الجمعة، 22 يوليو 2011

الاختلاف مسموح.. ولكن

الاختلاف بين البشر، بل بين المخلوقات عامّةً، هو إحدى السنن الكونيّة، التي يقول الله سبحانه فيها: [فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنّة الله تحويلاً]، وقد شاءت قدرة الباري تعالى شأنه أن يكون هذا الكون الرحب الفسيح محكوماً لهذا الاختلاف.
وهذا الاختلاف الكونيّ هو الذي يُحدث التنوّع والتناغم، وهو الذي يتيح المجال أمام الإبداع والتناسق ليخيّم بأجوائه على الأرجاء، وهو أيضاً ما يحول دون سيطرة الرتابةَ والفُتُور، وهو الذي يحرّر الإنسان من أسر العادات القاتلة.

فالكواكب والنجوم، والسماء والأرض، والجبال والسهول، والبحار والمحيطات، والرجال والنساء، كل ذلك مختلف من حيث الخلقة، ومن حيث السلوك والحركة، ومن حيث العاطفة والوجدان.
إنّ وجود اختلاف لا حصر ولا حدّ له داخل كلّ نوع من هذه الأنواع هو ما يجعل للحياة طعماً ومذاقاً مختلفاً، فهو يثري الحياة ويغنيها بمظاهر التنوّع وأشكاله، ولنتخيّل مثلاً لو أنّ الأماكن كلّها كانت على شاكلة واحدة من حيث طبيعة المكان والمناخ و.. إذاً لسئم الإنسان حياته من العام الأوّل لحياته؛ لأنّه أينما حلّ وأينما ارتحل فسوف لن يجد جديداً، ولن يتغيّر عليه شيء.

وعن مشاهد الاختلاف وأثره في وجدان الإنسان يقول عزّ من قائل: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]. ويقول تعالى في موضع آخر: [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ].

فالله تعالى جعل الاختلاف آيةً لقوم يعقلون، وآية لأهل العلم وأُولي الألباب.
وفي موضع آخر أيضاً يحدّثنا الكتاب العزيز عن الاختلاف بوصفه هبة إلهيّة، وواحدة من النعم الكثيرة التي لا يحصيها العادّون، إذ يقول تعالى: [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ].

فالله تعالى جعل الليل يعقب النهار، والنهار يعقب الليل حتى لا يشعر الإنسان بالملل والسأم.
وإذا وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الاختلاف موهبة إلهيّة وعطيّة ربّانيّة، أيقنّا حينئذٍ أنّ الذين يتحدّثون عن ضرورة إزالة الفوارق والاختلافات بين المسلمين، ولزوم توحيد كلمتهم وآرائهم على رأي واحد، هذا الحديث، مضافاً إلى أنّه يخلّ بجوانب الإبداع المختلفة التي تحتاج إليها الأمّة، فهو أيضاً من الأمور التي يستحيل فرضها وتطبيقها؛ نظراً لكونه على خلاف ما تقضي به الفطرة والسنن الإلهيّة المحكمة. ولو كان هذا ليحدث لحدث في خير القرون، في عهد رسول الله(ص)، ولكنّه لم يحدث، حيث كان الصحابة يختلفون وتتعدّد أنظارهم وآراؤهم والرسول بين ظهرانيهم يتنزّل عليه الوحي من لدن عزيز حكيم، ولو كان مطلوباً لكان النبيّ(ص) أولى الناس بالدعوة إليه، ولكنّه لم يفعل، بل أقرّ هذا الاختلاف ضمن ضوابطه، وفي دائرةٍ لا تصل إلى حدّ التناقضات الهدّامة.

وعليه: فلا ينبغي لنا أن نقلق من هذا الاختلاف، سواء كان في أمور شرعيّة أم في أمور حياتية، بل على العكس من ذلك، علينا أن نسعى إلى تحكيم هذا الاختلاف وجعله منهجاً في الحياة، يطبّقه الزوج في بيته مع زوجته وأولاده، وتطبّقه المؤسّسات والشركات والدوائر على اختلاف موقعيّتها في المجتمع، بدءاً المؤسّسات الصغيرة، كالأسرة، ووصولاً إلى مؤسّسات الدولة والمجتمع المدنيّ، وانتهاءاً إلى مجموعة الدول، بل العالم أجمع.

إنّ الرجل الذي يريد أن يحوّل زوجته وأولاده إلى نسخة مكرّرة منه؛ هو رجل فاشل في إدارته لأسرته، ورئيس العمل الذي لا يقبل من الناس إلّا أن يفكّروا كما يفكر هو، ويُؤَمِّنوا على قوله وأفعاله دون اعتراض ولا تفكير؛ فسيقضي على مؤسسته بالضياع والانهيار، وعلى هذا تقاس كلّ أمورنا.
قال تعالى: [وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ].
ويبقى هنا شيء هامّ...

فإذا كان الاختلاف حقيقة كونيّة، وضرورة شرعيّة؛ فلماذا يؤدّي إلى التناحر والتشرذم والتفرق والضعف؟؟
إنّ السبب الرئيس في هذه المسألة هو غياب آداب وأخلاق الاختلاف، فكلّ يُصرّ على رأيه، ويعتبر نفسه محور الحقّ والعدالة، وبالتالي: فكلّ من يخالفه الرأي فقد حاد عن جادّة الصواب.

وأوّل وأهمّ آداب الاختلاف: روح الأخوّة الإنسانيّة والإسلاميّة، وبغياب هذه الروح يتحوّل الاختلاف من نعمة إلى نقمة، ويصبح الاختلاف مثاراً للفرقة بدل أن يكون مدعاةً للاجتماع، ومن وسيلة للبناء إلى آلة فتّاكة هدّامة، تدمّر ولا تعمّر.. وأمّا حضور هذه الروح، وتعزيز وجودها، فهو وحده ما يضمن للجميع أن يتعايشوا في سلام ووئام.

-------------------------
حسن يحيى