلى تداخل أبناء الأمة بعضها مع بعض مما يتيح للجميع فرصة التعارف والتآزر والمناصرة والتكافل فيما بينهم. ولكي يتم ذلك ينبغي الاستفادة من الحج والعمرة بعقد المؤتمرات والحوارات واللقاءات فيما بين المسلمين، كما ينبغي تأسيس المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية والأهلية -ولعل الأخيرة هي الأهم- على مستوى الأمة ذات الطابع التشاوري أو العملي بمختلف التوجهات العلمية والعملية.
5- التعدد المذهبي في الأمة الإسلامية، بل وغيرها من الأمم، لا يؤدي بالضرورة إلى التفرّق والتشرذم، إلا إذا دخلت عليه مؤثرات من الخارج تقوم بتوظيفه لأهداف خاصة لا تنسجم مع وحدة الأمة وائتلافها، وهذا يعني أن ما تشهده بعض الساحات الإسلامية أحياناً من تدابر أو تنازع بين أتباع المذاهب الإسلامية ليس الخلاف العلمي هو المسؤول عنه، وإنما هو نتيجة لتدخل بعض الساسة أو المنتفعين في استغلال الخلاف وتوظيفه للاصطفافات الطائفية والنعرات المذهبية. وتشتد الحالة خطورة حين يتحوّل الحكّام إلى رجال طوائف يعملون على نبذ وتحقير الطوائف الأخرى وسلب حقوقها تعالياً عليها وتعصباً ضدها، والنتيجة الطبيعية لمثل هذا السلوك ليس التماسك والاندماج قطعاً وإنما التفكّك والتفرّق والانقسام، ومن المؤكد أن الرابح لن يكون هو بل أعداء الأمة.
وقد عمل المخلصون من أبناء الأمة على نبذ الطائفية وإبعاد الطائفيين عن ساحة التأثير ومنعهم من استغلال الخلاف العلمي إلى مادة لتأجيج الصراع والانقسام، وقد حققوا نتائج هامة على مستوى المذاهب الأربعة (المالكي، الحنفي، الشافعي، الحنبلي) بالرغم من الحوادث المؤسفة والمؤلمة التي حدثت فيما مضى من التاريخ.
والآن تبقى الآمال معقودة على تلك الجهود أيضاً في إكمال مهمتها لتتلاقى المذاهب جميعاً الشيعية منها والسنية صفًّا واحداً للنهوض بهذه الأمة إلى ما كانت عليه في تاريخها المجيد.
وعلينا أن نعي أن سلاح الإقصاء والتهميش والتكفير لن يوصل أحداً إلا إلى الخسران والتفكك والضياع «والعياذ بالله».
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الأنبياء/ 92.
[2] كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج 8 ص 428.
[3] تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي ج 7 ص 111.
[4] تفسير الميزان، السيد الطباطبائي ج 2 ص 123.
[5] الحجرات/ 13.
[6] بحار الأنوار، العلامة المجلسي ج 73 ص 350.
[7] الولادة يترتب عليها أثر الإسلام إن لم يعقبها جحود.
[8] المؤمنون/ 52.
[9] تفسير من هدى القرآن، السيد المرجع المدرسي ج 8 ص 191.
[10] آل عمران/ 103.
[11] الأنفال/ 46.
[12] البقرة/ 124.
[13] الأنفال/ 46.
[14] منظمة المؤتمر الإسلامي: بلورة لمواقف لفظية دونما أثر عملي، بقلم: د. حمدي عبد الرحمن:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/1AE3F47F-4A6E-450F-A782-539E2571677F.htm
[15] الحجرات/ 10.
[16] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 58، ص 149.
[17] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 58، ص 233.
[18] نقلاً عن كتاب جهاد الإمام السجاد [عليه السلام]، السيد محمد رضا الجلالي، ص 135.
[19] نقلا عن كتاب جهاد الإمام السجاد [عليه السلام]، السيد محمد رضا الجلالي، ص 137.
----------------------
الشيخ محمد حسن الحبيب

الأمة.. والكراهية والتعايش بين الطوائف

كمدخل لفهم الأزمة التي تعانيها الأمة لا بد من تشريح النسيج الاجتماعي والديني؛ لنتعرف على كل أطياف الأمة، ومدى تنوعها الفكري والمذهبي والقومي، وأهمية ذلك في دفعها للرقي، أو إضعافها وتمزيق وحدتها.
والقاعدة التي يمكن أن ننطلق منها في معرفة واقع الأمة، لا بل المجتمع البشري، هي أن التنوع هو الأصل في كل المجتمعات وكل الأمم، والأصل في التنوع هو التعدد. وتمثل هذه المسلمة الفكرية المنطلق السليم في التعامل مع المختلف، وتحقيق حالة التعايش والسلم الاجتماعي. وما نراه اليوم من عنف وإرهاب ينطلق من نفي هذه المسلمة أو تجاهلها وفرض القناعات الشخصية على الآخر، وهذا الأمر يدعو ليس إلى الصدام مع الآخر الذي نختلف معه، بل مع سُنَّة الحياة وقوانين الخلقة؛ لأن الله جلَّت قدرته خلق التنوع في كل ميادين الحياة، وجعله آيةً تدل عليه، وتخبر عن حكمته وعظيم صنعه.
قال تعالى في محكم كتابه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ[1].
ونحن عندما نقرأ حالة التنوع البشري نُصاب بالدهشة لكثرة تعددها، فنرى العربي والكردي والفارسي والتركي والهندي والصيني والأوروبي والأمريكي و..، وعندما ندخل في تشريح العرب نجد تنوُّعاً هائلاً في القبائل والعشائر واللهجات والأديان والألوان والتقاليد والثقافات وغيرها، وكذا لو قمنا بتشريح القومية الكردية أو الفارسية أو التركية وغيرها من القوميات، فإن كل قومية تتنوع بين طوائف وقبائل متعددة ومختلفة في العادات والتقاليد والثقافة. وقد ذكر مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية المصري أن التنوع البشري في عالم اليوم وصل إلى ستة آلاف جماعة أولية، ووصل عدد اللغات التي يتحدث بها البشر إلى ستة آلاف لغة كذلك[2].
ولكي ننطلق في معالجتنا لظاهرة الكراهية التي أخذت أبعاداً خطيرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، نتساءل عن الحكمة من هذا التنوع الهائل بين البشر، وكيف يتعامل الإسلام كدين خاتم مع هذا الأمر، وهنا لا بد لنا من الرجوع للوحي الذي يُبيِّن لنا الفلسفة والحكمة التي أرادها رب العباد من هذا التنوع البشري في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[3].
إن التبادل الثقافي والتعارف بين الناس هو السبب والحكمة وراء خلق التنوع البشري، والتعارف يستبطن معرفة الآخر من خلال الاقتراب منه وسماع ما يعتقده أو يؤمن به، وبقدر ما نقترب من معرفة الآخر -من خلاله هو لا من خلال المختلف معه- نحقق قيمة الكرامة عبر مبدأ التسامح والتعايش، إذ الكرامة في أحد تجلياتها هو أن نعطي لكل شخص حرية التعبير عما يعتقده ويؤمن به، وعلى من يستمع له أن يُميِّز بين ما هو صائب وخاطئ، لا أن نفرض على الآخرين قناعاتنا، والتي قد تكون خاطئة، وما نشاهده اليوم من نمو ثقافة الكراهية بين المسلمين أحد أسبابه الكبرى هو السعي لفرض الرأي الواحد، سواء كان رأياً دينيًّا أو فكريًّا أو سياسيًّا.
وفي الحقيقة إن الكثير من الكيانات السياسية العربية بُنيت على أساس الفكر الآحادي الاتجاه، وترى أن بقاءها -كسلطات أو أحزاب ومنظمات حاكمة ومتسلطة- هو بقمع المختلف وإسكات صوته، ويعد هذا أحد أهم أسباب شيوع ثقافة الكراهية، فالشعوب المقهورة وإن سكت صوتها، إلا أن ذلك يؤدي إلى نمو حالة السخط والبغض للمستبد والظالم، وهو هنا الحاكم الذي يتربع على السلطة ويبذر ثروات الأمة على ملذاته أو أطماعه الشخصية، ويجعل الشعب رهينة لخبز شعيره اليومي، بل ويفرض عليه قبول الواقع وما يراه الحاكم من قناعات.
والأكثر خطراً بين الأنظمة المستبدة هو ذلك الذي يؤطر سلطته بالدين ويتستر بعباءة بعض رجاله ليرفض التنوع الاجتماعي والمذهبي في بقعة حكمه، ويسعى إلى فرض رؤية لمذهب واحد على الأمة ككل، بل ليجعل نفسه ومذهبه هو الدين ويُخرج أتباع المذاهب الفقهية الأخرى منه، وهنا لا بد للمنبر أن يخدم أهداف السلطة من خلال توصيف الآخرين المختلفين معه بأنهم زنادقة وفاجرين، ولعل ما يدفع على الاعتقاد بأن الكراهية هي سياسة للدولة المستبدة هو أن من يقوم ببث تلك الثقافة هم أشخاص موظفون في المؤسسة الدينية ويمارسون ذلك من مواقع رسمية.
وبالطبع إثارة الكراهية انطلاقاً من المذهب أو العرق أو اللغة أو القومية أو غيرها من المبررات يُشكِّل صداماً حادًّا مع سُنَّة الخالق في عباده، الذي خلقهم مختلفين بل وجعل الاختلاف بين الناس هو الأصل، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[4].
وقال كذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[5].
ويقول المرجع المدرسي في تفسيره لهذه الآية كلاماً مهمًّا ينطلق من أحد رواد الصحوة الإسلامية ومنظريها: النظر إلى الدين باعتباره مادة للعصبيات العرقية والقومية، أو الجدليات الفارغة، أحد أسباب الخطأ في فهم الدين، وبالتالي الإيمان به. والقرآن يُصرِّح بأنه ليس ذاك الدين الذي يتخذ مادة للخلاف هو دين الله.
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ والله هو الحاكم في عباده، وكثير من الخلافات المذهبية لا يمكن أن تحلها الجدليات، بل يجب أن تتحول إلى يوم القيامة وإلى الله والمستقبل ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[6].
إننا ومن خلال نظرتنا وقراءتنا لواقع الأمة نُحذِّر من خطورة تبني ثقافة الكراهية أو التسويق لها عبر رفض الآخر، أو إقصائه، أو منع الناس من حرية التعبير عن آرائهم أو معتقداتهم الدينية، أو فرض مذهب معين على أي طائفة أو مذهب آخر. ومن الضروري أن نقترب ممن نختلف معه لنتعرف على رأيه بعيداً عن التحامل أو التشويه، وبعيداً عن المسبقات الفكرية؛ لأنها تُشكِّل حجاباً يمنع من الوصول للصائب من الآراء والأفكار.
إن ثقافة الكراهية في حال استمرارها وتبني السلطات المستبدة لها يمكن أن تُشعل حرب طوائف وقبائل يكون الجميع فيها خاسراً، وليس أمام الأمة بجميع أطيافها إلا أن تتبنى خيار التعايش والتعارف والتسامح، ولتحقيق هذا الخيار لا بد من جعله هدفاً استراتيجيًّا تُسَخِّر كل الطاقات والكفاءات الفكرية والمادية لتأسيسه كمشروع نهضوي لأمة تمتلك كل مقومات القدرة والتقدّم، ويمكننا أن نحقق ذلك من خلال الأمور التالية:
1- إقرار وثيقة للتعايش الطائفي بين طوائف الأمة.
2- سن قوانين تُجرّم المحرضين على الكراهية.
3- سن قوانين تُجرّم المساس برموز الطوائف.
4- تأسيس المناهج التربوية على فكر التسامح والتعايش، وذلك كفيل بأن يربي أجيالاً تفتقد لثقافة الكراهية.
5- فتح قنوات الحوار بين كل الطوائف وتكريس مفاهيم حرية التعبير عن الرأي.
6- بناء سياسات الدولة على محور إشراك جميع الطوائف في السلطة.
7- الاعتراف بالتنوع المعرفي والمذهبي ورفض إكراه الناس بمذهب الدولة.
8- إنهاء ممارسة التمييز من قبل الدولة لأن ذلك يُولِّد الشعور بالظلم، ومن ثم الكراهية تجاه الظالم، وهو ما يُفقِد الدولة شرعيتها، لأن الشرعية تقوم على رضا الشعوب بحكوماتها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] القرآن الكريم، سورة الروم آية 22.
[2] راجع دارسة بعنوان التنوع البشري، على الرابط الالكتروني التالي:
http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/YOUN35.HTM
[3] القرآن الكريم، سورة الحجرات آية 13.
[4] القرآن الكريم، سورة هود آية 118.
[5] القرآن الكريم، سورة الأنعام آية 159.
[6] المدرسي، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، من هدى القرآن، ج 2 ص 459 ط الثانية دار الكتاب العربي.
---------------------
الشيخ زكريا داوود

الجمعة، 9 سبتمبر 2011

الشيعة والسنة بين الاختلاف والائتلاف




إضاءات: ولد الشيخ علي آل محسن في العشرين من صفر سنة 1375هـ ، وهاجر إلى مدينة قم المقدسة لطلب العلم فدرس المقدمات والسطوح على يد ثلة من الفضلاء، ثم قفل راجعاً إلى وطنه، وهاجر مرة ثانية إلى النجف الأشرف فتتلمذ على يد آية الله العظمى ميرزا علي الغروي قدس سره، واختص بالحضور فقها وأصولا على يد آية الله العظمى الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله، وقد أمره أستاذه الشيخ الفياض بالبدء بتدريس البحث الخارج، وله كتب مطبوعة، منها: (دليل المتحيرين في بيان الناجين)، و(كشف الحقائق في الرد على (هذه نصيحتي إلى كل شيعي)، و(مسائل خلافية حار فيها أهل السنة)، وكتاب (عبد الله بن سبأ، دراسة وتحليل)، وكتاب (لله وللحقيقة) في الرد على كتاب (لله ثم للتاريخ).
يسرني أن ألتقي بسماحة الشيخ علي آل محسن، وأجري معه هذا الحوار عبر صفحات مجلة (المواقف)..

1- يعتقد البعض أن الاختلاف في المذاهب في مجتمعٍ ما يعني استحالة التعايش وحتمية التنافر والقطيعة بين المسلمين بمختلف مذاهبهم، بينما الواقع أثبت أن المجتمع قد يتعايش وتسوده الألفة والتراحم والتواصل والوِحدة رغم تعدد المذاهب وربما الأديان في ظل المجتمع المدني كما هو الحال في التعايش والوئام الذي حصل بُعيد الحرب الأهلية في لبنان، .. ما رأي سماحتكم في ذلك؟

- لا ريب في أن التعايش بين المذاهب الإسلامية ضرورة ملحة في العصر الحاضر في ظل المتغيرات الدولية التي يعيشها المسلمون اليوم، بل هو واجب شرعي قبل أن يكون أمراً حياتياً ملحاًً، وقد حث الإسلام على حفظ حقوق كافة المسلمين ونهى عن التعدي على حرماتهم واستباحة أعراضهم، سواءاً أكان بالقول أم بالعمل، فكفل لكل من شهد الشهادتين صيانة دمه وعرضه وماله، وهذا هو الأساس الذي يتحقق به التعايش بين سائر الفئات المختلفة.

والاختلاف في الآراء والمذاهب والمعتقدات لا يخرج طوائف المسلمين عن الإسلام، ولا يهدر شيئا من حقوقهم التي فرضها الإسلام وأكد عليها.

ولا يعتنى بدعاة الفرقة والتكفير الذين يقتاتون على بث الفرقة والاختلاف بين فئات الأمة، والذين لا همَّ لهم إلا تكفير باقي المسلمين، فإنهم لم يفهموا تعاليم الإسلام السمحة بصورتها المشرقة، وإنما أخذوا الإسلام قشوراً خاوية، وتركوا اللباب الذين أمرنا الله بالتمسك به والسير على نهجه.

ومن يتأمل حوادث التاريخ يجد أن جميع فئات المسلمين قد تعايشت فيما بينها عبر العصور المختلفة في ظل مجتمع واحد، وأما بعض الحوادث القليلة التي أثارها بعض دعاة الفرقة في تلك العصور، فإنها لا تخرم هذه الحقيقة، لأنها حوادث فردية نادرة لا يعتنى بها.

2- برأيك ما هي أهم السبل التي ينبغي أن يسلكها أبناء المجتمع في تفعيل أنشطة التلاقي والتآلف بين المختلفين في المذاهب الإسلامية، وبالخصوص بين فئتي الشيعة والسنة، خصوصاً ونحن كأمة إسلامية نمرّ بظروف عصيبة في الوقت الراهن؟

- ينبغي على كل طوائف الأمة ملاحظة أمور:
• إيقاف الحملات التكفيرية تجاه بعضهم البعض، واستبدالها ببث الآراء الصحيحة التي نادى بها الإسلام، والتي تؤلف بين المسلمين وتحث على التآلف فيما بينهم وحفظ حقوقهم.
• العمل معا على تفعيل التقريب بين أبناء المذهب الشيعي والسني، بإنشاء مؤسسات دينية مشتركة تعمل على توطيد روح التآلف بين الفئات.
• تعريف أهل السنة بحقيقة مذهب الشيعة وتعريف الشيعة بحقيقة مذهب أهل السنة، والغض عن ما فيهما من الجوانب التي قد تثيرالخلاف بينهم.
• أن يحاول أهل السنة فهم حقيقة مذهبهم بصورته الصحيحة، فإنه لا يحث على تكفير أحد من أهل القبلة، وعلى الشيعة أن يفهموا تعاليم أهل البيت عليهم السلام في معاشرة أهل السنة بالمودة والمحبة والألفة، فإن فهم تعاليم المذهبين يمنع كثيرا من التجاوزات التي قد تحصل من بعضهم تجاه الطرف الآخر.
• كسر الحواجز الاجتماعية والنفسية بين أبناء الطائفتين، والعمل معا على مشاركة أبناء الطائفتين لبعضهم البعض في أفراحهم وأتراحهم وكل ما يهمهم من أمور الدين والدنيا.


3- ظهرت في الآونة الأخيرة عدة برامج حوارية بثتها بعض الفضائيات وتناولت هذه البرامج الاختلافات بين الشيعة والسنة، وقد أيدها البعض، واعترض عليها البعض، وتحفظ عليها البعض الآخر.. وبرأيك هل من الصحة بمكان أن يتم بث هذه البرامج رغم عدم نضج تنظيمها وإدارتها، وكذلك عدم انطلاقها من مؤسسة إسلامية رسمية، خصوصاً أن إثارة هذه الخلافات قد يسبب نوعاً من ردة الفعل لدى كل طرف تجاه الطرف الآخر فيما إذا كانت هذه الحوارات لا ترتكز على أسس الحوار وشروطه حسب المتعارف عليه علمياً وأكاديمياً؟

- رأيي أنها برامج غير هادفة وحوارات غير نافعة، بل مضرتها أكثر من نفعها، لأن هذه الحوارات قد فقدت أهم المقومات التي ينبغي أن تتوفر فيها، فصارت شجاراً ونزاعاً لا حواراً ومناظرة.

ومثل هذه الحوارات ينبغي أن تنطلق من مؤسسة إسلامية رسمية مسؤولة، تتحمل مسؤولية هذه الحوارات وتتكفل بالإعداد لها بالصورة الصحيحة وتغطية كافة نفقاتها، وألا تكون الغاية منها تحصيل مكاسب مادية أو معنوية، وأن تختار المحاورين الأكفاء الذين يحملون فكراً ناضجاً يستفيد منه المسلمون، وأن تستبعد دعاة التفريق والتكفير، وأن تكون إدارة هذه الحوارات منوطة بلجنة علمية محايدة منصفة متخصصة في الخلافات المذهبية.

وينبغي أن تكون مواضيع الحوار هادفة تصب في مصلحة المسلمين، من أجل جمع الكلمة وتعريف كل طائفة بمبادئ الفرقة الأخرى، من دون أن تكون سبباً من أسباب التفريق، أو يراد بها التشهير أو التشنيع بإحدى الطائفتين، أو محاكمة الشيعة في معتقداتهم.

ويجب أن يُمنع أي محاور من أن يتفوه بأي عبارة تجريح أو إهانة أو تكفير أو تفسيق للطرف الآخر، أو يقاطع المحاور الآخر قبل أن يكمل كلامه، أو يخرج عن موضوع الحوار إلى نقاط هامشية أخرى، أو يدلس أو يكذب في كلامه، أو يرسل الاتهامات من غير إسناد، أو يفتري على الطرف الآخر أو طائفته من غير إثبات، أو غير ذلك مما لا ينبغي حصوله في حوارات هادفة يشاهدها الملايين من الناس.

فإذا توفرت هذه الأمور كانت هذه الحوارات نافعة، وإلا فهي نزاعات ينبغي سد بابها والعمل على الحيلولة دون حصولها، لأنها ستكون بالنتيجة بذرة للشقاق والنزاع الذي لا تحمد عقباه.

4- لعلماء الإمامية رأيهم السديد في موضوع الوحدة الإسلامية ونبذ بؤر الاختلاف وتوسيع رقعة التواصل بين المسلمين في كل مكان وعلى مختلف مذاهبهم هدفاً لمواجهة أعداء الإسلام والأمة الإسلامية الذين تجسدوا في الاستكبار العالمي أو من يسمون أنفسهم قادة العالم.. من خلال اطِّلاع سماحتكم على هذا الموضوع بحكم متابعاتك الفقهية، هلاّ لخصت لنا آراء المراجع المعاصرين بهذا الخصوص.

- إن آراء علماء الشيعة الإمامية كافة في هذا المجال ـ تبعاً لأئمة أهل البيت عليهم السلام ـ معروفة وواضحة، ولقد كان علماؤنا الأفذاذ وما يزالون يحثون علماء أهل السنة على تفعيل الوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة، والعمل معاً على تجاوز تلك الخلافات التي يقتات عليها دعاة الفرقة والتكفير.

ولقد حث أئمة أهل البيت عليهم السلام على توطيد العلائق بين شيعتهم وأهل السنة بصورة قوية، ففي صحيحة معاوية بن وهب، قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال: تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم، فتصنعون كما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدّون الأمانة إليهم. (كتاب الكافي 2/636).

وفي صحيحة زيد الشحام، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام : اقرأ على من ترى أنه يطيعني ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزَّ وجل، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله ، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برًّا أو فاجراً، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدَّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: (هذا جعفري). فيسرُّني ذلك، ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدَبُ جعفر. وإذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدَبُ جعفر. فوالله لَحدَّثني أبي عليه السلام أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي عليه السلام فيكون زينها، آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرةَ عنه، فتقول: مَن مثل فلان؟ إنه لآدانا للأمانة، وأصدقنا للحديث. (المصدر السابق).

وفي صحيحة عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أوصيكم بتقوى الله عزَّ وجل، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾، ثم قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصَلُّوا معهم في مساجدهم... (كتاب المحاسن للبرقي، ص 18. وسائل الشيعة 5/382).

وهذه الأحاديث وغيرها هي التي جعلت علماء الشيعة قديما وحديثاً ينادون بالتقريب والوحدة مع أهل السنة حذراً من الوقوع في النزاعات الطائفية والعنف المذهبي الذي تكون عواقبه وخيمة على المسلمين كافة.

5- وأيضاً لفقهاء الإمامية آراء سديدة في موضوع العنف والتعصب الديني، وهذه الآراء تنطلق من تعاليم الدين الإسلامي المستقاة من القرآن الكريم وسنة رسول الله وأئمة أهل البيت .. حيث يضمن الإسلام لجميع البشر حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم كما يضمن ذلك لجميع المسلمين بمختلف مذاهبهم.. ما تعليق سماحتكم على ذلك؟

- ما قلتموه صحيح وسديد، فإن الإسلام لا عنف فيه، بل هو دين الرحمة والسلام، ولا يحق لمسلم أن يتجرأ على دم أو مال أو عرض إلا ضمن الضوابط الشرعية، بل لا يجوز للمسلم أن يقتل حتى مستحق القتل إلا بأمر الحاكم الشرعي وبحكمه، وإن كان ولي المقتول، فما بالك بغيره؟!

ولهذا لا تجد في سيرة النبي صلى الله عليه وآله أنه استباح بلداً افتتحه، ولا تجد أي خبر يشير إلى أنه صلى الله عليه وآله أهدر الدماء بالجملة، أو أنه أباح أموال وأعراض من حاربوه، وما جرى في فتح مكة معلوم في التاريخ ، فإنه صلى الله عليه وآله أمر علياً عليه السلام أن ينادي في الناس: ( اليوم يوم المرحمة ، اليوم تؤوى الحُرَمة). وأمر مناديه أن ينادي: (من دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن).

وقد أمر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام جيشه لما توجه للبصرة بألا يقتلوا امرأة أو طفلا أو شيخا كبيرا، ولا يهدموا داراً، ولا يقطعوا شجرة، ولا يلحقوا النساء بأذى وإن شتموا أعراضهم وسبوا أمراءهم.

وإذا كان الإسلام قد كفل حقوق أهل الذمة من اليهود والنصارى الذين يعيشون في بلاد المسلمين فمن باب أولى يكفل حقوق المسلمين أنفسهم بشتى طوائفهم ومذاهبهم، وهذا واضح معلوم.

وكل ما يصدر من جهلة المسلمين من التعصب الطائفي والعنف المذهبي كله ناشئ من الجهل بتعاليم الإسلام واتباع تسويلات الشيطان .

6- للحوار الفكري والعقائدي آدابه وأخلاقه وقد فصَّل فقهاء الإمامية في هذا الموضوع، حبذا لو لخّص لنا سماحة الشيخ أهم هذه الآداب التي ينبغي أن تتوفر في أشخاص المتحاورين للتوصل إلى الحقائق الفكرية والعلمية وفقاً للشروط المتفق عليها بحيث لا تشط هذه الحوارات وتسبب النزاعات الشخصية وإساءة الأدب.

- أذكر لك بعض ما ذكره الشيخ محمد رضا المظفر قدس سره في كتاب (المنطق) في صناعة الجدل ، في مبحث آداب المناظرة باختصار وتصرف منا.

فإنه قدس سره ذكر أنه ينبغي لمن يتعاطى المناظرة أن يتحلى بعدة آداب مختلفة، منها:

• أن يتجنب عبارات الشتم واللعن، والسخرية والاستهزاء ونحو ذلك مما يثيرعواطف الغير، ويوقظ الحقد والشحناء، فإن هذا يفسد الغرض من الحوار التي يجب أن يكون بالتي هي أحسن.

• ألا يرفع صوته فوق المألوف المتعارف، فإن هذا لا يكسبه إلا ضعفاً، ولا يكون إلا دليلاً على الشعور بالمغلوبية...

• أن يتواضع في خطاب خصمه، ويتجنب عبارات الكبرياء والتعاظم والكلمات النابية القبيحة.

• أن يصغي إلى خصمه إصغاء كاملاً، ولا يبدأ بالكلام إلا من حيث ينتهي خصمه من بيان مقصوده، فإن الاستباق إلى الكلام سؤالاً وجواباً قبل أن يتم خصمه كلامه يربك على الطرفين سير المحاورة، ويعقّد البحث من جهة، ويثير غضب الخصم من جهة أخرى.

• أن يتجنب حد الإمكان محاورة طالب الرياء والسمعة، ومؤثر الغلبة والعناد، ومدعي القوة والعظمة، فإن هذا المحاور يعديه بمرضه، فينساق بالأخير مقهورا إلى أن يكون شبيها به في هذا المرض، ومن جهة أخرى لا يستطيع مع هذا الشخص أن يتوصل إلى نتيجة مرضية في المحاورة.

• أن يكون هم كل محاور هو الوصول للحق وإيثار الإنصاف، وأن ينصف خصومه من نفسه، وأن يتجنب العناد والإصرار على الخطأ، فإنه خطأ ثان، بل ينبغي أن يعلن ذلك، ويطلبه من خصمه بإلحاح، حتى لا يشذ الطرفان عن قبول الحق والعدل والإنصاف.

7- عندما نتحدث عن المتعصبين دينياً أو المتشددين تجاه الطرف الآخر.. هناك في المقابل من يتفهمون لغيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى، وعلى سبيل المثال هناك في مجتمعاتنا من الشيعة من يتعايشون مع إخوانهم أهل السنة ويتواصلون فيما بينهم، ويحترم كل منهم مذهب الآخر، ما هو تعليقك على هذه الظاهرة الحسنة في مجتمعاتنا؟

- لا ريب في أن التعايش السلمي بين المذاهب الإسلامية هو ضرورة حياتية كما قلنا فيما تقدم قبل أن يكون واجباً شرعياً، وهذه الشريحة التي أشرتم إليها لا أشك في أنها شريحة واعية ومثقفة، وأنها فهمت الإسلام من هذه الناحية بصورته الصحيحة، وعرفت حقوق المسلمين الآخرين، وطبقت ذلك عملياً، وهذا هو السلوك الذي ينبغي أن يسود كل مجتمعاتنا الإسلامية التي ضمت مذاهب مختلفة وعرقيات متعددة، ليكون كل تصرف مغاير له ظاهرةً شاذة في المجتمع لا تجد لها صدى بين الناس، ولا تلقى إلا الرفض والرد.

8- يُلاحظ في مجتمعاتنا ببعض دول الخليج أن هناك كثيراً من الكتب التي يؤلفها بعض الكتاب والمشايخ من إخواننا أهل السنة، وفيها الكثير من القدح في التشيع والشيعة، وعندما يريد أي عالم شيعي الرد على هذه الكتب لا يحصل على حق الرد، ولا يحصل على حق الطباعة والنشر لهذه الردود في الداخل.. ما رأي سماحتكم في ذلك؟

- لقد عانى الشيعة على مر العصور من الإرهاب الفكري، وقد ابتدأ هذا واضحاً منذ بداية الدولة الأموية واستمر إلى يومنا هذا، وما ذكرتموه ما هو إلا موروثات من السابقين، وكثير من الحكومات تحاول أن تطمس الهوية الشيعية في بلادها بشتى الوسائل، وتحاول جهدها ألا يظهر للشيعة صوت في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.

ونحن في الوقت الذي نرى أن الشيعة لا يعطون في وسائل الإعلام أية فرصة لإبداء معتقداتهم وإبراز هويتهم، نجد أن وسائل الإعلام قد فتحت أبوابها على مصاريعها لدعاة الفرقة والاختلاف الذين لا هم لهم إلا الطعن في الشيعة بالباطل.

ومع أنا لا نطمع أن يُعطى الشيعة فرصة في الرد على ما يكتبه علماء وكتاب من أهل السنة في التشنيع على الشيعة ونقد معتقداتهم، ولا نتوقع أن يفسح المجال للشيعة للتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم في وسائل الإعلام المختلفة، إلا أن المسألة تجاوزت هذا الحد بكثير، فصار الكتاب الشيعي يعاني من حصار شديد في بلاد كثيرة، فأدرج في قائمة الممنوعات التي يعاقب عليها القانون، فلا يكاد يصل إلى القارئ إلا بطرق يعتبرونها غير قانونية.

وكل هذا في واقعه راجع إلى الاستخفاف بالمبادئ الإنسانية وبأبسط القيم التي ينبغي أن تكفل للإنسان مهما كان معتقده ومبدأه، وكما قلنا فإن هذا في حقيقته مما ورثه الخلف من السلف من الحجر على العقول والأفكار والآراء المخالفة، فإنا نحتاج إلى مئات السنين من التوعية المتواصلة والجادة حتى يمكن لبعض الأطراف أن تتقبل الرأي الآخر.

ونحن من هذا المنبر المبارك ندعو كل صاحب مسؤولية أن يعيد النظر في مثل هذه الإجراءات الجائرة، وأن يعمل على إعطاء الشيعة أبسط حقوقهم على الأقل كمواطنين، ومن ضمنها السماح للكتاب الشيعي بأن يجتاز الحدود من غير موانع وعراقيل.


9- الفقه المقارن لدى الأوساط الدينية والحوزات العلمية له مكانة كبيرة وقد أُلِّفت فيه عدة مؤلفات منها (الفقه على المذاهب الخمسة) للشيخ محمد جواد مغنية، وغيرها من المؤلفات ، وقد التزم علماء الإمامية عملية الطرح واحترام المذاهب الأخرى في مقارنة المسائل الفقهية ببعضها البعض من حيث عرض المسائل والاستدلالات المبنية عليها هذه المسائل، ألا ترى يا سماحة الشيخ أن علماء الشيعة على مر الأزمان كانوا يلتزمون بهذا الأدب وهذه الروح الخلاقة في احترام الأطراف الأخرى، بينما نرى أن الطرف الآخر لا يلتزم بهذه الروح بحيث يكيل للشيعة والتشيع الكثير من التهم والافتراءات دون أي تحقق أو استدلال وربما بعضهم يصدر فتاوى ضد الشيعة رغم استناده على إشاعات مغرضة ما أنزل الله بها من سلطان.. ما رأي سماحتكم؟

- لا ريب في صحة ما قلتموه، فإن علماء الإمامية ألفوا كتبا كثيرة في الفقه المقارن منذ عصور متقدمة وسبقوا غيرهم في هذا المجال، ومن تلك الكتب (كتاب الخلاف) لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (ت 460هـ) قدس سره، وكتاب (تذكرة الفقهاء) للحسن بن يوسف بن المطهر المعروف بالعلامة الحلي (648-726هـ) وغيرهما.

بينما لا نجد مثل هذا المسلك في كتابات علماء أهل السنة لا قديماً ولا حديثاً، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى عدم اطلاعهم على آراء الشيعة الإمامية، بسبب الحجر الذي كان معمولا به على كتب الشيعة وآرائهم. أو لعله بسبب تجاهل علماء السنة لآراء الشيعة وعدم الاعتناء بهم، أو لعله خوفا من الولاة والحكام الذين لا يريدون للشيعة أن يظهر لهم صوت، أو لعله بسبب عدم رغبتهم في مقارنة آرائهم بآراء الشيعة التي يمكن أن يستنتج منها صواب آراء الشيعة دون آرائهم، أو لأمور أخرى لا نعلمها.


10- ما رأي فقهاء الإمامية حول تكليف المسلمين من الشيعة لمواجهة هذا المد المضاد من قبل بعض مشايخ وعلماء المذاهب الأخرى عندما يقدحون في الشيعة والتشيع بوصفهم أنهم من أهل البدع والضلالة وبعضهم لا يعترف أن الشيعة من المسلمين ويصفهم بالكفار، مع ملاحظة أن الكثير من المجتمعات الشيعية تعيش جنباً إلى جنب مع إخوانهم أهل السنة كما هو الحال في دول الخليج؟

- يمكن أن نلخص الموقف الصحيح من أمثال هذه الحملات الإعلامية الجائرة على الشيعة في أمور:
• عدم الاعتناء بأمثال هذه الكتب والنشرات والأشرطة وغيرها، وعدم تداولها والاعتناء بتكثيرها، فإن فعل ذلك يحقق غرض أصحاب تلك الأباطيل من ترويجها ونشرها.

• قراءة ما كتبه علماؤنا الأعلام من الردود على شبهات وافتراءات الخصوم، فإن كل ما يكتب ما هو إلا اجترار لشبهات معروفة وتكرار لها بأسلوب مختلف.

• قراءة ما كتبه علماؤنا الأعلام في بيان عقيدة الشيعة الإمامية ونقد مذاهب الخصوم، فإن ذلك يزيد المؤمن قناعة بصحة مذهبه وبطلان ما عداه.

• الرد على ما له شأن من تلك الكتب والنشرات والأشرطة حتى لا يقع العوام في شبهات هؤلاء المضللين.

• بث روح التآلف والأخوة بين المسلمين وبيان أن هذه الحملات تصرفات مشبوهة ومغرضة ولا تصب بأي حال في مصلحة الإسلام والمسلمين.


11- ما رأي سماحتكم فيمن ينظر إلى واقع الخلاف بين الشيعة والسنة على أنه حتمية تاريخية لا يمكن تغييرها، ألا تعتقد أن هذا فيه نوع من الإيمان في الجبر وأنه لا يمكن للمسلمين أن يغيروا حالهم إلى أحسن حال؟

- لا شك في إمكان تغيير واقع المسلمين اليوم إلى ما هو أحسن من السابق، كما أن حالهم سابقاً كان أسوأ منه اليوم وقد تبدل إلى الأحسن، وقد كان الشيعة بالخصوص في العصور المظلمة في تقية شديدة واضطهاد عظيم، وكان سلاطين الجور يتعقبونهم تحت كل حجر ومدر، ولكن هذه الحالة قد انقضت وتلاشت بحمد الله ونعمته.

فمع تضافر الجهود الخيرة من قبل العلماء الداعين إلى الوحدة والتقريب بين المذاهب ومع توفر الإخلاص في العمل الجاد الذي يصب في مصلحة المسلمين، فإن الواقع السيِّئ لا بد يتغير إلى ما هو أحسن.

نسأل الله سبحانه أن يلهم حكام المسلمين والدعاة والوعاظ أن يعملوا على جمع كلمة المسلمين على رضاه، إنه قريب مجيب.


12- ألست معي يا سماحة الشيخ أن أيادي خفية تعمل على بث روح الخلافات بين المسلمين لإضعافهم ومن ثم تسهيل السيطرة عليهم من باب (فرِّق تسد)، ما رأي سماحتكم؟

- لا نستبعد وجود أيادي خفية تعمل في الظلام للتفريق بين المسلمين، ولا نستبعد أن يكون دعاة الفرقة يقتاتون على ذلك، ولكن لا نغفل أيضاً حالة الجهل الموروث الموجودة عن بعض الدعاة للفرقة ممن يظنون أنهم يحسنون صنعا بهذه الدعوات المغرضة.


13- البعض يعول على ظهور الإمام الحجة عجل الله فرجه لتغيير حال الأمة والانتصار على أعداء الإسلام والمسلمين، دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء العمل والسعي الدؤوب للتغيير إلى الأفضل، ما رأيكم في ذلك؟

- هذا خلط بين ما نعتقده من أن عملية التغيير الشاملة للعالم كله وإصلاحه وتطهيره من الظلم والفساد ونشر القسط والعدل في كافة أرجائه، ستكون بجهود وجهاد الإمام المنتظر عليه السلام، وبين الوظيفة الفعلية لنا كمكلفين توجهت إلينا واجبات مختلفة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن إرشاد الجهال والدعوة إلى الله سبحانه، فإن ذلك الاعتقاد لا يلغي هذه الوظيفة، ولا يجوِّز لنا تعطيل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتخلي عن الدعوة والإرشاد المنوطين بعلماء الأمة، ولئن كانت عملية التغيير الشاملة لا تتم بجهودنا المحدودة إلا أن لجهدنا دوراً مهماً في التغيير الجزئي لا ينبغي إغفاله أو الاستهانة به.

وعليه فيجب على كل المكلفين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر بشروطهما المعروفة في كتب العلماء، كما يجب على العلماء والخطباء والدعاة أن يقوموا بواجب التوعية الدينية في شتي مجالاتها، فإن الله سبحانه وتعالى ما أمر الناس بسؤال العلماء في أمور دينهم ودنياهم إلا بعد أن أوجب على العلماء أن يجيبوا على مسائلهم.


14- من خلال كتاباتك العقائدية، برأيك كيف يمكن للعالم الشيعي أن يقنع الطرف الآخر بصحة منهجه العقائدي؟ وكذلك العالم السني كيف يمكنه أن يقنع الطرف الآخر بصحة منهجه العقائدي؟ رغم أن المدرستين الفكريتين مختلفتان في قواعدهما العلمية والفكرية؟

- لقد دأب كل فريق على أن ينافح عن مذهبه ويدافع عنه، ويحاول إبطال مذهب خصمه بما استطاع من حول وقوة، والواجب على الكتَّاب والعلماء الذين يكتبون في المجال العقائدي والمسائل المذهبية الخلافية أن يكتبوا ما يثبتون به مذهبهم وعقائدهم بالأدلة الصحيحة المستقاة من الكتاب والسنة الصحيحة، وأن يبرزوا مذهبهم وعقائدهم بصورتها الواقعية.

ومن كانت كتابته موضوعية، وأدلته صحيحة فهو المحق الذي يجب على الطرف الآخر أن يسلم له بما يقوله، بغض النظر عن الموروثات التي ينبغي تمحيصها وإعادة النظر في صحتها أو بطلانها.

وعلى العالم أن يكتب ما يراه حقا، وأما عملية الاهتداء فهي ليست منوطة به، بل هي تكليف غيره ممن اطلع على كتابه.

وهناك كتب مشهورة كتبها بعض علماء الشيعة الأفذاذ في هذا المجال، وقد أعطت ثمارها النافعة في هداية كثير من الناس الذين اقتنعوا بعد قراءتها بصحة مذهب الشيعة الإمامية، ككتاب (المراجعات) الذي كتبه العالم الرباني السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي قدس سره، وغيره من الكتب التي لا تخفى على من تتبعها.

إلا أني بعد التتبع الكثير لم أجد كتابا واحدا كتب بموضوعية في إثبات مذهب أهل السنة، ولهذا لا تجد كتابا عند أهل السنة له شهرة كتاب المراجعات عند الشيعة.


15- وبمعنى آخر.. كيف يمكن لهاتين المدرستين الفكريتين أن يلتقيا في جامع مشترك يؤسسان من خلاله قناعات مشتركة تُبنى عليها الأجيال الجديدة منعا للتنافر الذي قد يؤدي إلى التعصب الأعمى والعنف وربما الإرهاب، وبرأيك ما هو الدور الذي ينبغي أن تقوم به منطمة العالم الإسلامي بهذا الصدد، وهي تعتبر مؤسسة رسمية تساهم فيها حكومات الدول الإسلامية؟

- إن القواسم المشتركة بين الشيعة وأهل السنة كثيرة جداً، فهم مسلمون موحدون يعبدون الله سبحانه وحده، فيصلون خمس صلوات في اليوم والليلة، ويحجون إلى بيت الله الحرام، ويصومون شهر رمضان، ويزكون، ويتوجهون إلى قبلة واحدة، ويعتقدون بنبي واحد وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبكتاب واحد، وهو القرآن الكريم، وغير ذلك مما هو معروف ومشهور.

وهذه القواسم المشتركة كافية في تحقيق التآلف فيما بينهم وإنعاش روح المحبة والمودة في نفوسهم، لأن المسلمين إذا أمكنهم أن يتعايشوا مع أصحاب الأديان الأخرى فمن باب أولى يمكنهم أن يتعايشوا مع بعضهم رغم اختلاف طوائفهم، لأنهم تجمعهم كما قلنا قواسم مشتركة كثيرة ووحدة هدف ومصير؟!
----------------------------------
أعد هذا الحوار: الكاتب الأستاذ عقيل بن ناجي المسكين