الثلاثاء، 21 يونيو 2011

من جديد.. نقد الطائفية من أجل الدين والإنسان



يشكل العقل الطائفي حضوراً متواصلاً على امتداد تاريخنا وفي حياتنا المعاصرة، ليسهم من جديد في تنميط الحياة والسعي لفرض رؤية ثقافية محددة تمارسها العقول الطائفية تجاه بعضها، وعلى الرغم من كون الطائفية كمجتمع له ملامحه يعد أمراً طبيعيًّا يدخل ضمن تعدد الشعوب والقبائل والأعراق وهو جعل إلهي، إلا أن جعل التمايز الطائفي وسيلة لإقصاء الآخر أو سلبه حقوقه أو فرض ثقافة وفكر محدد عليه يكرس حالة التشرذم والتخلف في الأمة.
إن أبرز ملامح الأمم والمجتمعات المتحضرة يتموضع في تداخل الأطياف الفكرية والأعراق والطوائف الاجتماعية تحت السعي لتكريس قيم النهوض والتقدم وبناء الذات كمجموع متفاعل ومتعارف، ومع تكاثر الأعراق في المجتمعات المتحضرة وتضادها تاريخيًّا إلا أن الدولة الحديثة استطاعت أن تستفيد من تعدد المرجعيات التاريخية والفكرية للأطياف المختلفة في صنع قانون وقيم ومبادئ تحترمها كل تلك الأطياف والطوائف ليشكل ذلك مرجعية حديثة.
إن التقدم في جميع مجالات الحياة ينطلق من مبدأ أرساه الله في كتابه العزيز، وهو مبدأ التعارف بين البشر، لأنه يشكل وسيلة مهمة في تثاقف المجتمعات المختلفة وهو من أهم وسائل التغير والتطوير في أبنية الثقافة والفكر لدى الإنسان المعاصر، ولعل ثورة المعلومات وسهولة التواصل الثقافي بين المجتمعات في عالمنا المعاصر يبرز سلطة المعرفة والتثاقف عبر الأثير في تغير الكثير من المفاهيم والآراء والقيم التي نؤمن بها.
ولكي نسهم في توعية الأمة بخطر الفكر والثقافة الطائفية التي تسعى للإقصاء وسلب حرية الآخرين وحقوقهم لابد من تعرية ثقافة الكراهية التي تستند إليها النزعة الطائفية المتفشية في أمتنا والتي تدعو للقتل والحرب والعنف انطلاقاً من مبدأ طائفي يرى الحق منحصراً في ذاته وقومه وطائفته، إذ إن هذه الثقافة لا تشكل خطراً على التعايش بين المجتمعات فحسب، بل هي تمثل خطراً على الإسلام ذاته؛ إذ تسهم في تكريس صورة مشوهة عن قيم الإسلام ومبادئه السمحة، والتي أضحت تشكل الصورة النمطية الشائعة في الغرب.
هنا لابد لنا من تبني استراتيجية واضحة تهدف إلى محاصرة ثقافة الكراهية الطائفية والقضاء على أسباب تفشيها، ولا يمكننا القيام بهذا الأمر إلا من خلال عناصر أربعة تشكل بمجموعها قواعد التحديث الاجتماعي والسياسي والديني، وهي:

تكريس مفهوم المواطنة في الحقوق والواجبات:

قد يظن البعض أن مفهوم المواطنة أمر مستحدث في ثقافتنا الدينية، وهو أمر يستبطن مغالطة واضحة خصوصاً للقارئ النبيه لتاريخنا الإسلامي، وبالأخص لمرحلة التأسيس الذي قادها رسولنا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة عندما أرسى وثيقة عرفت فيما بعد بوثيقة المدينة، والتي أرسى فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حقوقاً ووجبات متبادلة بين أطراف المجتمع بمختلف قبائلهم وأديانهم، وجعل التناصر والحفاظ على الوحدة والتعايش بالمعروف وإقامة العدالة والقسط والتعاون الاجتماعي أسس المعاهدة والوثيقة التي ضمت المؤمنين بمختلف قبائلهم واليهود بمختلف قبائلهم وجعلتهم ينصهرون تحت وحدة اجتماعية تسعى لتطبيق تلك المفاهيم التي زخرت بها الوثيقة[1].
وفي حكومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) والتي زخرت بالتنوع الطائفي والعرقي والديني مارس الإمام علي (عليه السلام) سياسة عادلة لم يفرق فيها بين أطياف المجتمع لا في العطاء ولا في الحقوق ولا الواجبات، بل انتصر حتى للنصراني كبير السن الذي رآه يستعطي الآخرين، فأمر له من بيت مال المسلمين عطية يحفظ بها كرامته، وقد أرسى في الكثير من أقواله ووصاياه حق المواطنة بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو القبيلة أو العرق، ولعل في كلمته التي أصبحت مثلاً وقيمة اجتماعية ودينية ما يرشدنا إلى تلك السياسة الرشيدة في إدارة الأمة حيث قال (عليه السلام):
«الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق».
إن حق المواطنة في الإسلام يعني تساوي الأطياف الاجتماعية في كل الحقوق كالأمن والكرامة والتعليم والمال العام وحرية التعبير والاعتقاد والمساواة أمام القانون وإدارة وتنمية المجتمع، ولا يحق لأي سلطة أن تمنع المواطن مهما كانت طائفته من التمتع بتلك الحقوق التي كفلها الإسلام والشرائع السماوية كافة والقوانين والمواثيق الدولية المعاصرة.
وبقدر ما تنتقص السلطة من تلك الحقوق فإنها في الحقيقة تمارس طائفية مقيتة تولد الكراهية والعنف بين أبناء المجتمع الواحد، والسلطة بهذه السياسة تفقد مشروعيتها في تولي إدارة المجتمع، لأن قبول الشعب بسلطة ما إنما ينبع من كونها تسعى للحفاظ على وحدة المجتمع وحقوق أبنائه وتكريس مفهوم العدالة والقسط بين الناس.

بناء نظم وقوانين تكفل الحفاظ على الحقوق وتساويها:

من المهم جدًّا لبناء مجتمعات متجانسة أن تكون القاعدة القانونية التي يحتكم لها أبناء المجتمع عادلة لا تفرق بين أحد على أساس العرق أو القومية أو القبيلة أو الطائفة، وأن تكون مقنعة للجميع كونها تحفظ كرامتهم وحقوقهم ولا تكرس حالات فئوية أو طائفية اجتماعية أو دينية، وتمثل هذه القوانين ضمانة حقيقية لتكريس مفاهيم مثل المواطنة والتسامح والتعايش بين الأطياف المختلفة.
إن هذه القوانين بما تملك من احترام في النفوس وما تشيعه من ثقافة تسامح إذا كانت هناك سلطات تنفيذية وقضائية تسعى لتطبيقها والحفاظ عليها فإنها تمثل قوة ردع مهمة في تكريس حق المواطنة وردم الهوة بين أطياف المجتمع، ومثل هذه القوانين تكتسب مع الزمن الاحترام العميق في النفوس، بل ويسعى هذا المجتمع بنفسه لصيانتها والحفاظ عليها لأنه يرى فيها تحقيق مصالحه وحاجاته وكرامته.

إشاعة الحريات العامة:

تساهم أجواء الحرية في أي مجتمع وأي أمة في شيوع ثقافة قبول الآخر والتسامح والتعايش بين مختلف الأطياف والطوائف، وبقدر ما يكون المجتمع حرًّا في آرائه ومعتقداته وطريقة عيشه وأسلوب حياته، فإن ثقافة الكراهية والتطرف والتعصب والعنف تكون أقل نموًّا وانتشاراً، بل وتصبح مثل هذه الثقافة في العقل الاجتماعي العام جريمة وخروجاً عن الأطر والقوانين والأعراف السائدة في المجتمع، كونها تهدد السلم والأمن الاجتماعي الذي يمثل فلسفة المجتمع ونظرته للحياة.
إن ثقافة الكراهية الطائفية تنمو في المجتمع الذي تسوده وتسيطر عليه سلطة طائفة محددة دون إشراك الآخرين في القرار، لتفرض رؤيتها وفكرها وعقيدتها على الأطياف الأخرى، ويمثل هذا الفرض للرأي انتهاكاً للقيم الدينية ولحقوق الإنسان وكرامته، لأن الاستبداد الذي تمارسه سلطة طائفية تجاه طائفة أخرى يستبطن رفضاً لمبدأ إنسانية الآخر وحقه في الاختيار وتبني الآراء والمعتقدات التي يراها صواباً، وهذا ما رفضته شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المعنى الظاهر من قول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، فإذا كان الله لا يفرض دينه على الناس ولا يجبرهم على اعتناقه فليس من حق أي سلطة أن تفرض أي رأي على أي إنسان أو مجتمع، وهنا يكون الدين والإنسان في صف واحد ضد ثقافة الكراهية الطائفية.

قيم التفاضل وتجديد الوعي الاجتماعي:

يتشكل الوعي الاجتماعي من مجموعة قيم ورؤى تسهم بصورة كبيرة في تحديد مسار الحركة الاجتماعية، وتمثل قيم التفاضل ونوعيتها محركاً مهمًّا نحو نهضة حقيقية أو زيادة في تعميق التخلف والاحتقان بين أطياف وطوائف الأمة، فإذا كانت قيم التفاضل تنطلق من الروح القبلية أو القومية أو الطائفية، فإن قيمة الإنسان تكون بانتسابه لقبيلة ما أو طائفة أو قومية ما، هنا تفقد قيم العطاء والإبداع والنهوض الحضاري أهميتها، ليتشكل وعي اجتماعي مزيف يركز على الوهم من خلال الاهتمام بالعرق أو الطائفة، وفي هذا الجو تتبلور ثقافة الكراهية والانعزال لتشكل عائقاً كبيراً أمام ثقافة وفكر التسامح والتثاقف والتعارف بين أطياف المجتمع.
أما إذا كانت قيم التفاضل بين أطياف المجتمع وطوائف الأمة تنطلق من مقولة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «قيمة كل امرئ ما يحسنه»، وما يقدمه لخدمة المجتمع ورقيه وتقدمه في جميع المجالات فإن روح الطائفة سوف تركز على تطوير القيم التي تسهم في النهوض والتطور الحضاري.
وهنا يكون من الضروري إعادة تشكيل قيم التفاضل في المنظومة المعرفية للأمة، لتكون الحالة الطائفية أداة بناء وتشييد للنهضة، ولتحقيق هذا الأمر لابد من إعادة قراءة للخارطة المعرفية وتحديد الخلل فيها وسبل تحييد تلك القيم التي تشكل عائقاً أمام تحديث الفكر والمجتمع والسلطة.
إن إعادة تشكيل قيم التفاضل في وعي الأمة ضرورة حضارية ليس من أجل الإنسان وكرامته فحسب بل من أجل الدين وتصحيح فهمه وتقديمه للعالم المعاصر بصورته الناصعة التي أرادها الله له من كونه الدين الوسط الذي يهدف لجعل الأمة شاهدة حضاريًّا على الأمم.
قال تعالى في محكم كتابه العزيز:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.
-------------------------------------------------------------------------------- [1] راجع كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، للسيد حسن الشيرازي، ج 3 ص 272.

كتبه: الشيخ زكريا داوود

الأمة.. والكراهية والتعايش بين الطوائف

كمدخل لفهم الأزمة التي تعانيها الأمة لا بد من تشريح النسيج الاجتماعي والديني؛ لنتعرف على كل أطياف الأمة، ومدى تنوعها الفكري والمذهبي والقومي، وأهمية ذلك في دفعها للرقي، أو إضعافها وتمزيق وحدتها.
والقاعدة التي يمكن أن ننطلق منها في معرفة واقع الأمة، لا بل المجتمع البشري، هي أن التنوع هو الأصل في كل المجتمعات وكل الأمم، والأصل في التنوع هو التعدد. وتمثل هذه المسلمة الفكرية المنطلق السليم في التعامل مع المختلف، وتحقيق حالة التعايش والسلم الاجتماعي. وما نراه اليوم من عنف وإرهاب ينطلق من نفي هذه المسلمة أو تجاهلها وفرض القناعات الشخصية على الآخر، وهذا الأمر يدعو ليس إلى الصدام مع الآخر الذي نختلف معه، بل مع سُنَّة الحياة وقوانين الخلقة؛ لأن الله جلَّت قدرته خلق التنوع في كل ميادين الحياة، وجعله آيةً تدل عليه، وتخبر عن حكمته وعظيم صنعه.
قال تعالى في محكم كتابه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ[1].
ونحن عندما نقرأ حالة التنوع البشري نُصاب بالدهشة لكثرة تعددها، فنرى العربي والكردي والفارسي والتركي والهندي والصيني والأوروبي والأمريكي و..، وعندما ندخل في تشريح العرب نجد تنوُّعاً هائلاً في القبائل والعشائر واللهجات والأديان والألوان والتقاليد والثقافات وغيرها، وكذا لو قمنا بتشريح القومية الكردية أو الفارسية أو التركية وغيرها من القوميات، فإن كل قومية تتنوع بين طوائف وقبائل متعددة ومختلفة في العادات والتقاليد والثقافة. وقد ذكر مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية المصري أن التنوع البشري في عالم اليوم وصل إلى ستة آلاف جماعة أولية، ووصل عدد اللغات التي يتحدث بها البشر إلى ستة آلاف لغة كذلك[2].
ولكي ننطلق في معالجتنا لظاهرة الكراهية التي أخذت أبعاداً خطيرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، نتساءل عن الحكمة من هذا التنوع الهائل بين البشر، وكيف يتعامل الإسلام كدين خاتم مع هذا الأمر، وهنا لا بد لنا من الرجوع للوحي الذي يُبيِّن لنا الفلسفة والحكمة التي أرادها رب العباد من هذا التنوع البشري في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[3].
إن التبادل الثقافي والتعارف بين الناس هو السبب والحكمة وراء خلق التنوع البشري، والتعارف يستبطن معرفة الآخر من خلال الاقتراب منه وسماع ما يعتقده أو يؤمن به، وبقدر ما نقترب من معرفة الآخر -من خلاله هو لا من خلال المختلف معه- نحقق قيمة الكرامة عبر مبدأ التسامح والتعايش، إذ الكرامة في أحد تجلياتها هو أن نعطي لكل شخص حرية التعبير عما يعتقده ويؤمن به، وعلى من يستمع له أن يُميِّز بين ما هو صائب وخاطئ، لا أن نفرض على الآخرين قناعاتنا، والتي قد تكون خاطئة، وما نشاهده اليوم من نمو ثقافة الكراهية بين المسلمين أحد أسبابه الكبرى هو السعي لفرض الرأي الواحد، سواء كان رأياً دينيًّا أو فكريًّا أو سياسيًّا.
وفي الحقيقة إن الكثير من الكيانات السياسية العربية بُنيت على أساس الفكر الآحادي الاتجاه، وترى أن بقاءها -كسلطات أو أحزاب ومنظمات حاكمة ومتسلطة- هو بقمع المختلف وإسكات صوته، ويعد هذا أحد أهم أسباب شيوع ثقافة الكراهية، فالشعوب المقهورة وإن سكت صوتها، إلا أن ذلك يؤدي إلى نمو حالة السخط والبغض للمستبد والظالم، وهو هنا الحاكم الذي يتربع على السلطة ويبذر ثروات الأمة على ملذاته أو أطماعه الشخصية، ويجعل الشعب رهينة لخبز شعيره اليومي، بل ويفرض عليه قبول الواقع وما يراه الحاكم من قناعات.
والأكثر خطراً بين الأنظمة المستبدة هو ذلك الذي يؤطر سلطته بالدين ويتستر بعباءة بعض رجاله ليرفض التنوع الاجتماعي والمذهبي في بقعة حكمه، ويسعى إلى فرض رؤية لمذهب واحد على الأمة ككل، بل ليجعل نفسه ومذهبه هو الدين ويُخرج أتباع المذاهب الفقهية الأخرى منه، وهنا لا بد للمنبر أن يخدم أهداف السلطة من خلال توصيف الآخرين المختلفين معه بأنهم زنادقة وفاجرين، ولعل ما يدفع على الاعتقاد بأن الكراهية هي سياسة للدولة المستبدة هو أن من يقوم ببث تلك الثقافة هم أشخاص موظفون في المؤسسة الدينية ويمارسون ذلك من مواقع رسمية.
وبالطبع إثارة الكراهية انطلاقاً من المذهب أو العرق أو اللغة أو القومية أو غيرها من المبررات يُشكِّل صداماً حادًّا مع سُنَّة الخالق في عباده، الذي خلقهم مختلفين بل وجعل الاختلاف بين الناس هو الأصل، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[4].
وقال كذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[5].
ويقول المرجع المدرسي في تفسيره لهذه الآية كلاماً مهمًّا ينطلق من أحد رواد الصحوة الإسلامية ومنظريها: النظر إلى الدين باعتباره مادة للعصبيات العرقية والقومية، أو الجدليات الفارغة، أحد أسباب الخطأ في فهم الدين، وبالتالي الإيمان به. والقرآن يُصرِّح بأنه ليس ذاك الدين الذي يتخذ مادة للخلاف هو دين الله.
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ والله هو الحاكم في عباده، وكثير من الخلافات المذهبية لا يمكن أن تحلها الجدليات، بل يجب أن تتحول إلى يوم القيامة وإلى الله والمستقبل ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[6].
إننا ومن خلال نظرتنا وقراءتنا لواقع الأمة نُحذِّر من خطورة تبني ثقافة الكراهية أو التسويق لها عبر رفض الآخر، أو إقصائه، أو منع الناس من حرية التعبير عن آرائهم أو معتقداتهم الدينية، أو فرض مذهب معين على أي طائفة أو مذهب آخر. ومن الضروري أن نقترب ممن نختلف معه لنتعرف على رأيه بعيداً عن التحامل أو التشويه، وبعيداً عن المسبقات الفكرية؛ لأنها تُشكِّل حجاباً يمنع من الوصول للصائب من الآراء والأفكار.
إن ثقافة الكراهية في حال استمرارها وتبني السلطات المستبدة لها يمكن أن تُشعل حرب طوائف وقبائل يكون الجميع فيها خاسراً، وليس أمام الأمة بجميع أطيافها إلا أن تتبنى خيار التعايش والتعارف والتسامح، ولتحقيق هذا الخيار لا بد من جعله هدفاً استراتيجيًّا تُسَخِّر كل الطاقات والكفاءات الفكرية والمادية لتأسيسه كمشروع نهضوي لأمة تمتلك كل مقومات القدرة والتقدّم، ويمكننا أن نحقق ذلك من خلال الأمور التالية:
1- إقرار وثيقة للتعايش الطائفي بين طوائف الأمة.
2- سن قوانين تُجرّم المحرضين على الكراهية.
3- سن قوانين تُجرّم المساس برموز الطوائف.
4- تأسيس المناهج التربوية على فكر التسامح والتعايش، وذلك كفيل بأن يربي أجيالاً تفتقد لثقافة الكراهية.
5- فتح قنوات الحوار بين كل الطوائف وتكريس مفاهيم حرية التعبير عن الرأي.
6- بناء سياسات الدولة على محور إشراك جميع الطوائف في السلطة.
7- الاعتراف بالتنوع المعرفي والمذهبي ورفض إكراه الناس بمذهب الدولة.
8- إنهاء ممارسة التمييز من قبل الدولة لأن ذلك يُولِّد الشعور بالظلم، ومن ثم الكراهية تجاه الظالم، وهو ما يُفقِد الدولة شرعيتها، لأن الشرعية تقوم على رضا الشعوب بحكوماتها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] القرآن الكريم، سورة الروم آية 22.
[2] راجع دارسة بعنوان التنوع البشري، على الرابط الالكتروني التالي:
http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/YOUN35.HTM
[3] القرآن الكريم، سورة الحجرات آية 13.
[4] القرآن الكريم، سورة هود آية 118.
[5] القرآن الكريم، سورة الأنعام آية 159.
[6] المدرسي، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، من هدى القرآن، ج 2 ص 459 ط الثانية دار الكتاب العربي.



كتبه : الشيخ زكريا داوود

الجمعة، 10 يونيو 2011

الثقافة الفردية والتفكير الجمعي.. بين نزعة الانار وضرورة المشاركة

لقد وهبَ الخالق جلّ وعلا للإنسان باعتباره الفردي مكانة خاصة بين سائر الأفراد من المخلوقات الأخرى، وميّزه بمميزات خلاّقة لا يتحصّل عليها ما دونه من المخلوقات، وعلى رأس تلك المميزات والخواص قدرة (العقل) تلك القدرة التي يتمكن من خلالها النظر للأشياء بأبعادها الكلية؛ إذ تعطيه بُعداً استنتاجياً، لرؤية الحياة بمنظار واع ومسؤول، يضع في حسبانه مبادئه ومنطلقاته ومعاييره الفكرية، ليسعى لتحقيق تطلعاته وأهدافه.

نعمة العقل لدى الإنسان، أو القوة العقلية كما يسميها الفلاسفة، تحتل مكانة خاصة في التكوين الذاتي للإنسان التي تجعل منه كياناَ لديه تطلعاته الخاصّة، وقد دعا القرآن الكريم الإنسان للتفكر والتعقل في الكثير من آياته؛ إذ تواتر في الآيات الكريمة قوله عز من قائل: (أفلا تعقلون)، (أفلا تذكرون)، (أفلا تبصرون)، (أفلا يتدبرون)، (أفلا يعلمون)، التي تدلّ على الحثّ والتشجيع من قبل الله تعالى للإنسان على استعمال عقله وتفكيره فيما يراه أو ما يعترضه من مجريات الأمور؛ الأمر الذي يفضي للمعاصرة والشهود الحضاريين..وقد مدح الله تعالى الإنسان الذي يستخدم هذه القوة في النظر للأشياء وخصوصاً في عملية عرض الأفكار وتقويمها، فقد جاء في آيات الذكر الحكيم: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب)(1).

ذلك المكوّن الثقافي الذي يعطيه الإسلام للإنسان الفرد بالإضافة إلى دعوة القرآن الكريم إليه، هو أيضاً مقياس أعماله عندما يمثل أمام خالقه يوم البعث، إذ يأتي باعتباره الفردي، يقول تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)(2)، فيحاسب على توجهاته وأفعاله التي قام بها في حياته الدنيا.

من وجهة أخرى فقد عزّز الإسلام التفكير الجمعي ومزاولة رسم التطلعات والمسارات بشكل جماعي، يشترك فيها أصحاب الرأي والحكمة والعلم، كما أشارت بذلك الكثير من الأحاديث الشريفة المروية عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، فقد قال الرسول (ص): (يد الله مع الجماعة(، وأكد الإسلام على المشاورة كطريقة للوصول إلى الرأي الصائب؛ قال الإمام علي (ص) : (من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول)(3).

والإنسان ضمن دائرة التفكير والعمل يتجاذب بين رأيه الشخصي النابع من ثقافته الفردية، وبين رأي المجموع والجماعة المستخلص من المشاورة والتفكير الجمعي، وكثير من الإشكاليات المجتمعية الحاصلة بين الجماعات والتيارات الفكرية أو السياسية التي تسبب الانفصال عن المجموع، أو التلبّس بالاستبداد، ومصادرة آراء الآخرين؛ إنما تنشأ من نزعة الأنا، تلك القوّة النفسية لدى الإنسان والتي تصل به إلى الكثير من المهالك والويلات، وذريعة هذه النزعة ومنشؤها حق الإنسان في التفكير الفردي، إذا ما أخذ بالمبالغة إلى حد الإعجاب بالرأي الذي قد يكون مختلطاً بالهوى؛ لأن من فلسفة المشاورة هي أن يتجنّب المستشير حركة هواه في عملية تفكيره؛ يقول الإمام علي (ع): (إنما حُضّ على المشاورة لأن رأي المشير صرف، ورأي المستشير مشوب بالهوى)(4).

وقد دعا الرسول الكريم (ص) للنأي عن من يعجب برأيه (أي من يجعل رأيه مقياساً لبقية الآراء وغير ذي حاجة لها)، يقول (ص): (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك)(5).

الثقافة الفردية وخسارة الرهان

ليس عالم النظريات وحده يسير في اتجاه تغليب التفكير الجمعي على النزعة الفردية، بل للواقع المعاصر بلاغته في التعبير عن هذه الحقيقة؛ وذلك بالنظر للإعداد الذي تعدّه المنظومة الغربية في جميع مجالاتها للتذويب الثقافي للمسلمين.

فالمؤسسات التجارية الضخمة التي تمتلك أكثر من نصف العائدات المالية العالمية تغزو أسواق المسلمين من غير قدرة الأخيرة على المنافسة، وهي بذلك لا تسبب الخسارة والكساد الاقتصاديين وحسب، بل تروّج للسلع الغربية ذات المحتوى الثقافي الغربي، أو ما يسمى بالسلع الثقافية، ويكون الخاسر الوحيد هو المجتمع الإسلامي بانقياده نحو بريق الثقافة الاستهلاكية والنفعية، لتدمّر سلوكه وثقافته ودينه.

أمام هذه التحديات الحضارية الجديدة والكبيرة، لا يستطيع المجهود الفردي أن يصمد أو يؤثر في المعادلات، سواء في المجال العملي أوفي تكوين الرأي وبلورته، فالضرورة الحياتية والحضارية تقتضي المشاركة في جميع مجالاتها، ومن أهمها عملية التفكير الجمعي والمشاركة في الرأي، ومن يراهن على مقدرة الثقافة الفردية على التأثير في مسار الحضارة المعاصر، نراه واهماً وخاسراً لرهاناته أمام تحشيد الطاقات والإمكانيات وصياغتها بشكل مكوّنات مؤسسية عند الغرب.

والإحصائيات تذكر أن مبلغاً يزيد على (500) مليار دولار قد أنفق حتى عام 1999م ـ على شتى الخدمات الإعلامية خلال العام 1997م، يقابلها مبلغ (200) مليار دولار لسنة 1984 مثلاً، إن هذا المبلغ يعادل ميزانيّات دول صغيرة وكبيرة بأكملها(6).

توظيف الثقافة الفردية

كما أشرنا أن للإنسان حق التفكير وتكوين الرؤى باعتباره الفردي، ولا يمكننا أن نلغي هذا الحق الذي أعطاه الله عز وجل للإنسان على حساب التفكير الجمعي، بل هنالك مهمة تنتظر الثقافة الفردية لتأخذ دورها في البناء والمشاركة الجمعية، وذلك عبر توظيفها لصالح المجموع، فالتفكير الجمعي لا يلغي الفردية بل يدعمها ويستفيد منها، فما التفكير الجمعي إلا مجموعة من الأفكار الفردية، تحكمها حالة التنسيق والموضوعية، وملء الفراغات بينها، لتكون الفكرة في حالة راقية من النضوج والشمولية.

وعن الإمام أمير المؤمنين(ع): (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)(7)، ويقول(ع):(أمخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء)(8).وفي الآيات الشريفة: (وأمرهم شورى بينهم)(9) وقوله عزّ وجل: (وشاورهم في الأمر)(10)، فهذه العلاقة هي كما عبر عنها أحد علماء الاجتماع: (اتحاد فكري يبقى بين الأشخاص بالرغم من كونه متعدداً، أي أن كل فرد يشعر باتحاده مع الآخرين دون أن يختلط بهم، ودون أن يختلط بعضهم ببعض)(11)، أي الاختلاط الذي يلغي شخصية الفرد بمجرّد اندماجه ومشاركته للجماعة.

رؤية قرآنية

وفي إطلالة قرآنية على حالة التفكير الجمعي، نتبصّر ضرورتها للإنسان المعاصر وللحياة بصورة عامة، والذي يريد أن يؤثر في معادلاتها، ففي قوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)(12)، تتحرّك عملية الشورى وهي عملية بلورة الرأي وصياغته لتصل إلى حالة الانتصار للحق وللتقدّم في حالة وجود التحديات المختلفة.

تتحرّك عملية التفكير الجمعي (الشورى) في الآية الكريمة في خطين متوازيين، يمثلان بدورهما عملية النهوض الحضاري لأي أمة تسعى لتخطّي مدارج التقدّم والكمال، وهما:

1- خط البناء، والذي عبّرت عنه الآية الكريمة بـ(ومما رزقناهم ينفقون) أي أن المجموع يسير نحو الإنفاق الحضاري لما رزقه الله من طيبات وخيرات يصبّها في بناء الحضارة الإنسانية.

2- خط المواجهة للأزمات الناشئة من عملية البناء ذاتها، أو الأزمات المفتعلة التي تحيكها القوى التي تمارس عمليات الظلم بمفهومه الواسع، وقد عبّرت الآية الكريمة عن هذا الخط في قوله عز وجل: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)، فالجهد الجمعي للرأي يواجه أيضاً حالة البغي، سواء الفساد المتمثل بالمنكرات، أو البغي الفكري؛ قال تعالى عن الفساد والمنكرات: (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)(13)، وقال عز وجل عن البغي الفكري: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً)(14)، كما يواجه الجهد الجمعي الجهود التي تبذلها الحضارات الأخرى لتذويب الحضارة الإسلامية، والتي تتمثّل في قول الله عز وجل: (فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً)(15).

هذه هي الصورة الحضارية القائمة اليوم، فإن الجهود المالية والبشرية والعلمية توظّف وتجنّد للهيمنة الغربية على العالم بغياً وعدواً، والحل الأمثل هو مواجهة تلك الجهود بجهود جماعية مترابطة، ابتداء من عملية التفكير الجمعي، وصولاً إلى التعاون العملي؛ وهي عملية تعاون الثقافات الفردية على التفكير الجمعي.

 ---------------------------------------------

(1) الزمر: 18.

(2) الأنعام: 94.

(3) ميزان الحكمة: ج5ص211

(4) المصدر السابق: ج5ص211 .

(5) جامع السعادات: للنراقي ج1ص359.

(6) مجلة الكلمة: العدد 17.

(7) ميزان الحكمة: ج4ص36.

(8) المصدر السابق: ج4ص36.

(9) الشورى: آية 38.

(10) آل عمران: آية159.

(11) علم النفس الاجتماعي: جان ميزونّوف، ص34.

(12) المصدر السابق: ص34.

(13) النحل: 90.

(14) البقرة: 90.

(16) يونس: 90.


محمود الموسوي

معالم على طريق العلاقة بالآخر



إن الإنسان، بما هو كائن اجتماعي، محكوم عليه بالعيش في محيط إنساني مع (غيره) من أبناء جنسه. ولما كان الإنسان، كل إنسان، يطمح إلى أن يحيا حياة سعيدة يتحقق فيها أقصى عدد من شروط الكمال، فإنه يجدر به أن يقيم علاقته بالآخر على أسس صحية ناجعة تعود عليه بالخير. وإن السبيل الأفضل إلى ذلك هو فهم الأمور التي تميز المرء عن غيره حتى يتم تحديد حقوق كل واحد وواجباته تحديداً يمنع من وقوع الصدام المدمر؛ فالصدام قد ينتهي في بعض مراحله إلى انتصار طرف تتوفر عنده أسباب القوة أكثر من الآخر، لكن الطرف المهزوم سوف يظل يسعى إلى تعديل موازين القوى حتى يذيق المنتصر طعم الهزيمة، وإن لم يستطع فلا أقل من أن يؤلمه بعض الإيلام.

حتى لا تقع هذه المحاذير، ينبغي على بني البشر أن يمدوا بينهم جسور الحوار، علماً أن أدواته قد توافرت اليوم كما لم تتوافر في أي وقت مضى؛ فهذه شبكة الإنترنت والفضائيات قد لمت شعث البشر كلهم في قرية صغيرة جمعت قاصيهم إلى دانيهم. وها نحن نعرض فيما يأتي لبعض القضايا التي تخص الحوار مع الآخر، ناظرين إليها من وجهة نظر إسلامية تقوم على أساس تحليلي لبعض الأحكام الإسلامية التي تتناول العلاقة بالآخر، كما وجدناه في آي الذكر الحكيم، وسنة النبي الكريم (ص)، وسيرة الإمام المبين(ع).

من هو الغير؟

وضع مجمع اللغة العربية بالقاهرة تعريفاً للغيرية، فقد ورد في المعجم الوسيط الذي أصدره المجمع، (الغيرية: كون كل من الشيئين خلاف الآخر)؛ فأوجه الخلاف والتمايز هي التي تجعل من هذا الشيء غير ذلك الشيء؛ وهذا يعني أن أحد الشيئين مركب من أكثر من معنى، وهو يختلف عن الشيء الآخر بمعنى واحد على الأقل.

بما أن الإنسان مركب من جسم ظاهر، ونفس عاقلة (ذات) باطنة، فإن أوجه الخلاف بين البشر تقع في فئتين، جسمانية ونفسانية؛ يمتاز بعض البشر عن غيرهم بصفات جسمانية، منها الذكورة والأنوثة، والعرق واللون، ويختلفون فيما بينهم بصفات نفسانية، منها الخصائص العاطفية كالرقة والغضب، والخصائص العقلية كالذكاء والإبداع.

إن هذه المفاهيم تقسم الناس إلى فئات متمايزة ليس بوسع الفرد أن يغير من انتمائه إلى إحداها؛ فهي ليست من صنعه؛ ولهذا فإن قدرته على تعديل الأوصاف التي يخلق بها محدودة جداً؛ فمن يقدر على تغيير عرقه ولونه؟ وأي إنسان استطاع أن يرتفع بنفسه من رتبة منخفضي الذكاء إلى رتبة فائقي الذكاء؟.

لكن هاهنا خصائص أخرى تميز بين الناس، وهي من صنع الناس أنفسهم؛ فالإنسان بما أوتي من عقل، لديه عوالم رحبة يمكنه الانتماء إلى ما يشاء منها. وهذه العوالم هي: الأديان والأحزاب والنوادي والجمعيات وغيرها.

ولا يخفى أن كلا منا هو على المستوى النظري، أما عملياً فإنه يعسر على كثير من الناس اختيار انتمائهم الإرادي، فضلاً عن تغييره؛ فالبيئة التي يخلق فيها الفرد قد لا تضع أمامه سوى خيار واحد، وحتى لو كانت الخيارات متعددة فإن التربية التي تلقاها الفرد قد تحدّ من إرادته في الاختيار والانتماء الجديد.

إن الانتماءات التي أوردناها آنفاً هي انتماءات ينتسب المرء إليها بنشاط إرادي، ونظراً لذلك ولكون الإرادة الحرة من الخصائص الجوهرية لكل فرد، ولتباين الناس في الميول والاتجاهات وطرائق التفكير، فقد اختلفت انتماءات الناس دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وهلم جرا.

حقوق الغير

عرفنا أن وجود الغير قائم بوجود الاختلاف؛ فلولا الاختلاف لكان الناس شعباً واحداً، ولكان المتدينون على مذهب واحد، ولكان العاملون بالسياسة حزباً واحداً. فحقوق الآخرين مبنية على الحق في الاختلاف، وعلى الحق في كون المرء على أمر يميزه عن الآخر. إذاً، هاهنا نوعان من الحقوق: حق الاختلاف، والحقوق المترتبة عليه. وبما أن الآخر إنسان فإن الحقوق المترتبة والمشار إليها هي حقوق الإنسان، فإذا نال حق الاختلاف، نال بالضرورة حقوق الإنسان.

وإذا افترضنا الآخر مستحقاً لهذه الحقوق، فمن الذي يرسم حدودها ويتولى حمايتها؟ وإلى من يكون الرجوع في تحديد سبل توجيه الاختلاف؟ ولمن الحكم إذا وقع النزاع بين الأغيار؟.

لمن الحكم؟‍

إن قوى البطش لعبت قديماً وحديثاً دوراً بارزاً في فضّ الخلافات وفي توجيه الاختلافات في كثير من الأحيان، وغالباً ما يقع ذلك حينما لا يكون الطرفان، الأقوى خاصة، خاضعين لسلطة حاكمة واحدة. أما في حالة وجود سلطة كهذه فإنها ربما كانت سلطة كاهن مشعوذ، أو سلطة شيخ القبيلة يمثل الأعراف المتوارثة، أو سلطة دولة ذات مؤسسات قائمة على تمثيل إرادة أكثر المواطنين، أو سلطة خليفة الله في أرضه، نبياً كان أو إماماً.. إلى غير ذلك من أشكال السلطة التي يسلم لها المختلفون بالحكم.

أما سلطة الكاهن فلا وقوف لنا عندها وأما سلطة الشيخ والدولة فإن كليهما ينطوي على أن المرجع في الحكم هو خبرة بشرية انبثقت عنها مبادئ قانونية عامة جعلت إطاراً لا تخرج عن حدوده أفعال الناس المنضوين تحت لواء السلطة.

وإذا كانت التشريعات القانونية قد تحسنت تحسناً كبيراً بارتقاء مستوى الدولة وتراكم الخبرة البشرية، فإنها لم تتخلص من عيبين اثنين: كونها موقوفة على أهواء الناخبين، وصعوبة الوصول إلى اليقين العلمي في مبادئهما، وإن كنا نقطع بأن كثيراً من المبادئ القانونية هي حقائق مطلقة لا مجال للطعن فيها، وإن كان مصدرها الخبرة البشرية والاجتهاد الشخصي.

أما العيب الأول، فقد رأينا أمثلة على أهواء الناخبين في تشريع بعض البلدان للزنا واللواط وقتل بعض المرضى وحرمان الجنين من حق الحياة بالسماح للحامل بالإجهاض وغير ذلك. وإلى ذلك، فإن عدم ميل هوى الناخبين إلى قضية من القضايا قد يسمح بارتكاب جرائم فظيعة بدم بارد.

وأما العيب الثاني فيكمن في المنهج الذي يتبع في استنباط المبادئ القانونية. إن عملية الاستنباط تحمل طابع التجربة الاجتماعية والثقافية لرجل القانون وكذلك تربيته و ذوقه، وتتأثر بعواطفه وميوله، مما يجعل التجرد والموضوعية أمراً صعباً، ولا نقول مستحيلاً. يضاف إلى ذلك أن إخضاع الجماعة الإنسانية للملاحظة والتجريب الضروريين، من أجل الوصول إلى الدقة العلمية، أمر مناف لكرامة الإنسان.

فأين هذه التشريعات من الشرع الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا يأمر إلا بما فيه خير الناس ولا ينهى إلا عما فيه شرهم؟ فمن ذا الذي يؤمن بأن الله حكيم عليم، ثم لا يؤمن بأنه تعالى محيط بحقائق الوجود بما في ذلك حقائق الإنسان ومجتمعه؟.

هذا عن الشمول والإحاطة، وأما كون الأحكام الإسلامية الإلهية في صالح الإنسان، فمبني على أمرين: إرادة الله تعالى الخير للناس، وتنزه ساحته تعالى عن التأثر بالأهواء الشخصية التي يتصف بها البشر.

فمن جهة إن السبب في خلق الخلق ليس انتفاع الله بهم، لأن حال الله تعالى خلاف حال المخلوقين الذين يتوقف ملكهم على وجود المملوكين، وتتحدد عظمتهم بعدد المملوكين وأصنافهم، وإنما السبب في ذلك إرادة الله تعالى أن ينيل خلقه من رحمته ويرزقهم نعيمه. وفي هذا ورد أن الصادق (ع) قد سئل عن علة خلق الله الخلق، فقال: (إن الله لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة، ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد)(1).

ومن جهة أخرى، إن براءة ساحة الله تعالى من شوائب الإمكان تدلنا على تنزهه عن نوازع الشر والظلم وغير ذلك مما يتصف به البشر المجبولون على العواطف المتباينة والأهواء المختلفة التي تجذبهم ذات اليمين وذات الشمال.

بناءً على هذين الأصلين، أليس لنا أن نعجب ممن ينتقصون من كفاءة الإسلام وأهليته للحكم وهو الدين الخاتم المتضمن لجميع المبادئ التشريعية الشاملة والمكرسة لنفع البشرية؟.

أساس الحكم

إذا عرفنا الفرق بين الحكم المستمد من المصدر الإلهي، والحكم المستنبط من الخبرة البشرية، فلنعرف الأساس الذي يفترض أن يقوم عليه الحكم في إعطاء المخالف حقوقه في الحياة والكرامة وما يترتب عليهما. إن نيل الآخر لتلك الحقوق يبنى على استحقاقهم لها، وعلى تنازل الطرف الآخر عن الاستئثار بها.

أما استحقاق المخالف للحقوق، أسوة بالموافق، فبديهي أن الاختلاف لا يخرج المرء من دائرة الإنسانية، ولا ينزع عنه الصبغة البشرية، ولا يدخله في حظيرة الحيوانية حيث تناله العبودية والتنكيل والتسخير، وبما أن أبرز خصائص الإنسانية هو العقل، فإن حرمة الطبيعة البشرية يترتب عليها حرمة النشاط العقلي وثماره من تفكير واعتقاد وتعبير؛ وعليه فإن ظفر المخالف بالحقوق العامة التي تنتظم بني البشر جميعاً، قائم على الخصائص المشتركة التي تشكل الوجه الآخر للغير، وفق قاعدة كون الناس كلهم نظراء في البشرية والخلق.

وإذا تبين لنا كون الآخر مستحقاً لما ذكرنا من حقوق، فمن أي شيء يكون منطلق الطرف الآخر في تنازله عن الاستئثار بهذه الحقوق؟ إن أول ما يخطر في الذهن هو الخلفية الأخلاقية؛ فإذا كان الطرف الآخر ممن يحترم إنسانية الإنسان ويخشع لحكمة الله تعالى في ما استودعه في القالب البشري من آيات تأخذ بمجامع القلب وتملأه انبهاراً بقدرة الله وحكمته، فسيكون للقواسم المشتركة التي تجمعه بالآخر الكلمة الفصل في الإقرار له بما يستحقه.

ثم إن هاهنا أمراً آخر يدفع العقلاء دفعاً إلى التسليم بعضهم لبعض بحق الاختلاف وما يترتب عليه من حقوق، ألا وهو نشدان السلام والنفور من العنف؛ فما الذي سيجره التنازع العنيف غير القلق المعنوي والخراب المادي؟ لقد رأينا كيف أن سيادة فكرة استئثار فئة واحدة بجميع الحقوق وحرمان المخالفين منها، قد جرت على البلدان المتخلفة الصراعات والخراب واتضح لنا كم أحسن أهل البلدان الراقية حينما أقروا بعضهم لبعض بحق الاختلاف وأبعدوا الجيش والشرطة، بما يمثلان من قوة عنيفة، من ساحة التنافس والحوار، لكن قوماً شيدوا حقوق الغير على غير ما ذكرنا من أسس؛ فقد دعوا الناس إلى التسليم للآخر بما يستحقه بناء على ما أسموه بـ(نسبية) الحقيقة أو المعرفة.

إن المعرفة أو الحقيقة النسبية هي(مزيج من الناحية الموضوعية والناحية الذاتية للفكر المدرِك)(2)، وهذا يعني أن كون المعرفة نسبية يقتضي أن لا يتساوى اثنان في إدراك حقيقة من الحقائق، ما دام الناس مختلفين في الناحية الذاتية من حيث قدرة الإدراك والذكاء والعاطفة والخبرة وغيرها من الخصائص الذاتية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يستحيل التواصل بين إنسان وآخر، ويصبح الحوار بين البشر (حوار طرشان)!.

وإذا أسقطنا هذا الكلام على علم الأخلاق الذي يدرس المبادئ التي تحكم سلوك البشر، خرجنا بالأخلاقية النسبية التي تقول إن الأخلاق في كل الحالات (جزئية ومتغيرة ونسبية تختلف باختلاف بيئاتها وتتبدل مع تقلب الظروف والأوضاع التي تنشأ في ظلها)(3)؛ولنتصور الفوضى والعبثية التي ستعصف بالفرد والمجتمع على السواء.

إن الحل الوحيد هو الاعتراف بالحقائق الأخلاقية المطلقة، فالإسلام لم يدع مسألة تتعلق بالإنسان، فرداً أو مجتمعاً، إلا وله موقف مفصل منها، نظراً لشموله وإحاطته بدقائق الأمور وحقائقها، وإنك ترى ذلك من أصغر الأمور كالغرامة في الخدش، إلى أشد الأحكام تفصيلاً كالأحكام الاقتصادية والعائلية، وإلى أعقد الأفكار كالعلوم الإلهية.

وفي البداية نقول إن الإسلام قد أبعد عن مفهوم الآخر جميع الصفات اللاإرادية التي لا يستطيع الإنسان نزعها عن نفسه، ففي خطبة الوداع شدد رسول الله (ص) على القواسم المشتركة بين البشر بكلمته الموجزة الشاملة التي خاطب بها المسلمين قائلاً: (أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد.. أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب) (4).

ويتضح لنا ما في موقف الإسلام هذا من أمر خارق للعادة حينما نعلم أن أحد أعظم المفكرين في التاريخ قد فشل في الارتفاع فوق مستوى العصبية الضيقة؛ فلقد كان أرسطو يرى أن اليونانيين بطبيعتهم أعلى من الآخرين الذين سماهم برابرة، وأنه من الطبيعي أن يكون الأجانب عبيداً لليونانيين، وكذلك توهم الألمان في النصف الأول من القرن العشرين، فالشعب الألماني قد رفد الحضارة الإنسانية طوال أكثر من قرنين من الزمن بروافد رائعة من الأدب والفلسفة والموسيقى وغيرها، لكنه استجاب بعد ذلك لدعوة عنصرية ضيقة أحرقت العالم بنيران الحرب.

من تبعني فإنه مني

إذا كانت الخصائص العرقية التي يولد بها المرء لا تؤخذ في الإسلام معايير للتفرقة بين الناس، فما الذي يؤخذ إذاً؟ إن المصادر الإسلامية تسلم بوجود الاختلاف بين البشر وتعتبره سنة كونية، كما في قوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)(هود: 118) ولأجل هذا جاءت المعايير الإسلامية التي ينفرد وفقها الآخر المخالف لتلك المعايير.فيعلن القرآن الكريم وتصرح السنة المطهرة بامتلاكها للحقائق المطلقة والقيم الموضوعية التي يجب على الناس أن يتمسكوا بها ولا يجوز لهم جحودها. وتتناول هذه الحقائق والقيم مجالات الوجود المعنوي والمادي، والإنساني وغير الإنساني، وبقدر ابتعاد الإنسان عن هذه الحقائق والقيم فإنه يسلك في نظام الآخر، فما هي تلك المعارف والقيم؟.

إنها معارف في القلب وأفعال وأقوال بالجوارح، وهي جميعاً شؤون إرادية يستطيع الإنسان أن يأخذ بها وأن يتركها، وهي ليست كالصفات الجسمانية والأفعال الاضطرارية التي ليس للإنسان حيلة معها. وهي اعتقادات تتناول وجود الله تعالى وتوحيده والملائكة وإرسال الرسل وإنزال الكتب وحشر الخلق إلى الجنة والنار وما شاكلها، وهي أيضاً عبادات كالذكر والصلاة والصوم، وهي أخلاق ينبغي على الإنسان التحلي بها، كالصدق وأداء الأمانة، وأخلاق يجب على المرء اجتنابها كالكذب والغيبة.. فإذا التزم الإنسان تلك الشرائع، سلك في جملة المؤمنين، وإذا جحدها، سلك في جملة الأغيار.

أما المصادر التي تحددها ويرجع الناس إليها عند الاختيار؛ إنها الكتاب المنزل من الله تعالى على رسوله الخاتم (ص) وسنة ذلك الرسول (ص). ويصرح القرآن الكريم بإحاطته العلمية، وهو قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (الأنعام: 38). ويبين صلة سنة النبي (ص) بالمصدر الإلهي فيقول: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 3-4).

(لا إكراه في الدين)

إذا كان الإسلام قد رسم بدقة الحدود التي يقف وراءها الآخر، فإنه في نفس الوقت قد أولى عناية بالغة بالأرضية المشتركة التي يقف عليها المسلم والآخر، ومن ثم فإنه أتاح للآخر التمتع بحقوق رائعة قلما يوجد نظيرها في غيره، وفي كلمة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) إجمال بليغ لذلك كله. صحيح أنه أقام الأخوة على الدين وجعله علاقة تميز المسلم عن غيره، ولكنه في الوقت نفسه أكد على القواسم المشتركة الكامنة خلف تلك العلاقة؛ فبين المسلم وغير المسلم نقاط التقاء كثيرة ترجع إلى أنهم جميعاً نظراء في الخلق، في الحياة والعقل والصورة الإنسانية. وإن المتمعن في التشريعات الإسلامية يرى أنها منحت لغير المسلمين حقوقاً موزعة على المعاني التي ذكرنا بعضاً منها، وأول هذه الحقوق حق التفكير والاعتقاد والتعبير عن العقيدة؛ ففي قوله تعالى:(لا إكراه في الدين)(البقرة: 256) أمان لغير المسلم من أن يجبر على ترك دينه، وصون لحريته في أن يكون على عقيدة خاصة، وممارسة الشعائر المختصة بها. ولم يقتصر الأمر على أهل الكتاب الذين أقروا على دينهم، فهاهم المنافقون قد كفروا بعد إيمانهم، وعلم الرسول (ص) حقيقة أمرهم، لكن لم يتعرض لهم بسوء، حتى أن كبيرهم عبد الله بن أبي قد وقع في المسلمين وأساء الأدب تجاههم وتجاه الرسول (ص)، وحينما أشير على النبي (ص) بقتله قال: (بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا) (5).

وأما بقية الحقوق فيجمعها قوله (ص) :(ألا من ظلم معاهداً أو نقضه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة) (6). إذا تأملنا هذا القول لرأينا أنه قد نهى عن ظلم غير المسلمين، علماً أن الظلم مفهوم واسع جداً يشمل وجوه المعاملة في الكثير من المواضيع، ونهى عن التكليف فوق الطاقة مما يستلزم الرفق واللين، ونهى عن التعدي على ملك الآخرين، وهو بذلك قد حفظ لهم حق الملكية.

التعارف

نخلص من كل ما ذكرنا إلى أن الإسلام لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً يستدعي العداوة ويحمل على طلب تصفيته بكل الوسائل، وإنما اعتبره نظيراً في الخلق وأهلاً للتعارف، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )(الحجرات: 13). فكيف يتم التعارف؟ وما هي أهدافه؟.

إن الاتصال هو الخطوة الأولى التي يجب أن يخطوها الأفراد والجماعات بعضهم نحو بعض في سبيل التعارف. إذن، الشرط الأول في الحوار هو الاتصال وحرية تدفق التعبير وحرية المعلومات بين طرفي الحوار، حتى لا يكون الحوار حوار طرشان. لكن المهم في الحوار ليس هو الحوار ذاته، وإنما نتائجه. وإننا إذا تأملنا في النتائج المحتملة لأي حوار لخرجنا باحتمالات أربعة: إن الحوار يفضي إما إلى اتفاق المتحاورين أو إلى اختلافهما، ويكون الاتفاق إما بنزول أحد الفريقين على رأي الفريق الآخر، وإما بنزول كل من الفريقين عن رأيه، لما فيه من شطط، واعتناقهما الحقيقة التي تجلت لهما معاً نتيجة للحوار. أما الاختلاف فيثمر إما تقبل المتحاورين بعضهم لبعض، وإما خصومة شديدة وحرب مفتوحة يشنها كل طرف على الآخر لتصفيته وإلغائه بشتى الوسائل ومهما كلف الأمر.

ولنتناول أولاً الاحتمال الأخير، فنقول بصراحة إن الوصفة السحرية لإشعال الصراع بين المختلفين هي التوسل بالعنف كأداة في الحوار لأن (العنف لا يولد إلا العنف) (7)، كما يقول الإمام الشيرازي (قدس سره)، إن أوجه الاختلاف تجعل عند طرفي الحوار استعداداً للتنافر فيما بينهما، فما بالك إذا أذكى هذا الاستعداد المبادرة العنيفة من أحد الطرفين؟ إن النتيجة ستكون استعار النزاع بينهما؛ مما يؤدي إلى القضاء على كل أمل في الخروج من الحوار بثمار إيجابية تعود بالنفع على الطرفين؛ ولهذا نرى في الذكر الحكيم والأخبار الواردة عن المعصومين (ع) التحذير من الآثار السلبية للعنف، والنصح باستبداله بالرفق الذي هو أحمد عاقبة، يقول تعالى:(ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت: 34) ويقول رسول الله (ص):(من علامات المؤمن اللاعنف)(8)، وورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (كن ليناً من غير ضعف، شديداً من غير عنف)(9)، فلا بأس في أن يكون المتحاور صلباً في رأيه، إذا علم أنه حق، ولكن يجب أن يحذر من الانزلاق في مهاوي العنف الذي لا تحمد عقباه.

وليس أحسن من أن تتضافر النية الحسنة مع الأمان ورحابة الصدر وسعة الحلم، فإذا كان المتحاوران كذلك، تيسر جريان الحوار بسلاسة، وأمكن الوصول إلى النتائج الطيبة. إن العوامل التي ذكرناها تمكن الذي يتحلى بها من أن يرى القواسم المشتركة بينه وبين نده، بدلاً من تركيز الانتباه كله على نقاط الاختلاف، وهي تيسر عليه التعامل إيجابياً مع نقاط التمايز تلك. وبالنتيجة ينصرف الفريقان إلى ترسيخ الآراء المشتركة والتعاون في ذلك، وإلى تضافر الجهود لتحقيق الأهداف الواحدة، ويتحاشيان الاحتكاك في المفاصل المتنافرة ما أمكنهما ذلك، ويحرصان على تقليل الآثار السلبية للاحتكاك، وعلى التعامل معها بحكمة وحلم، فلا تؤدي الشرارة الصغيرة إلى حرب مدمرة، وبذلك يتحقق التواصل الصحي بين الأفراد والجماعات، والتعايش بين الأفكار والأهداف المتناقضة، وهو أمر تشهد له تجارب الديمقراطيات الحديثة وتبرهن عليه الدراسات العلمية. ومن ذلك ما خلص إليه الباحث (جون إلستر) قائلاً: (ربما تتعايش المعتقدات المتناقضة في سلام لفترة طويلة إذا كانت تتعلق بمجالات حياة مختلفة)(10).

ثمة طريق آخر للخروج من الحوار بموقف موحد ألا وهو إقناع أحد الطرفين الطرف الثاني بموقفه. هذا يعني بصراحة إلغاء أحد الطرفين للآخر، لكنه إلغاء سلمي معنوي للفكر والموقف المغاير، بخلاف ما ذكرناه آنفاً من ثمرة العنف، ونعني بها الإلغاء القسري المادي للآخر؛ فإذا كان الإلغاء المادي بالإكراه أمراً مذموماً جداً، فإن الإلغاء المعنوي بالإقناع ليس كذلك، بل إنه الهدف الخفي الذي ينشده كلا المتحاورين عندما يجلسان للحوار. وما الحوار إلا دعوة مهذبة يوجهها أحد الفريقين إلى الآخر لاتباع رأيه. وهذا لا تأباه العقول ولا تمجه النفوس، بشرط أن تتوفر في الحوار جميع شروطه الضرورية، لا أن يكون بصورة غسيل دماغ يقوم به الطرف المحتكر لوسائل التأثير والإغواء، بينما يكون الآخر مجرداً من كل حرية سوى حرية شكلية لا يملك من وسائل تفعيلها كثيراً ولا قليلا.

إن نجاح الحوار بتقبل الطرفين بعضهم بعضاً أو باتحادهما على موقف واحد، يتطلب أمراً أصله في نبذ العنف الذي ذكرناه في أول الكلام عن الحوار، ونعني به التحرر من التعصب. وفي البداية نقول إن التعصب لا يعني ما يفهمه كثير من الناس اليوم؛ إنهم يقولون إذا رأوا شخصاً ملتزماً شرائع دينه فهو متعصب أو متطرف أو غير ذلك من الصفات المذمومة بين أبناء هذا الزمان. وهذا الحكم والقول غير صحيح، وحتى نعرف المعنى الصحيح للتعصب نورد أولاً هذا الخبر عن الإمام زين العابدين (ع) إذ سئل عن العصبية فقال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين). إنه لمن الطبيعي أن يميل الرجل بعاطفته إلى القوم الذين نشأ بينهم، لكن إذا رأى قومه ينغمسون في الشرور، ويرتكبون الآثام، فلا يجوز أن ينقاد مع عاطفته تلك، ولا أن يفضل قومه هؤلاء على غيرهم من الأقوام الذين هو للخير فاعلون، وبالطاعة ممتثلون، بل يجب أن يقر لأهل الفضل بفضلهم، وأن يذم أهل الإثم بإثمهم ولو كانوا قومه. فإذا عممنا هذا المعنى على الناحية الفكرية، خرجنا بنتيجة تفيد أن التعصب المذموم هم أن يرى المرء رأيه حسناً وخيراً من آراء الآخرين، حتى لو كان رأيه باطلاً، وأن يتمسك بموقفه، حتى لو تبين له مناقضته للحق والحكمة، وأن يكون اعتداده برأيه وموقفه هو الدافع للتمسك بهما وليس موافقتهما للحق.

وجادلهم بالتي هي أحسن

تبين لنا مما سبق أن الحوار بين الأغيار يتأثر في نتائجه بالأسلوب الذي يجري به الحوار وبالذهنية التي يمثلها المتحاوران. فالعنف هو أقصر السبل إلى وأد الحوار في مهده، وإلى تفجير الموقف بين الفريقين، وكذلك فإن الذهنية الضيقة والنية السيئة، والتعصب المقيت، ليس ضررها على الحوار أقل مما ذكرنا. أما الانفتاح على الحقيقة والرغبة في السلام والتواصل والتزام الاحتجاج العقلي السلمي، فهي عوامل عظيمة النفع في الخروج من الحوار بنتائج مرضية للجميع. وهذه الأمور الأخيرة التي ذكرنا هي صفات أسلوب الحوار والدعوة، في المصادر الإسلامية قرآناً وسنة.

فمنذ البداية يتوجه القرآن الكريم إلى المخالف بالإنصاف فيقول:(وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)(سبأ: 24). وينزع المخاوف من صدره ويزرع فيه الثقة ويؤمنه من أن يجبر على ترك موقفه، فيقول: (لا إكراه في الدين)(البقرة: 256)، وبعد هذا يأتي الأمر المنطقي، ألا وهو سلمية الجدل والمحاورة، فاستمع إلى قوله تعالى:(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل: 125)، وتأمل هذا الأسلوب القرآني الرفيع في التوجه إلى محاورة الآخر؛ فعماد الدعوة إلى سبيل الله، هو الحكمة والموعظة الحسنة. والحكمة هي الشيء الذي يعرف به حسن الأفعال من قبيحها، والموعظة هي تبيين مضار الشرور، بغية انصراف السامع عنها؛ فالمسلم مأمور أن يكون أسلوبه في الحوار أسلوباً حسناً، أي رفيقاً ليناً قائماً على التعليم والتبيين، لا على الغلظة أو الفظاظة، ولا على التمويه أو المغالطة.

وبالجملة فإن أسلوب الاشتباك مع الآخر في الإسلام، بالدرجة الأولى، هو أسلوب الحوار الفكري والعلمي المستند على معارف القرآن الكريم. ولقد وصف تعالى مجادلة المسلم للآخرين بالقرآن بأحسن وصف، إذ قال:(وجاهدهم به جهاداً كبيراً)(الفرقان: 52)، فهل بقي لبس في أولوية الجهاد الفكري في الإسلام؟ ألم يتضح أن الإسلام ينظر إلى الآخر بوصفه كائناً (مفكراً) لا عبداً مسخراً؟ ألم يتبين أن الإسلام يريد من الآخرين أن يدخلوا فيه أفواجاً عن قناعة متولدة عن التفكر الصحيح في الحجج الصحيحة، لا أن يساقوا إليه سوق البهائم البرية بعد ترويضها؟ نعتقد أن كل هذا يكفي للدلالة على احترام الإسلام لعقل الإنسان وحرية تفكيره، كيف لا وهو يدعو الناس إلى أن ينزعوا عنهم العبودية بعضهم لبعض، فيكونوا متساوين أمام الله الواحد: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله)(آل عمران:64).

ازدواج المعايير

ومع هذا يتهم الغرب الإسلام بالإرهاب. فهل مرد ذلك إلى الجهل بحقيقة الإسلام أم إلى تجاهلها؟ إن ازدهار مراكز البحث وعراقتها تنفي كون الغرب جاهلاً بحقيقة الإسلام، فهم يعرفون الإسلام جيداً، ويدركون نصاعة وجهه وبراءة ساحته من الإرهاب، لكن المسألة مسألة تجاهل ومغالطة وتحيز في الحكم على الآخر. إن نظرة الاستعلاء التي تتصف بها القوى الاستعمارية والإمبريالية لكفيلة بحرف الغرب عن جادة الإنصاف عند الحكم على الآخر - الإسلام- فمنذ عهد التوسع الاستعماري ابتلي الغرب بازدواجية المعايير؛ فهو يلتزم مبادئ الإخاء والمساواة والإنسانية في بلدانه، ويضرب بها عرض الحائط في التعامل مع بلدان الآخرين. واليوم يحاكم الغرب بعض المفكرين حينما شكك في حجم الأذى الذي ألحقه النازيون باليهود، ويقاطع النمسا لأن بعض أعضاء حكومتها له سياسة معادية للأجانب، ومع هذا فإنه لا يحرك ساكناً في وجه الدعاية التي تصم مئات الملايين من المسلمين بالإرهاب. فانظر أيها القارئ الكريم إلى دعوة الإسلام الناس للتعارف من أجل (اتحاد البشرية)، وإلا نعيب ذلك الأميركي الذي ينذر بصراع الحضارات، وتأمل ووازن.

 --------------------------------------------------------

(1)محمد تقي المدرسي، العرفان الإسلامي، المركز الثقافي الإسلامي، ص415.

(2)محمد باقر الصدر ، فلسفتنا، ص 125.

(3)مجموعة من المؤلفين، علم النفس والأخلاق، منشورات وزارة التربية، دمشق - سورية 1995 ص269.

(4)أبو محمد الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان ط5 1974 ص31.

(5)ابن هشام السيرة النبوية، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان ج3 ص305.

(6)محمد باقر الصدر، مصدر سابق، ص473.

(7)محمد تقي باقر، اللاعنف، عنوان المؤمن، منشورات المسلم الحر، واشنطن - أميركا ط1 - 2001 ص25.

(8)المصدر السابق ص116.

(9)المصدر السابق ص7.

(10)مجموعة من المؤلفين، نظرية الثقافة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1997 ص418.


وفيق فايق كريشات

نحو إعادة الاعتبار لمفهوم النقد والنقد الذاتي



 دفعت الاخفاقات المتكررة -التي عانت منها أمتنا العربية والإسلامية، وأدت (في ما أدت إليه) إلى انكشاف الشعارات البراقة، وافتضاح الخطابات والمشاريع الأيديولوجية الشمولية الغارقة في الإطلاقية الحدية، وتهوين المشاكل والتحديات المزمنة والمعقدة- دفعت العقل العربي والإسلامي إلى إعادة صياغة وطرح أسئلة إشكالية جديدة وصعبة تمس الذات، وتتحرك من موقع ومنطلقات مغايرة ومختلفة عن سابقاتها من الأسئلة، كما جعلته ينفتح بجرأة نادرة على مواقع وأمكنة كان محظوراً عليه في السابق دخولها.

إذن لقد كان لهشاشة الواقع الاجتماعي - وعمق أزماته وإخفاقاته المتوالية- الفضل الأكبر في صياغة أسئلة وأجوبة ودروس عملية جديدة أكثر عمقاً والتصاقاً بمعطيات وأحوال هذا الواقع المأزوم.. (وقد وجد العقل العربي والإسلامي نفسه على موعد مع متغيرات بنيوية جديدة ليس بالضرورة أن تقدم حلولاً جاهزة أو مصاغة في قوالب أيديولوجية قابلة للتطبيق (خصوصاً وأن هذا العقل نفسه يستهدف بناء حاضر قوي يؤسس جوهرياً لمستقبل واعد مشرق)، وإنما فتحت المجال لإنتاج فكر جديد له صفة وطابع المعاصرة، متسم بالموضوعية العلمية إلى حد كبير. لأنه يهتم ويدرج في اعتباراته التحليلية جميع المعطيات التاريخية والمعاصرة والمستقبلية)(1). ويظهر كذلك -في استجابته لواقعه من خلال اشتغاله بقضاياه الحساسة- مواكباً تطوره وحركته في جميع الاتجاهات، راصداً العوامل المختلفة التي تتحكم في تطوره أو إخفاقه. وقد تحرر إلى حد كبير من الإطلاقية التي وجهت مساراته فيما مضى، وتبين له عقم نتائجها لأنها فصلته عن واقعه، ورمت به بعيداً في متاهات الأحلام والتنظيرات الفارغة من أي مضمون واقعي.

ويمكننا التأكيد هنا- بعد النظر إلى أداء ومسيرة الحركة الإسلامية المستنيرة حالياً- على أن عقل (تلك الحركة) قد أصبح أكثر وعياً وانفتاحاً واتساعاً، ووصل إلى المستوى الذي استطاع من خلاله إنضاج مفهوم النقد والنقد الذاتي، بالرغم من إحجام تيارات ونخب بارزة من الإسلاميين عن الأخذ بمبدأ النقد الجاد والواعي، أو أن تمارس (هي) بنفسها مراجعة أفكارها وبرامجها ومواقفها والتزاماتها.

إننا نعتقد أن المرحلة الحاضرة - التي تعاني فيها المجتمعات العربية والإسلامية من مشاكل اقتصادية وسياسية وثقافية متعددة - هي في أشد الحاجة إلى بناء عملية النقد والنقد الذاتي بطريقة حضارية إنسانية تتسع للجميع.. وفي نفس الوقت هي بحاجة أيضاً - كما ذكرنا- إلى توعية وترشيد سلوكي منظم في تكوين ممارسة نقدية فاعلة، وقادرة على الاستجابة لتحديات الحضارة الحديثة.

من هنا تكون إحدى أهم وظائف ومهام المثقف الناقد والمراجع انخراطه الفعلي في الزمن الحاضر، بحثاً واستقصاء وتنقيباً عن مواقع جديدة للتأثير في طبيعة الأحداث الراهنة في تغيير بعض معالم الفكر السائد، وذلك لإعادة تنظيم ورسم معالم جديدة لخطط الامتداد وعلاقات الصراع والسيطرة الموجودة.

ومن الطبيعي أن الحركة باتجاه تحقيق تلك الغايات لا تغني الإسلاميين العاملين على خط الإسلام عن ضرورة فتحهم المجال الواسع لممارسة النقد الذاتي، وتقبل نقد الآخرين لأفكارهم وطروحاتهم، وعدم التغافل والتغاضي عنها، أو الاستخفاف بها خصوصاً تلك النقود المتصفة بالعقلانية، والجدية والمسؤولية، بل يجب المباشرة بإجراء عمليات نقدية واسعة ومتبصرة بالشأن الإسلامي الخاص والعام، بحيث تنطلق المبادرة الأساسية - في هذا المجال- من الإسلاميين أنفسهم نزولاً عند مبدأ النقد ومحاسبة الذات والنفس أخلاقياً وسلوكياً، واستجابة لضرورات الدعوة الحضارية ومتطلبات العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي.

ويجب أن نلفت النظر هنا إلى أن واجب تقبل الإسلاميين للنقد الموجه إليهم وضرورة انفتاحهم على التيارات الأخرى لا يعني مطلقاً عدم الالتفات إلى نقطة هامة وخطيرة، وهي أن الهجوم النقدي الواسع - إذا صح التعبير- الذي قامت (وتقوم به) مختلف الجهات والتيارات الفكرية والسياسية ضد التيار الإسلامي تتقاطع فيه الرغبات المحلية لبعض الأنظمة الحاكمة في مجتمعاتنا مع المخططات والدسائس التي يحيكها الغرب ضد الإسلام والمسلمين في محاولتهم جميعاً -دون استثناء -إيقاف مسيرة الإسلام التحرري المتصاعدة من خلال:

1- تحاملهم الشديد غير المبرر على ثقافة المجتمع وعقيدته الإسلامية، واتهام الجمهور العريض بالقصور في وعيه ودينه ومقدساته، والتزاماته العملية في الحياة.

2- تحميل الثقافة الإسلامية الأصيلة المسؤولية الكاملة عن كل هذا الخراب والدمار الروحي والمفاهيمي السائد حالياً، مع إهمال مقصود للأسباب والعلل والعناصر والشروط الأخرى، خصوصاً ما يرتبط منها بالأسباب التي تعود إلى طبيعة الأنظمة المستبدة الحاكمة، وثقافتها القبلية العصبية.

3- تعالي المثقفين عن الأمة من خلال ممارسة النقد من موقع الحالة النخبوية التي تعيش في الأبراج العاجية، وإظهار الخجل والاشمئزاز من الانتماء إلى تراث ودين وعقيدة الأمة، والترفع عن الإيمان بمقدساتها.

بناء على ذلك نجد ضرورة قصوى في أن ينصب النقد حالياً -أي النقد الذي ينطلق من خلال وعي الحركة الإسلامية لنقاط ضعفها في داخلها، لا من خلال أن تنتظر حدوث المتغيرات الثقافية والسياسية المحلية والدولية لتراجع حساباتها، وتفكر في أوضاعها الصعبة التي تتحداها من الخارج-على الجوانب الحضارية في الحركة الإسلامية المعاصرة، وبخاصة الجوانب التي تتصل بضرورة تغيير الأساليب والمناهج والمفردات القديمة التي تنفتح على واقع الحياة وإنسان العصر في ذهنيته وتطلعاته ومشاكله وآماله.

والقرآن الكريم نفسه يؤكد على أهمية هذا المنحى ،والبعد التغييري من خلال قوله تعالى: (وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)(النحل: 25). فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه الحقيقي، وذلك بأن ندرس طبيعة الواقع المتنوع في أساليبه الثقافية والسياسية والاجتماعية السائدة في كل مواقعه ونقاط ضعفه وقوته من أجل أن نكون مؤهلين لصياغة خطاب نقدي إسلامي في أدواته ومفرداته، يعمل على معالجة هذه الأزمات، ويحاول إعطاءها الفكر الواضح النير من خلال الحلول الواقعية المفترضة.

ويبقى السؤال المطروح: في ظل الوقائع والظروف العامة الحافلة بالكثير من المتناقضات هل ننجح أم نفشل؟!.

نقول في إجابتنا كخلاصة عامة لما تقدم: إن الحركة الإسلامية -التي تمر اليوم بهذه التحولات والتقلبات الكثيرة ذات المعالم والسمات الكونية- هي بأمس الحاجة إلى صياغة ذاتها، وتحسين وضعها الحضاري بين الأمم والحضارات الأخرى، وذلك على أسس وخصائص جديدة تطور من مشروعها، ومن وعيها لأبنيتها الداخلية في علاقتها مع نفسها ومع الآخر، في الاتجاه الواقعي الحضاري، ولعل من أهم وسائل تحقيق ذلك التزام العقلانية والتقوى، والقيام بالنقد الموضوعي، والمحاسبة الحضارية المنتجة والفاعلة التي لها دور حاسم في تغيير طريقة تفكير البشر، والارتفاع بنوعية ممارساتهم العقلية. أي بوعيهم، وبالتالي في تحسين قدرتهم (تنمية إرادتهم) على المبادرة التاريخية، والارتفاع بمستوى سلوكهم العملي الفردي والجماعي إلى الحد الذي يعيشون فيه عمق الحركة الإسلامية التي تفتح طاقاتهم المبدعة الموجودة في داخلهم لينطلقوا في عملية صنع الحياة وبناء الكون إلى جانب الجماعات الإنسانية الأخرى، ليكون دورهم في ذلك دوراً فاعلاً، مؤثراً، منتجاً، لا دوراً اتباعياً هامشيا.

وهذا الدور الحضاري الرائد والضروري - حالياً ودائماً - لا ينظر إلى قضية النقد والتجديد نظرة العقدة والانهيار - تماماً كما يحدث لدى الكثير من النخب والتيارات- ولكنه يعتبر أن متغيرات الحياة المتلاحقة ومستجدات الواقع السريعة تفترض أن نعمل على تجديد ونقد مسارات فكرية ومعرفية (نظرية وعملية) استهلكت، وتجاوزها الزمن، وانتهى دورها عند هذا الحد . ولابد من تحمل مسؤولية التصدي لفتح أبواب الاجتهاد والعمل على إبداع مسارات جديدة نتابع من خلالها مشاكل الحياة، وقضايا الإنسان على مختلف الصعد والمستويات بحيث يبقى فكرنا مع الحياة، مع مشاكلها، وطموحاتها، وأهدافها العالية..يقدم لها التصورات والحلول المناسبة، ولا يتجمد على حاله، لأنه لا يمثل الحقيقة دائماً في مسألة الاجتهادات المتنوعة من الأفكار الإنسانية الجديدة ما يجعلنا نطل على بعض نقاط الضعف في تفكيرنا، أو نقاط الضعف في تفكير الآخرين حتى نستطيع أن نهتدي إلى بعض الإجابات الشافية والمناسبة لأزماتنا وتعقيداتنا المتلاحقة التي نعتقد أن أي مسعى للخروج من دهاليزها وأنفاقها المظلمة - بما فيها أزمة عدم وجود نقد عملي وموضوعي هادف - لا بد أن يبدأ بإصلاح واقعنا الثقافي والسياسي. أي نظرتنا إلى ثقافة السياسة بحد ذاتها، والعمل على تطوير طرق وآليات الممارسة السياسية الجماعية، وتوفير الفرص، وفتح المجالات المتنوعة لخلق وتثوير روح المبادرة، والمساهمة المشتركة لجميع الناس في ضرورة انخراطهم الفاعل والمتوازن في المشروع النهضوي الكبير لإعادة اكتشاف الإنسان عندنا، في ثقافتنا الدينية والدنيوية الحضارية، ومن ثم القيام بإبداع صيغ جديدة متجددة لإنتاج واختراع الحداثة، حداثة الإنسان والحداثة المؤنسنة، كما يعبر عن ذلك بعض المفكرين.

ويبدو أن العلة الأساسية والجوهر الحقيقي في مسألة إصلاح السياسة ذاتها لا يكمن في إلغاء العقيدة والتراث - مع الاعتراف بعدم إمكانية تحقيق ذلك - أو الدعوة إلى سلوك طريق تأويل النصوص المقدسة الدينية أو المدنية (بالمعنى السياسي)،ولكن في تغيير قواعد التعامل وتجديد العلاقات بين مختلف الأطراف والقوى والسلطات الفردية والجماعية ذات التوجه الديني أو العلماني.

إن هذا التغيير في شروط ووسائل الممارسة الفكرية والعملية داخل النظام الاجتماعي والسياسي القائم، هو الذي يفتح لنا الباب واسعاً لإحداث تغييرات جدية في طبيعة التوازنات الحاكمة بين العناصر والرؤى والتيارات المختلفة، كما ويساعد - في الوقت نفسه- على نمو المفاهيم والأفكار والقيم والسياسات الجديدة، خصوصاً الأفكار والسياسات النقدية المنظمة والمتوازنة.

وأما على صعيد حركية الإسلام والصحوة الإسلامية الراهنة فإننا نتمنى أن يحدث هذا النمو والتصاعد الفكري والسلوكي على أرضية وعي العاملين على هذا الخط لمتطلبات وشرائط وجودهم الثقافي والاجتماعي والسياسي في الحاضر والمستقبل. أي ضرورة تفاعلهم الواعي مع الأحداث المستجدة بحيث يؤدي ذلك إلى تقديم الإسلام للعالم كله بأبهى صورة، وأنصع بيان، وأقوى مضمون.

ونحن نعلم أن هذه الصحوة الإسلامية قد تحركت -في واقع العرب والمسلمين- لتؤكد من جديد على المضمون الحقيقي العميق للذات الحركية الإسلامية في طبيعة المفردات والوقائع التي ساهمت في هز العقل والعاطفة والواقع في انطلاقة الإسلام في الحياة كرسالة تستوعب كل تطلعات الإنسان في الإيمان والحرية والعدالة.. لكن هذه الانطلاقة الحركية -التي استطاعت الصحوة تحقيقها، وتجذيرها في وجدان الأمة ككل- لم تمنع من وجود سلبيات غير قليلة على مستوى الفكر والعمل وطبيعة الأساليب والمناهج المتبعة في تحريك آفاق وتطلعات تلك الصحوة، طفت على سطح الواقع، وبدأت تفعل فعلها في تعطيل المسيرة، والنيل من النجاحات التي وصلت إليها.

وقد نلاحظ في دائرة السلبيات -طالما أن حديثنا هنا يقتصر على أهمية دور النقد في العمل الإسلامي- أن غياب (أو تغييب) النقد الذاتي في نطاق القاعدة والقيادة شكّل أهم تحد واجهته تلك المسيرة في حياتها المعاصرة.

إن النقد هو السبيل الوحيد الباقي أمام الإسلاميين، وخصوصاً المتنورين منهم، للدخول إلى معنى الالتزام العميق بالخط الإسلامي الأصيل، لأنه يؤهلهم لتحمل المسؤولية، ووعي حقائق الحياة الراهنة، والتعامل مع الواقع بمنطق الواقع نفسه.

إنه (النقد) العنوان الآخر للمكاشفة والصراحة والتبصر بالذات وبالواقع من أجل تنمية الطاقات، وبناء الخبرات، وتراكم النتائج، وتقوية وجود وارتباط الإنسان بالحياة من موقع إيمانه وانفتاحه على الله تعالى، وحشد أكبر قدر من الفعاليات والنشاطات المتنوعة في ساحات الحياة من أجل أن يتحول الإسلاميون -إلى جانب التيارات الأخرى- إلى قوى بناءة ومنتجة ومعطاءة في فكرها وروحها ورسالتها للحياة والإنسان.

لقد مارست العقلانية الغربية عملية النقد، ونجحت في أساليب نقدها، والدليل الأبرز على ذلك هو الوضع الجيد للإنسان الغربي (حتى لو جاء هذا التقدم الكبير محصوراً في جانب واحد هو الجانب المادي). ونعلم جميعاً أن جوهر نقد (تلك العقلانية) كان منصباً على ضرورة الشك في كل المسبقات والنظم الفكرية والمعرفية التقليدية السائدة. أي النقد الدائم للفكر والوضع القائم. وفعلاً لقد أدى ذلك إلى إعطاء الإنسان الغربي مزيداً من الوعي والحرية، حرية الفرد والجماعة القومية.

أما عندنا نحن العرب والمسلمين فقد تحول النقد إلى شعار أجوف وستار كاشف (يظهر أكثر مما يخفي ) يفضح الممارسات اللاإنسانية الفظيعة للكثير من الحكومات السياسية التي غمطت الشعب والأمة حقوقهما. وبقدرة قادر تحولت تلك الحكومات والدول - في سياق ممارستها لسياسة النقد الجذري للمواقع المحافظة والتقليدية- إلى عنصر ناقل وتقليدي (تقليد الآخر) أكثر من دعاة التقليدية أنفسهم، من خلال رفضها للنقد، وعدم اعترافها بالقصور والعجز عن مواكبة الحياة، وزعمها احتكار الحقيقة.

من هنا نحن لسنا بحاجة إلى مذاهب جديدة، ولكننا بحاجة إلى إعطاء الفرص أمام المذاهب الموجودة لتفجير طاقاتها، وإدراك كنهها، ومضامينها الحقيقية. نحن بحاجة إلى فتح المغاليق النفسية والمادية أمام الحوار والنقاش، وإطلاق حرية الفكر، وتحرير إرادة الناس، وتشجيع النقد، وتفجير المعاني والإرادات. علينا إذاً أن ننتهي من القمع والكبت والإرهاب الفكري السائد حالياً، والذي يشكل -في ذهنية السلطة الحاكمة- الشرط الأساسي لاستمرار الإرهاب السياسي.

علينا أن نفهم أن أحد أسباب تقهقرنا الدائم نحو التوحش والبربرية هو النظم والسياسات الحاكمة بقوة القهر، وقانون التسلط القسري - غير الطبيعي- التي لا هم لها سوى تكريس وجودها وهيمنتها على البلاد والعباد بعنوانها الرئيسي، أو بعناوينها الثانوية المستنسخة عنها.

والواجب الأساسي حالياً يكمن في فضحهم ونقدهم.. أي نقد الأساس الاجتماعي والسياسي القائم (نقد العقل العملي، ودور ومكانة النخبة)، ونقد الأساس المعرفي (مفاهيم ثقافة السلطة وعملها وعقلها). وبعد ذلك القيام بما تمليه مسألة الانخراط النقدي في شؤون العصر وقضاياه الكبرى والمصيرية المعاصرة والمستقبلية، وذلك حتى يتسنى لإنساننا تمثل واستيعاب علوم عصره ومعارف دهره بمنظور نقدي مستقبلي يوفر له المساحة المطلوبة للاستيعاب والتجاوز، للفهم والنقد، وللمساءلة، للمشاركة، والإبداع، و.. وامتلاك ناصية المستقبل.

إننا نقف - إذن - مع الفكر الإسلامي المعاصر (ورهاناته وتحدياته المستقبلية) على أفق جديد. وإذا تمكن هذا الفكر من مقاربة جميع مشاكله الحساسة المذكورة سابقاً، وعالجها - على طريق إيجاد موقع قوي له بين الأمم والحضارات في المستقبل- بمناهج موضوعية علمية، ومن دون إغفال أو إهمال أي معطى تاريخي أو واقعي، فإنه سيتمكن لا محالة من المشاركة الكثيفة والمنتجة في صياغة مستقبل زاهر للأمة العربية والإسلامية.
----------------------------------------------------------
1- محمد محفوط، قراءة في الفكر الإسلامي ورهانات المستقبل، صحيفة السفير اللبنانية ص18، 6/1/2000م.



نبيل علي صالح