الاثنين، 29 أغسطس 2011

هموم وقضايا الوحدة الإسلامية


نص المحاضرة التي ألقاها سمــاحــــة العـلامـــــة السيِّـــد محمَّــــــد حسيــن فضـل اللّـــه بعنــــــوان هموم وقضايا الوحدة الإسلامية يوم الاثنين 19كانون أول 1983، الموافق 15 ربيع أول 1404 هـ في الجامعة اللبنانية كلية الحقوق "الفرع الأول".
الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
إنَّ الكلام، في هذه المرحلة، لمسؤولية كبيرة، ولاسيما عندما يكون في محراب من محاريب الفكر والعلم. وإنَّها لمسؤولية، أيضاً، أن تتحدث وأنت مأخوذ باحترام النّاس في ما تفكر وتقدّم وتقول. فثمة فرقٌ بين الكلام الاستهلاكي والكلام الذي يُراد له أن يكون مثمراً ومنتجاً؛ فالأول عماده توظيف واستثمار كلّ ما في الساحة من أجواء عاطفية وانفعالية ليثير الحماس والتصفيق، من دون تحقيق أي هدفٍ من وراء ذلك، أمّا الثاني، فإنَّه لا يقتضي مخاطبة عيون النّاس وهي تلمع مشدودةً إلى شعاراتك، بل مخاطبة أفكارهم وهي تتأمل مشدودة إلى فكرك.
لقد أصبحنا، وللأسف، في كلّ ما نستهلك من حديث، مجترّين مستهلكين، لا نفكر بقضايانا بعمق وواقعية، وعلى نحو منتج ومثمر وفعّال. لذا نحن مدعوون، ومن وحي دقة هذا الواقع، إلى أن نجدد في الوسائل والأهداف، وأن نتعمق في فهم واقعنا جيداً، ليلهمنا هذا الوعي إبداعاً وحيوية.
الوحدة الإسلامية : هموم وقضايا
لماذا كلّ هذه الهموم حول الوحدة؟ وهل تستحق أن تكون الوحدة همّاً لنا؟ إنَّ أيّ همٍّ، إنَّما ينشأ من خلال اهتزاز الواقع وتزلزله بفعل السلبيات الكبيرة التي تخترقه، ما يودّي إلى أن نعيش ما يشبه حالة طورائ تستدعي استنفار كلّ مشاعرنا وأحاسيسنا لمواجهة الأخطار الناشئة من هذه السلبيات، والتي تهدد الواقع كلّه بالافتراس.
ونحن عندما نعيش همّ الوحدة، لا نعيشه همّاً يتمركز حول قضيّة دون أخرى، وإنَّما نعيشه هماً إنسانياً بامتياز، همّاً يتناول قضية الإنسان في الصميم، لأنَّ هناك انفصاماً في داخل الإنسان نفسه، يمزّقه إلى شخصيات غير متمازجة ومتفاعلة، بحيث يتحرك اليوم في هذا الاتجاه وغداً في اتجاه آخر. ولعلّ السبب في ذلك، هو أنَّ إنساننا لـم يحاول تركيز قناعاته على أساس واحد، وإنَّما كانت قناعاته هي عبارة عن شتات أفكار تجمدت في زوايا الفكر من دون أن يتركها تتفاعل، بل كانت تتصارع لتمزِّق شخصيته من الداخل قبل أن تمزق شخصيات الآخرين في ساحات الصراع الخارجية.
الإنسان الوحدوي أولاً:
إنَّنا عندما نتحدث عن الوحدة، أية وحدة كانت، هل يكفي أن ندرس القواسم المشتركة لنقول للنّاس، تعالوا لنلتقي عليها، أو ندرس الخلافات لنقول للنّاس تعالوا نتحاور عليها؟! لا يكفي ذلك. فالقضية ليست قضية مشاريع الوحدة، سواء كانت مشاريع فكرية أو عملية، ولكنَّها قضية الإنسان. لذا لا بُدَّ لنا من أن نسعى لإقامة الإنسان الوحدوي، الذي يعيش الوحدة فكراً وشعوراً، وتطلعات مستقبلية في إطار الواقع.
إنَّ هنالك الكثير ممّن يعيشون الوحدة فكراً ويخططون لها، لكنّهم فشلوا في تحقيقها، فالنهوض بوحدة الإنسان هو الشرط الموضوعي لنجاح أي مشروع وحدوي مهما كانت طبيعته، المهم أن يكون الإنسان واحداً في ذاته وفكره ومشاعره وتطلعاته وآماله وأحلامه، وأن يكون مؤمناً بالوحدة وعاملاً لها، وإلاَّ فإنَّ الفشل يكون حتمياً، مهما كانت المشاريع كبيرة، ومهما كانت الخطط شاملة، لأنَّهم أهملوا البنية التحتية لإنجاح أي مشروع وحدوي، ألا وهي إقامة الإنسان الوحدوي.
ولهذا عندما انطلقت المشاريع الوحدوية، كان هذا الإنسان يسعى للبحث عن نقاط الخلاف هنا وهناك، وبذلك تحولت المشاريع الوحدوية إلى فرصة لإثارة بذور الخلاف أو لتعقيد الخلافات السابقة.
إنّ القضية هي أن نفكر في الإنسان عندنا، وفي طريقة التفكير لديه. وهنا، نطرح سؤالاً لنقترب من الصورة أكثر في فهم الشخصية الموجودة:
لماذا يتم التركيز كثيراً على مواطن الخلاف عندما يلتقي إنسان بأي إنسان آخر ممن يختلف معه، سواء على مستوى الفكر الديني أو السياسي أو أي فكر آخر؟ لماذا يحاول رأساً أن يتمايز عنه، فيخاطبه من موقع هذا التمايز، ومن موقع الاختلاف والتباين معه، لا من الموقع المعاكس؟
إنَّ التمايز قد يكون أمراً مبرراً عندما نريد تأكيد تمايز شخصياتنا، سواء على الصعيد الفكري أو سواه، ولكن هذا التمايز يكون غير مبرر عندما نريد الانطلاق مع الآخرين لنركز قواعد مشتركة لحلّ الخلافات.
إنّنا نعيد السؤال مرة أخرى: لماذا نركز منذ البداية على أن لا قاعدة مشتركة فيما بيننا، وأنَّ الخلاف هو الذي يحسم الأمر؟
قد يكون الأمر لأنَّنا تربينا وتعلمنا، وغُرس في فكرنا العملي، الوقوف عند الجزئيات وهجر الكليات التي تؤمّن الحد المشترك، ولأنَّنا تعوّدنا ملاحقة الزوايا والهروب من الساحة الكبيرة، حتى انهمك فكرنا واستغرق في الزوايا الضيقة. إنَّه الإلحاح على الخصوصية والذاتية بعيداً عن الشأن العام والجو العام. هذا هو الذي يطبع إنساننا اليوم، كما يتمثل في ما نعيش ونواجه من قضايا في الأمور المصيرية من حياة الأمة.
إنَّ ما نريد قوله هنا، هو أنَّه يجب علينا قبل البحث في مشاريع الوحدة، أن نبحث في طريقة تفكير هذا الإنسان في مواجهة القضايا التي يعيش حولها الصراع أو الخلاف. فلا نزال في الممارسة، حتى في القضايا الفكرية، نتعاطى مع بعضنا بعضاً بعقلية اللاعبين الذين يسعون إلى تسجيل نقاط على بعضهم البعض، موحين بأنَّ هذا الافتراق قابل للتبرير والعذر.
إنَّ الإنسان الذي يعيش الوحدة هو الذي يحترم خصوصية صاحبه، كما يريد من صاحبه أن يحترم خصوصيته. عندما تكون وحدوياً، فإنَّ عليك أن تفتح المجال لتحمي حرية صاحبك بأن يقول ما يشاء، تحميه من كلّ عواطفك وانفعالاتك، وتقاتل في سبيل حريته، لأنَّ الآخر إذا استطاع أن يأخذ حريته في أن يعبّر عن فكره بصراحة، فمعنى ذلك أنَّك تستطيع مناقشة آرائه، كما يستطيع هو مناقشة آرائك، لا أن تحجب حريته عنه ويحجب حريته عنك، وبعد ذلك تختبئان في زاوية المجاملة، وتنتهي القضية بنقطة مقابل نقطة، أو أكثر من ذلك، ويتفرق بعدها المتفرجون، ويرجع كلّ لاعب إلى مكانه.
إذاً لا بُدَّ من الإشارة إلى الأمور بوضوح ـ وأنا هنا لا أتكلم كواعظ، بل أقولها من أجل أن نشير إلى الجوانب العميقة في بناء شخصيتنا ـ فنحن لا نعيش الوحدوية روحيةً وفكراً وأسلوب حياة...
فكّروا في الإنسان الذي يعيش روح الوحدة، الإنسان الذي يفكر بموضوعية، والذي يتحدث من موقع الفكر لا من موقع الانفعال العاطفي، عند ذلك، يمكن لنا أن لا نخاف من تلك الجهات التي تحاول أن تلعب لعبتها في واقعنا، مستغلّة الكثير من الثغرات والانقسامات.
إنَّنا نتحدث دائماً عن الاستعمار والصهيونية، وأنّهما السبب في تفريقنا وتمزّقنا، ولكن من الذي أعطى الاستعمار فرصةً ليلعب؟ ومن الذي أعطى الصهيونية الفرصة لتمزق؟
إنَّها شخصيتنا تلك التي تعلّبت في إطارها بعيداً عن الهواء الطلق حيث تتفتح وتتلاقى.
لهذا لا بُدَّ لنا ـ ولاسيما في الوسط الجامعي ـ من أن نتعلم كيف نؤسّس حوارنا وتفكيرنا على أسس موضوعية وعقلانية، وأن نحترم حرية بعضنا بعضاً، لأنَّ الحرية لا يخافها الواثقون من سلامة فكرهم وقوته. إنَّ الذين يخافون من الحرية هم أولئك الذين يشعرون بضعف في الفكر والشخصية، ويسعون إلى أن يخفوا ضعفهم بكلّ ما لديهم من وسائل، لإلحاق الهزيمة بشخصية الإنسان الآخر بدلاً من أن يهزموا فكره.
ولعلّنا نستوحي هذا من دعاء يقرأه المؤمنون في ليالي الجمعة في فقرة تقول: "وقد علمت أنَّه ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، وإنَّما يعجل من يخاف الفوت، وإنَّما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً".
إنَّ معنى الدعاء، هو أنَّك عندما تظلم الآخرين، فأنت لا تكون قوياً، بل تكون ضعيفاً يحاول أن يدافع عن عقدة الضعف في نفسه من خلال استعراض القوة.
لهذا، إذا أردنا لكلّ المشاريع الوحدوية أن تنجح، فإنَّ علينا أن نعيش شخصية الوحدوي، الشخصية التي تبحث عن الساحة الكبيرة لتنطلق فيها مع الآخرين، ثمّ بعد ذلك تنطلق إلى زاوية هنا وأخرى هناك من خلال تلك الساحة الكبيرة. أمّا أن نطل على الساحة من الزوايا الصغيرة، فهذا شيء لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية، لأنَّ الزوايا لا تستطيع أن تسع الساحة أبداً.
لماذا الوحدة الإسلامية بالذات؟
إنَّنا عندما نتحدث عن الوحدة الإسلامية في لبنان، فهل ندعو إلى ذلك لنقول للمسلمين انغلقوا على أنفسكم، توحَّدوا مسلمين ثمّ انغلقوا؟ وهل هي وحدة ضد الآخرين في هذا البلد المشحون طائفياً؟
لا، ليست القضية كذلك، بل إنَّنا نعتبر أنَّ قضايا الوحدة تتسع لأكثر من محور، وتتحرك في عدة دوائر، من خلال القضايا التي تحكمها.
إنَّنا نتحدث عن الوحدة الإسلامية باعتبار أنَّها تمثّل وحدة تلتقي بوحدة أخرى، وعندها يمكن أن نتحدّث عن وحدة في الوطن تتحرك من وحدتين منفتحتين قويتين لا مجال فيهما لأية اختراقات صغيرة.
إنَّنا نتحدث عن الوحدة بين المسلمين، وهناك من يتحدث عنها بين المسيحيين، لأنَّنا إذا انطلقنا من خلال وحدة كبيرة تتحدث عن وحدة أكبر، فعندها يسهل معرفة القواعد الكبيرة التي يمكن فيها اللقاء...
ولكن عندما تريد أن تتحدث عن وحدة الوطن من خلال أكثر من دائرة، فعند ذلك سنضيع بين الدوائر الصغيرة التي قد تتحوَّل إلى ما يشبه الكلمات المتقاطعة.
إنَّ حديثنا عن الوحدة، هو حديث، أيضاً عن الانفتاح على كلّ الدوائر الأخرى، من خلال مبادئ الإسلام وقيمه، ليكون الحوار فيما بيننا جميعاً، منطلقاً من الوعي، ومن موقع الانفتاح والرؤية الواقعية السليمة.
لماذا نعيش الهم الآن؟
سؤال لم نجب عنه، لأنَّنا نشعر أنَّ هنالك أكثر من اختراق يتحرك في واقعنا ساعياً إلى الاستمرار في إثارة الفتنة من الداخل، لذا نشعر بأنَّ علينا معالجة هذه القضايا، لا على مستوى القيادات فحسب، بل على مستوى الأمّة كلّها، لأنَّه لا فائدة في أن تتحاور القيادات دون أن تعي الأمة معنى الوحدة، ودون أن تعي قضاياها.
واجبنا تجاه الأمّة:
إنَّنا نشعر بأنَّ علينا أن نجعل الأمة تتنفس روح الوحدة في الهواء الطلق، بعيداً عن كلّ المحاور، وكلّ الأساليب السياسية التقليدية التي عشناها، كما علينا في الوقت ذاته، أن نفكر في الأسباب التي أدّت إلى اختلاف المسلمين وانقسامهم، وبالتالي، علينا أن لا نهرب من مشكلة الخلاف، بل علينا أن نمتلك شجاعة مواجهتها كمقدمة لمعالجتها.
ولا بُدَّ من الإقرار بوجود خلافات بين المسلمين، كما أنَّ هناك خلافاً بين المسلمين وغيرهم، منها ما يتصل بتفاصيل العقيدة، ومنها ما له صلة بتفاصيل الشريعة، وبتقييم الشخصيات التاريخية التي يخلص لها هذا الفريق أو ذاك. إنَّ هناك اختلافاً، ولكن علينا أن لا نتشنج أمام الخلافات ونتعقد من وجودها، بل علينا استخدام عقولنا في تناولها ومعالجتها في مختلف المجالات، بعيداً عن العِقَد والعواطف الشخصية التي تؤجج المشكلة.
ولأنَّ المشاكل غالباً ما تحدث من خلال بعض مظاهر الخلاف التي تنطلق من كلام واعظ أو حديث خطيب، لتتحرك بعدها الجوانب العاطفية التاريخية، لذلك كان لا بُدَّ من أن نتحرك في اتجاهين:
1 ـ روحية العلم ورسالية الشريعة:
لا بُدَّ للمفكرين والعلماء والمثقفين من بحث كلّ تفاصيل الخلافات بحثاً علمياً موضوعياً، شأنهم في ذلك مع أي بحث يتناول التراث الفكري والعقائدي لأي جنسية أو قومية انتمى، بحيث يتمّ فحصها ودرسها وتقويمها بعيداً عن كلّ التراكمات، ووفقاً للمعايير العلمية الموضوعية لا العاطفية.
ويمكن لنا، من خلال ذلك، الحصول على نتائج جيدة تسمح بوجود مساحة واسعة من الأفكار والأسس المشتركة والمتفاعلة، هذا إن لـم نصل إلى حلول ونتائج حاسمة.
إذاً، لا بُدَّ للعلماء المسلمين، الجديرين بهذه الصفة، من أن يعيشوا رسالية الفكرة والشريعة، وأن يكون هاجسهم بلوغ الحقّ ونشره.
إنّنا نعتقد أنَّ التطور في الأسلوب الذي يعالج به العلماء القضايا الفكرية في العصر الحديث، يستطيع أن يحل المشكلة الفكرية الإسلامية بين علماء المسلمين ومفكريهم، بشرط أن يعيشوا روحية العلم، وأن يبحثوا في فكر أمتهم انطلاقاً من الينابيع الأصيلة للرسالة التي يعتقدون بها.
قد يكون هذا الحل مثالياً على مستوى الواقع العام، ولكن من الممكن أن تتحرك الخطوات الأولى، في هذا المجال، مستفيدةً من الأجواء العلمية التي يكفلها العصر الحديث في طريقة مواجهة الخلافات الفكرية بعيداً عن كلّ الترسبات والخلفيات الفكرية التي لـم تحاكمها الأسس الأصيلة.
إنَّ مثل هذه الخطوات القليلة والأولى، يمكن أن تفتح المجال لخطوات واسعة في المستقبل، لأنَّنا عندما نريد التحدث عن الوحدة، لا يمكن أن نتحدث عنها بطريقة "السندويش"، كما يتحدث السياسيون عن الحلول السحرية لمشاكل الأمّة، بل لا بُدَّ من أن نتحدث عنها كتطلعات مستقبلية تنتظر شروطها الواقعية من خلال تحركنا لتوفير مثل هذه الشروط من أجل المستقبل الكبير.
إنَّه ليس حلاً سحرياً، لأنَّ الحلول السحرية هي تلك التي لا تملك أدوات واقعية لتحقيقها، ولكن ما نطرحه هو حل واقعي، يحتاج إلى أن نُحضِّر له أدوات الواقع ليتحرّك فيه، وهذا غير بعيد عن تجاربنا. فكثير من الأوضاع التي نعيشها كانت مثالية في تصورات الآخرين، ولكنَّها أصبحت واقعاً اليوم عندما تهيأت لها الظروف والشروط الضرورية واللازمة.
لا بُدَّ من أن يكون عندنا مجال لحرية الفكر، وأن لا نتعقد من أية نتيجة سلبية أو إيجابية لما نؤمن به أو لما يؤمن به الخصم، لأنَّ الذين يتعقدون سوف لا يعيشون الحقّ ولا الرسالة ولا الإسلام، لأنَّ الإسلام ليس هو الشيء الذي ورثته، بل هو الشيء الذي تفكر فيه من موقع الأصالة، فإذا اكتشفت بنفسك أنّك مخطئ وأصررت على خطأك، فأنت لست بمسلم، لأنَّ الإسلام هو تجرد عن الذات، وانطلاق نحو الحقّ وخضوع له...
2 ـ خلافات الرأي واجتهاد المجتهدين:
وهناك اتجاه آخر ينبغي السعي له، وهو أن نعمل في سبيل تبريد الجوانب العاطفية المتأججة في المجال الشعبي، التي تتوقف أمام الخلافات بحدة، وذلك بأن نعطي الشعب أو الأمّة الفكرة التي تقول إنَّ هذه الخلافات هي اجتهادات اقتنعتم بها من خلال اجتهاد مجتهدين، والمجتهد إذا أعمل جهده قد يخطئ وقد يصيب، وهو إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران، وإنَّ الذين يتبعون المجتهد وهم لا يملكون الثقافة التي يستطيعون من خلالها تحديد الحقّ، إنَّ هؤلاء معذورون وإن اكتُشِف خطأه بعد ذلك. إنَّ هذه الفكرة لا بُدَّ من أن يعيشها النّاس للوصول إلى هذه النتائج، وإن سلوكها غير صعب، والسبب هو ما عندنا في الدوائر الإسلامية، في دوائر المذهب السني أو الشيعي، فهنالك أكثر من رأي يتبناه النّاس في هذه الدائرة، وفي الوقت نفسه، يتبنون آراء أخرى في الدائرة الأخرى، ومن دون أن يشعروا بعقدة في ظل دائرتهم الصغيرة، لذا يمكننا أن نأخذ الرأي في ظل هذه الدائرة الصغيرة، حتى نوحي للنّاس بواقعيتها وسلامتها في ظل الدائرة الكبيرة.
وعندما يتصور النّاس أنَّ الخلافات في الرأي لا تكون مصدر تضليل، ولا هي بالعقدة، ولا هي تمثل دوائر مقفلة لا تنفتح على الآخرين، وعندما يثيرون نقاط اللقاء الكثيرة، فإنَّهم سيعتادون قبول الآخر وقبول الاختلاف، لا من موقع التعصب، وإنَّما من موقع القناعة العلمية والموضوعية، الأمر الذي سيخلق مناخاً يقوم على الاحترام والثقة المتبادلين، ما يؤسس لمناخات التقارب والتواصل وصولاً إلى مرحلة التوحد لاحقاً.
وهذا الأمر، كما قلنا، غير سهل، لكنَّ إنجازه أيضاً غير مستحيل، وجلّ ما يحتاجه هو أن يتحرك المخلصون العاملون في نطاق الأمة بعقلية الرساليين، من أجل توعية الأمة والوصول إلى وحدة في القواسم المشتركة.
أمّا لماذا الأمر غير سهل؟ فلأنَّ واقعنا قد تعوّد على استهلاك العقد عند كلّ مسعى لحل خلاف، وسيصر على ذلك حتى عند التحرك في النطاق الإيجابي، هذا فضلاً عن أنَّ هناك مستفيدين كثراً من واقع الانقسام والتشرذم الطوائفي والمذهبي، سواء على مستوى الكهنوت الديني، أو على صعيد رجال السياسة، ولكنّنا كما قلنا، نحن لا نتطلع إلى تحقيق ذلك في المرحلة القريبة، ونعتبر أنَّ المعاناة هي جزء من عمل الرساليين الذين يسعون إلى تحقيق المواقع المتقدمة للرسالة.
لذا، يجب أن تكون الرسالة هي المعيار الذي نقيس به أبطالنا، وعندها فليبق من يبقى، وليسقط من يسقط، لأنَّنا لا نريد إلاَّ أولئك الأبطال الذين يربطوننا بالرسالة ربطاً مثالياً يحفزنا دوماً على المضيّ قدماً إلى الأمام. هذا إذا كنّا ممن يحرص على الوحدة فعلاً لا قولاً، لأنّ الوحدة أبعد من أن تكون واقعاً منجزاً، بل هي مشروع نحو المستقبل، ولذا لا بُدَّ، وانطلاقاً من هذه الحقيقة الواقعة، من أن ترتفع سقوف تفكيرنا وطموحاتنا وإراداتنا وعزائمنا وأحلامنا، إلى المستوى الذي يلامس آفاق المستقبل وإمكاناته. كما لا بُدَّ من الانطلاق من الدوائر الصغيرة لإقامة وشائج التواصل والانفتاح وصولاً إلى إنجاز هذين الهدفين على مستوى الأمّة جمعاء، إذ لا بُدَّ دائماً، في أيّ مشروع كبير يلامس تطلعات الإنسانية وتكاملها الحقّ، من أن يتخذ له نقطة ارتكاز أساسية في أرض الواقع، تشكل له القاعدة والمنطلق، لتحويل الطموح من حيِّز التصور إلى حيز الفعل.
وهنا، لا بُدَّ من تسجيل ملاحظة لها صلة بالموقف من الشخصيات التاريخية في الإسلام، حيث غالباً ما توضع هذه الشخصيات في مقابل بعضها بعضاً، وفي عرض بعضها البعض، لتتصارع، ونتصارع نحن من ورائها، وهكذا نعيد استيلاد خلافاتنا على أرضية خلافاتها. ومن المؤسف، أنَّه بالرغم من أنَّ هذه الشخصيات باتت جزءاً من التاريخ، لكنَّها لا تزال حاضرةً فينا وتفعل فعلها الكبير، ذلك لأنَّنا لا زلنا أمةً بعيدة من أن تحكمها المبادئ والرسالية، وإنَّما يحكمها الشخص، وتأسرها صورة البطل، ولذا ترى هذه الأمّة تدور حيثما يدور أبطالها، فإن تلفّتوا يميناً أو يساراً تلفّت النّاس معهم.
إنَّ كلّ أمّة تحتاج إلى أبطال، لكن ليس كيفما كان، وإنَّما لا بُدَّ لنا، نحن تحديداً، من أبطال رساليين، صنعتهم الرسالة، كما صنعوا هم مجدها، فكانوا أولادها حقّاً.
من هنا، وبناءً على ما تقدم، فإنَّ هذا الأمر يستدعي مواجهته، ومن خلال الجهد والتوعية يمكننا أن نتقدم، وأن نُفهم كلّ المسلمين بأن لا يكون لديهم غيرة على الشخصيات المقدسة أكثر من غيرتها على نفسها، وأن لا يكون لديهم غيرة على القرآن أكثر من غيرة القرآن على نفسه، لأنَّ الواقع لدينا هي أنّنا مسلمون، ولكن أساليبنا وطريقة معالجة الأوضاع عندنا بعيدة عن الإسلام.
ولنلحظ صراعاتنا، ففيها لغة السباب لمن لا نحبهم ونختلف معهم. أصبحت الشتائم هي خبزنا اليومي في المساجد، والنوادي السياسية، والساحات الاجتماعية، وفي بيوتنا، ونحن، في الوقت نفسه، غير مستعدين لتحمل الرد من الآخرين. إنَّ للآخرين مقدسات كما لك مقدسات، وإن عليك أن لا تفكر في القضية من جانبك وحدك. وعندما تعرف أنّك لا تتحمل أن تُسَبَّ مقدساتك، فإنَّ عليك أن لا تسب مقدسات الآخرين. وهنا آية قرآنية تعبّر عن هذا المضمون: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه} ـ أتدرون من هم الذين يدعون من دون اللّه؟ إنَّهم عبدة الأصنام المشركون ـ {فيسبوا اللّه عدواً بغير علم كذلك زيناً لكلّ أمّة عملهم} (الأنعام؛108)، لأنَّ كلّ إنسان يعتقد أنَّ وجهة نظره هي الصحيحة، وطريقته هي الفضلى، فإذا كان القرآن لا يرضى أن تسب الذين يعبدون غير اللّه، فكيف يرضى لك أن تسب الذين يعبدون اللّه، ولكنَّهم مختلفون معك في بعض تفاصيل العبادة، فهل تكون أكثر غيرة من اللّه على المبادئ؟!!
وفي مسار آخر، نرى أنَّ الإمام عليّ(ع) حارب معاوية، لا من منطلق طائفي كما نفكر نحن، بل من موقعه كحاكم للمسلمين؛ كان لا بُدَّ له من أن يتصدى لتمرد معاوية، فكانت الحرب هدفاً لحفظ النظام، ولهذا انطلق الإمام إلى الحرب، لا بروحية الإنسان الذي يحمل عقدةً، ولكن بروحية من يريد تصحيح واقع، وعندما سمع جماعة من جيشه من أهل العراق يسبون أهل الشام، وقف فيهم خطيباً وقال: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنَّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتـم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به"(1) .
إنَّه موقف إسلامي. فهو لـم يكتف بأن يكره لهم أن يكونوا سبّابين، ولكن أراد تعليمهم كيف يديرون الصراع، وما هي روحيته، وأعطاهم درساً تطبيقياً من خلال الكلمات التي أراد أن يوحوا بها لأنفسهم عندما يكونون في حالة صراع مع خصم أو عدوٍ لهم.
إنّك عندما تريد أن تتحدث مع الآخرين، فكّر في الأسلوب الذي يفتح قلب الآخر عليك، لا أن تجعله يتشنج منك وتتشنج منه، وعندما تواجهه، واجهه من خلال تذكر قوله وفعله، وتذكّر قولك وفعلك، لتتوازن ولتبقى محافظاً على الأهداف، لا من خلال الانفعال، وإنَّما من خلال العقل والتفكير المتّزن.
هذه الروح هي التي كانت تسود الرجال الكبار في صدر الإسلام، ولكنَّنا أخذنا غيرها في عصور التخلّف، بحيث أصبح التخلف يمثِّل القداسة في حياتنا، فيما يخيل إلينا أنَّنا نقدس الدين، ولكنّنا في الحقيقة نقدس جهلنا بالدين، ولذا لا بُدَّ من أن نعيش في الواقع هذه الروح لنتجاوز واقع التخلف.
هذه بعض النقاط أحببت أن أثيرها في الإطار العام، وفي الأطر الفكرية والتشريعية والتاريخية.
مشكلتنا في أمراء السياسة:
وإذا دخلنا إلى واقع الوحدة في الإطار السياسي والاجتماعي، فهل نلاحظ ملامح لواقع الاختلاف، سواء في الإطار الإسلامي أو غير الإسلامي؟ هل نجد هذا الواقع بكلّ سلبياته؟
وللإجابة عن هذا التساؤل، فلنفكر بواقعية، هل هناك شيء اسمه مشكلة سياسية أو اقتصادية أو تربوية شيعية، ومشكلة سنية على هذا الصعيد؟ قد تكون موجودة، ولكنها مشكلة مَنْ؟ إنَّها مشكلة أمراء السياسة الذين يبحث كلّ واحد منهم عن إمارة يورثها لأتباعه وأولاده.
ولكن، هل هناك من مشكلة على مستوى العالِم والعامل والطالب؟ فكلّ إنسان يعيش في هذا المجتمع يبحث عن غذائه، يريد أن يحصل على حياة كريمة، وهل هناك مشكلة ظلم للشيعة ليست موجودة لدى السنة؟
لا، ليس هنالك مشاكل مختلفة، بل المشكلة واحدة، قد تكون بعض المناطق فيها أكثرية شيعية وبعضها فيها أكثرية سنية، لكنَّ المشاكل فيها تتشابه، لأنَّ الاستعمار عندما يتحرك لأجل أن يركز قواعده في منطقتنا، فإنَّه لا يبحث عن المذاهب، بل يبحث عن العناصر التي تتواطأ معه، وهو عندما يبحث عن الشيعة أو السنة وعن المسيحية، فإنَّه يبحث عنها كأسلوب وكأداة من أدوات الوصول إلى هدفه.
إنَّ هناك واقعاً عشناه معاً تماماً في تلك الفتنة(1) التي اكتوينا جميعاً بنارها، تلك الفتنة التي ليس فيها منتصر أو مهزوم، بل الكل فيها مهزومون، فعندما قصفت بيروت، لـم تقصف المناطق الشيعية دون السنية، والحرمان الذي يعيشه المسلمون وربَّما غيرهم، ليس فيه حرمان شيعي وحرمان سني، والجنوب الذي نتحدث عن الحرمان فيه، ليس وحده محروماً، ولكن ماذا عن عكار، والبقاع، كلّنا نتحدث عن حرمانه، ولكن ماذا عن إقليم الخروب، إنَّ الحرمان واحد، ولكنّه يتنوَّع ويتشكَّل بحسب المواقع.
وإذا طرحت الامتيازات على مستوى الطوائف الإسلامية، فهي لا تطرح إلاَّ من خلال أنَّهم يريدون إشغال هذه الطوائف فيما بينها، وهم عندما يثيرون موضوع الامتيازات الطائفية ـ السياسية، كأن يقولوا للسنّة إنَّ الشيعة يريدون انتزاع رئاسة مجلس الوزراء منكم، ويوعزون للشيعة بأنَّ السنّة عينهم على رئاسة المجلس النيابي، لا يثيرونها من موقع الغيرة على امتيازات هذه الطائفة أو تلك، وإنَّما لتأجيج نار المخاوف، واستغلال عقلية الخوف والحذر المضاد، على أرضية الحساسيات المذهبية وعصبياتها، لتعميقها وإشعالها، بحيث يبقى المسلمون متنابذين متعارضين متكارهين، لا توحّدهم ألفة، ولا تجمعهم مصلحة أو غيرة على الإسلام والدين، فالهموم تقتصر على المصالح المذهبية والشخصية لهذه الفئة أو تلك، ولهذا الشخص أو ذاك، في حين أنَّ الشأن الإسلامي، التفكير الإسلامي العام، المصلحة الإسلامية العليا، تبقى في خبر كان. وهكذا يحصل الفتانون من الأعداء على الأمن أمام هذا البحر الإسلامي، هذا البحر الذي ليس فيه من الإسلام إلاَّ اسمه.
الحقيقة، وبعيداً عن كلّ أمراء السياسة، ليست هناك مشكلة شيعية ـ سنية، وإذا توسعنا، ليس هناك مشكلة إسلامية ـ مسيحية، هناك مشكلة إنسانية في هذا البلد، مشكلة مستضعفين ومستكبرين، مشكلة أناس ساروا في ركب مخطَّطات وأهداف إقليمية ودولية.
ولهذا قلت في محاضرات سابقة: اجمعوا كلّ أمراء السياسة من كلّ الطوائف، واذهبوا بهم إلى جزيرة في البحر، فستجدون أنَّ الشعب هنا في لبنان، لا يحتاج للّقاء إلى أي من جلسات الحوار، لأنَّهم فعلاً يلتقون في المدرسة والمصنع ويتحادثون، ويترحّمون على الأيام السابقة، ويشيرون بعين الأسى إلى الواقع المعاش، لكن هؤلاء هم الذين يخيفون النّاس، ويضعون بينهم الحواجز، لأنَّ اللعبة لا تمر إلاَّ بذلك.
ما نريد تأكيده هنا، هو أنَّ قضايانا واحدة ومشاكلنا واحدة، لا أقولها كشعار، ولكن لنبحث في مفردات الواقع، هل نجد هنالك خصوصيات لهذه المشاكل؟ سوف لن تجدوا الخصوصيات، بل ستجدون الوحدة التي هي واقعنا الذي نعيشه لو أحسنّا تخليصه من كثير من العقد ومن كثير من الشوائب.
فالقضية أنّنا نعيش روح الوحدة عندما نعيش الإسلام، لأنَّ الإسلام رسالة، فالتسنن ليس ديناً، كما أنّ التشيع ليس بدين، بل التسنن والتشيع هما وجهتا نظر في فهم الإسلام، ويمكن لوجهتي النظر أن تتقاربا أو تتحدا. والطائفية التي جزّأت البلد ليست ديناً، الطائفية عشائرية بشكل أوسع، وإلاَّ فانظروا إلى كلّ أمراء الطوائف، مـن منهـم يعتقـد باللّه فضلاً عن المسيح (ع) أو محمَّد (ص)؟! إنَّهم لا يعتقدون بهذه القيم، ولو اعتقدوا بها لرأوا أنَّ في الإنجيل والقرآن أكثر من ساحة للقاء، إنَّهم ليسوا متدينين بل عشائريين، يعيشون الطائفية كعشائرية، ولا يعيشونها كفكر وروح أو كرسالة للحياة.
إنَّ علينا رفض الطائفية، لأنَّها العلبة التي أُريد لنا أن نتعلب بها. إنَّ علينا الانفتاح على ما نتفق حوله، وعلى ما نختلف فيه كفكر، لنحاول التحاور فيه والانطلاق منه، لنصل إلى نتائج كبيرة.
لنكن حملة رسالات لا حملة شعارات:
كما بدأت أقول في ختام الحديث، إنَّ الحديث مسؤولية، وكذلك الاستماع إليه. إنّني أريد لهذه الأفكار ولغيرها مما يقوله الآخرون، أن تكون فكراً نتأمل فيه، وأن تكون خطوة ننطلق منها إلى الأمام. إنّني أريد لنفسي ولكم، أيُّها الأخوة والأخوات، أن ننطلق إلى كلّ هذا الواقع الذي تختبئ فيه كثير من الخلفيات التي تريد أن تعمل على تهديمه، وأطلب منكم التفكير في كلّ شيء يطرح عليكم. حاولوا التفكير في كلّ شيء تؤمنون به، حاولوا أن تفكروا في الواقع السياسي عندما تتبنونه كما تفكرون في الواقع الديني عندما تؤمنون به، لأنَّ مشكلة الكثيرين منا، أنَّهم جـمّدوا أفكارهم، وانطلقوا في عبادة للشخصية، فهم يتعبدون للأشخاص وإن لم يصلوا لهم، ويتعبدون للأشخاص وإن لـم يسجدوا لهم. إنَّ أفكارنا تسجد لكثير من أفكار الآخرين، وإنَّ أرواحنا تركع لكثير من خطوات الآخرين. لقد خلق اللّه لنا فكراً، لذا علينا تحريك هذا الفكر في كلّ شيء. علينا أن لا نجعل آذاننا معبراً سهلاً لكلّ فكرة، فلا ندعها تسيطر على قناعاتنا، بل نجعلها موضع تساؤل، بحيث نفكر في كلّ شيء ولا نحكم على أي شيء إلاَّ بعد أن نعرفه وندرسه. إنَّ كلّ اللاعبين، كباراً وصغاراً، يراهنون على جهل النّاس بالسياسة، وعلى جهل النّاس بالدين، كما يراهنوان على براعتهم في تجهيل النّاس من خلال سفسطاتهم وأضاليلهم. إنَّهم يراهنون على جهلكم، ويراهنون على أنَّه ليس عندكم وقت للتفكير فيما يقولون، أو فيما يحدث من حولكم. إنَّنا لا نريد أن نكون حملة شعارات، نريد أن نكون حملة رسالات. إنَّك تستطيع أن تعلق الشعار على الحائط ثمّ تنزعه بعد حين عندما يتغير الوضع وتتغير الموجة، ولكنَّ الرسالة تبقى في فكرك ودمك وحياتك، لأنَّ الرسالة هي حياتك وحياة الآخرين، وهي مستقبلك ومستقبل الآخرين. فهل لنا أن نكون أصحاب الرسالة، ولا نكون أصحاب اللعبة؟! إنَّ أصحاب اللعبة سوف يكتشفون الخلافات جيداً، ولكن أصحاب الرسالة سوف يكتشفون مواطن اللقاء جيداً. إنَّ القرآن علّمنا البحث عن مواطن اللقاء: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلاَّ اللّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه} (آل عمران؛64). ارفضوا كلّ هؤلاء الأرباب، وانطلقوا مع الرب الواحد في الطريق الواحد والجو الواحد. فالوحدة التي تنطلق من الفكر ومن الشعور بالمسؤولية، هي التي تملك الأمل بالنجاح.
أيُّها الأخوة، إنَّ الساحة مفتوحة، وكثيرون يريدون أن ينصبوا الحواجز عليها، فهل لنا الانطلاق فيها وبها نحو الوحدة، قبل أن تنتصب هذه الحواجز كبيرة كبيرة. إنَّ علينا تحطيم كلّ ما ينصب لنا من حواجز بكلّ أساليب الرفق، وبكلّ أساليب الحبّ والرحمة، فالإسلام رحمة كما هي المسيحية محبة؛ رحمة تفهم الواقع وتتعامل معه من خلال ظروفه، ومحبة تبحث في الواقع عن كلّ الجوانب المضيئة في الحياة.
أيُّها الأخوة، أيتها الأخوات، لقد تعبنا من العنف، تعب ديننا من العنف، تعب مستقبلنا من العنف، تعب حاضرنا من العنف، وقد عرفنا أنَّ العنف في الداخل لن يحل المشكلة. لقد جربتم العنف في قتال الشوارع، وجربتم العنف في قتال المحاور، وجربتم العنف في أكثر من طريق، فهل لكم تجريب الرفق والمحبة والرحمة؟! جرّبوا هذه من جديد، فستكتشفون أنَّها هي التي يمكن أن تفتح عيونكم على الشمس، وهي التي يمكن أن تسير بكم إلى حيث الينابيع.

الثلاثاء، 16 أغسطس 2011

لغة الحوار أساس السلام في المجتمع

لغة الحوار والاعتراف بالرأي الآخر هي اللبنة الأولى في تطور المجتمع وخلق التلاقح الفكري الذي يؤدي إلى التجانس والانسجام في كل مسألة تسهم في تطور المجتمع وتقدمه.
ومما لا جدال فيه أن لغة الحوار و التسامح من القيم الحضارية لأي أيديولوجية أو فكر بغض النظر عن ثوابت هذه الأيديولوجية ومما لا شك فيه أيضا أن كل إنسان يحمل فكراً أيديولوجيا منضبطاً بضابط العدل و المساواة لابد وأن يدعو إلى لغة الحوار و التسامح وهذا أمر إيجابي...
لكن هناك سؤال يطرح نفسه عن طبيعة القالب الذي يحتضن هذا الحوار والتسامح بين نسيج الشعب ؟!!‏ والشباب من هذا النسيج وهم العنصر الرئيسي في تجسيد الديمقراطية والحوار والبعد عن التطرف وإتقان لغة الحوار، وعنصر الشباب في كل مجتمع إنساني هو طاقته وذخره في المستقبل، وهم القوة المحركة والفاعلة في كل مجتمع في جميع مراحل حياتنا كان لهم دور كبير في مواجهة التحديات والأزمات التي تواجه أي مجتمع من خلال تشكيل وتكوين فكر وقدرات وطاقات الشباب على النحو المحقق لأهداف المجتمع في النهضة والنمو والتطور، وإذا كان الشباب اليوم يمثلون نصف الحاضر فأنهم في الغد سيكونون كل المستقبل، ومن هنا جاءت العبارة بأن الشباب عماد المستقبل.
الشباب وسيلة التنمية وغايته، فالشباب يسهمون بدور فاعل في تشكيل ملامح الحاضر واستشراف المستقبل، والمجتمع لا يكون قويا إلا بشبابه والأوطان لا تبنى إلا بسواعد شبابه، وذلك عندما يكون العنصر البشري معد بشكل سليم وواعي مسلحا بالعلم والإيمان والانتماء والولاء للوطن، عندها سوف يصبح أكثر قدرة على مواجهة تحديات العصر وأكثر استعدادا للمستقبل، ولذلك فان جميع الأمم والشعوب تراهن عليهم دوما في تحقيق التنمية الوطنية الشاملة، وثقافة الاعتدال والتسامح واحترام الرأي والرأي الأخر والتعايش السلمي جميعها تصب في تحقيق التقدم والتطور والبناء الاجتماعي السليم.
وإننا اليوم بأمس الحاجة إلى إشاعة لغة الحوار وثقافة الاعتدال والتسامح والتعايش السلمي والانفتاح والاعتراف بالآخر والوقوف بحزم وبشدة ضد تيارات التشدد والتطرف والعنف ولا بد من العناية بتصحيح المفاهيم وضبط المصطلحات الشرعية وتخليصها مما خالطها من المصطلحات المغلوطة والمشبوهة والحفاظ على خصوصيتنا الثقافية ومميزاتنا الفكرية.
 ولابد في هذا المجال أن نشير إلى نقطة هامة جدا ألا وهي الانفتاح الإيجابي والتداخل والتفاعل بين الشعوب المتقدمة والمتحضرة والاستفادة منها: بشكل خاص في نجاح وتعزيز النهج الديمقراطي بمفهومه الواسع وليس فقط التركيز على العملية الانتخابية إضافة إلى قضايا حقوق المرأة والأقليات وحقوق الإنسان ونشر ثقافة التداول السلمي للسلطة والتنمية البشرية..
ولنا في التجربة خير برهان - كوريا الجنوبية واليابان- فهذه الدول عندما كانت متشددة ويسودها العنف والتطرف الحزبي والعرقي والديني كان مصيرها التدمير والهلاك والفقر والجوع وعندما توجهت نحو لغة الحوار وثقافة الاعتدال والتسامح والتعايش السلمي وتوقفت الإيديولوجية المتشددة والمتطرفة أصبحت بحق وحقيقة من الدول الاقتصادية الكبرى في العالم وهو ما نتمنى بالفعل أن يتحول هذا الحلم إلى واقع بأن تصبح مجتمعاتنا العربية والإسلامية مثل اليابان وكوريا الجنوبية وغير ها من الدول المتقدمة والمتحضرة.
وخلاصة القول.. أنه لا سبيل غير لغة الحوار وثقافة الاعتدال والتسامح والتعايش السلمي والاعتراف بالآخر كضمان وحيد لتحقيق التقدم والتطور والبناء الاجتماعي السليم.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف السامي ينبغي في الواقع أولا أن يتحاور العرب والمسلمون فيما بينهم وينفتحون على بعضهم البعض بكل صراحة وشفافية حتى يستطيعون تجاوز حالة التفرقة والتنازع والتصادم والتحارب ويتفقون على بناء مشروع حضاري يخدم شعوبهم أولا وأخيرا، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بتضافر كل الجهود والإمكانات والطاقات ويستفاد من كل العقول المفكرة والمنتجة في سبيل النهوض الحضاري الشامل..
ومن هنا يمكنهم أن ينطلقوا بروح جديدة نحو إيجاد مناخ مناسب وملائم لانطلاقة حضارية شامخة وعظيمة تنافس وتواكب الأمم المتقدمة والمتحضرة في المستقبل المنظور.
إن هذا التعايش الذي يتجلى في الحوار والائتلاف حول القضايا الوطنية، وحول تأكيد الهوية الثقافية والفكرية المنطلقة من الثوابت الدينية والوطنية، والمستفيدة في الوقت نفسه من التحولات الثقافية الإيجابية عربيا وعالميا بما يزكو من حياتنا، وبما يطور من رؤانا وتصوراتنا التي نستثمرها في النهضة والبناء والمعرفة، هذا التعايش سمة من سمات هذه البلاد الأصيلة التي تنطلق من أدبيات وتقاليد عريقة لها أثرها في مختلف الأجيال.
وإن هذا التعايش ربما لا نجده في مناطق أخرى من العالم من حولنا، حيث يتخذ التنوع الإثني (الأجناس البشرية وخصائصها وأخلاقها وتفرقها) أو العرقي أو المذهبي شكلا حادا، ويتخذ سمة الصراع في المنابر، فكل يريد أن يعبر عن نفسه، أو تياره بأية صيغة، وبأي شكل، حتى ولو تحول هذا التعبير إلى طرق غير مشروعة، أو إلى تعبيرات ومواقف حادة، وهذا ما تنبذه كل الأطياف الفكرية والوطنية في بلادنا متجهة صوب الحوار المسؤول المستظل بمظلة الدين والوطن، وهي مسؤولية وطنية ناضجة.
من هنا لنا أن نزهو بهذا التعايش الذي يترك مساحة كبيرة للتفكير والتأمل واستشراف مختلف القضايا، ووضع تصورات إيجابية شاملة حولها، وهو الأمر الذي يقودنا إلى استلهام عناصر هذه التصورات، وتطبيقها بشكل عملي يؤدي إلى النهوض والتقدم والمعرفة، وهذا هو دور الحوار، وصدى التعايش بين مختلف التيارات الفكرية .
-----------------
عدنان العلي الحسن