الثلاثاء، 8 مارس 2011

رسالة المثقف في عصر النهضة

الثقافة والمثقف مصطلحان يشيران إلى وظيفة واحدة ينبغي أن تؤدى في الوسط الاجتماعي ضمن خطة واضحة المعالم من حيث المنطلقات والغايات وتلك الوظيفة هي تثقيف المجتمع بالثقافة الشاملة اللازمة لمسيرته الحضارية.
والثقافة في المجتمعات قسمان إذا ما لوحظت من حيث الشمولية وعدمها. ثقافة بدائية تلقائية توجد حيث يوجد المجتمع وهي تسود كافة المجتمعات الإنسانية ولا يخلو منها مجتمع وتتجلى في عموم الحالة العامة السائدة في المجتمع.
وثقافة موجهة قد تم التخطيط لها على أسس متينة وقواعد وأصول ثابتة من الوعي الحضاري بالمنطلقات والتطلعات التي يتبناها المجتمع ويعمل في سبيل تركيزها من خلال كافة مؤسساته المتطورة والفاعلة.
وهذا التقسيم - وان أمكن تقسيم كافة الحالات الاجتماعية على أساسه - إلا أن هذا لا يعني عدم أهمية تقسيم الثقافة (أهم عنصر في البناء الإجتماعي) على أساسه وذلك لأنه من خلال هذا النوع من التقسيم المنهجي تتكشف لنا بنسبة كبيرة مجموعة حقائق هامة.
الأولى: مدخلية الثقافة كعنصر هام في عملية البناء الحضاري في حياة المجتمع بدرجة لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفالها أو إهمالها أو تهميشها حتى أصبحت المجتمعات على أساس حجم ونوعية الثقافة تصنف حضارياً.
والثقافة بهذه الموقعية تأخذ لنفسها شكلاً معيارياً به تقاس الحالة الحضارية (عموماً) لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية. فإذاً هي المدخل لدراسة كل المجالات الحياتية وقياس مدى فعاليتها وقدرتها على العطاء النوعي على طريق البناء الحضاري الطويل.
الثانية: وأهمية المثقف إنما تنبع من أهمية الثقافة نفسها وحاجة المجتمع لها من الناحية النفسية والسلوكية والعملية وهذا يعني أنه بمقدار ما يخطط للثقافة ينبغي بنفس الجدية والدقة أن يخطط لدور المثقف حتى تصبح حركته الفكرية والثقافية في مستوى طبيعة ومتطلبات المرحلة التاريخية الراهنة.
فلا يكفي لكي ينطلق المجتمع حضارياً أن يكون ذا رصيد ثقافي كبير ونوعي وإنما بالإضافة إلى ذلك وأهميته يحتاج إلى قوة فاعلة ومتميزة قادرة على التعاطي السليم مع هذا الرصيد الضخم من الثقافة في كل مراحل التعامل إبتداءاً من الإنتاج وهضمه حتى بلوغ مستوى متقدم من الفهم العميق له وإنتهاءاً بتوجيه المجتمع إليه وتثقيفه (المجتمع) إنطلاقاً من واقع الثقافة ومضامينها الروحية والقيمية والتنظيمية.
الثالثة: إن وظيفة المثقف في توجيه المجتمع وتوعيته والمساهمة في بنائه فكرياً وروحياً وسلوكياً لا يمكن فصلها من الناحية النوعية والعملية عن الشروط الذاتية التي تنطوي عليها شخصية المثقف نفسه وهذا ما يؤكد أهمية وخطورة المثقف ودوره في عملية التوجيه والنوعية التي يتعرض اليها المجتمع فالمثقف مالم يكن من الناحية القيمية ملتزماً بالمنطلقات والأهداف المثلى فانه سيكون أثره السلبي على الحياة الإجتماعية أكثر وأكبر من أي انحراف قد يصيب المجتمع باعتبار طبيعة التأثير الكبير الذي تتركه الأفكار على الحياة الاجتماعية غالباً.
الرابعة: توضيح هذه الحقائق (الحيثيات) المذكورة أعلاه بان العملية التي يقوم بها المثقف في حياة المجتمع الفكرية والثقافية ليست مجرد مهنة أو وظيفة أو هواية يديرها ويتصرف من خلالها حسب رغبته أو ذوقه أو مزاجه الشخصي بل هي قبل كل شيء رسالة حضارية وإنسانية ينبغي أن ينطلق فيها من خلال المثل العليا التي يتطلع اليها المجتمع دينياً وحضارياً ومن خلال الحاجات الواقعية المتجددة الملحة التي تتطلبها المسيرة الحضارية للمجتمع.
المثقف وحركة المجتمع (النهضة)
(التثقيف) العملية التي يقوم بها المثقف كرسالة حضارية وإنسانية انطلاقاً من المنطلقات الدينية والحياتية للمجتمع لا تتحرك دائماً على أرض ثابتة وجامدة بل هي كسائر العمليات الاجتماعية الأخرى التي تخالط المجتمع وتؤثر فيه وتتأثر به ولأن الأرضية الاجتماعية في حركة دائمة التحول والتطور من الهبوط إلى الصعود ومن الصعود إلى الهبوط فان مواكبة هذه التطورات والتحولات الجارية في حياة المجتمع تشكل أبرز المهام الأساسية التي ينبغي على المثقف العناية بها من خلال الرصد إليها بالمراقبة وتحليلها بالدراسة الدائمة.
بل إن هذه المواكبة بمقدار ما فيها من جدية ومنهجية دقيقة تكفل للمثقف معرفة متقدمة ونوعية بطبيعة الأحداث الجارية وما تنطوي عليه من خلفيات ومؤديات للاحاطة بها الأهمية الكبرى والأثر الكبير على عملية الثقيف والممارسة الحضارية الشاملة التي يقوم بها المثقف داخل إطار دائرة المجتمع.
كما وأن لهذه المواكبة الضرورية الدور الرئيسي في معرفة المثقف بالمرحلة التاريخية التي يعيشها فعلاً المجتمع من خلال واقعه العام.
إذاً عملية التثقيف لاتجري في الفراغ بل لها أرضيتها الخاصة بها وان معرفة هذه الأرضية وطبيعتها الواقعية لها المدخلية الكبيرة في تحديد طبيعة العملية التثقيفية ورسم منطلقاتها وآفاقها وسائر مفرداتها وتحديدها من حيث الشكل والمضمون وبالتالي فان رسالة المثقف في كل مرحلة تاريخية تحددها طبيعة المرحلة الزمنية التي يمر بها المجتمع بالاضافة إلى نوعية العقيدة والأيديولوجية السائدة في حياة المجتمع.
فهل المجتمع ضمن مرحلته التاريخية والزمنية الراهنة يعيش مرحلة التقهقر والانحطاط أم أنه حاليا يعيش مرحلة النهوض والانطلاق ؟
فهذا التساؤل وأمثاله لايمكن الاجابة عليه إجابة صحيحة وواضحة ودقيقة ما لم تُواكب الأحداث الجارية والتطورات والتحولات المتحركة في الساحة الاجتماعية اعتماداً على منهجية علمية سليمة قائمة على الرصد الدقيق والدراسة التحليلية الشاملة.
وكلما كانت الإجاية في هذا المجال قائمة على أسس شاملة لطبيعة العوامل المحركة للساحة الاجتماعية حضارياً كانت القدرة على تحديد المتطلبات والحاجات اللازمة لعملية الاصلاح والتوجيه والتوعية الثقافية التي يقوم بها المثقف أكبر باعتبار أنه لا توجد عملية ثقافية (تثقيفية) معلبة وجاهزة وتتناسب في مضمونها وشكلها مع كل مرحلة وفي كل مجتمع بل إن أخذ الخصوصيات المختلفة السائدة في المجتمع ضمن كل مرحلة من مراحل مسيرته الحضارية يشكل أهم ضمانة لتحقيق حالة الفاعلية والنجاح ـ وإن كان نسبياً ـ للعملية التثقيفية وبالتالي نجاح المثقف في أداء رسالته الثقافية في حياة مجتمعه.
المثقف الرسالي وعصر النهضة الإسلامية
يلخص هذا العنوان (النهضة الإسلامية) اليوم ما تنطوي عليه المرحلة التاريخية الراهنة التي يمر بها العالم الاسلامي من معطيات حضارية جديدة أفرزتها التحولات النوعية الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي في داخله والساحة العالمية من حوله على مختلف المجالات والصعد وبالذات التحولات الثقافية العارمة عالمياً وإقليمياً ومحلياً الأمر الذي أبرز على الساحة العالمية أنماطا جديدة من الصدام والصراع والمواجهة الحضارية بين الأفكار الكبرى في العالم.
ويجد المراقب لمسيرة الأحداث المتلاحقة في العالم الإسلامي إلى جانب هذا العنوان (النهضة الإسلامية) عناوين كثيرة ومتنوعة تلتقي في دلالتها مع دلالة هذا العنوان من قبيل (الصحوة الإسلامية) و (الحالة الإسلامية) و (البعث الإسلامي) وغيرها كثير لتشكل بمجموعها مؤشرات واضحة تؤكد الخطوات الواسعة التي خطاها العالم الإسلامي خلال المراحل الزمنية السابقة من تاريخة الحديث على طريق التأهيل الديني والمعرفة الثقافية والوعي السياسي والتجربة الحضارية والجهادية الأمر الذي أعطى هذه المرحلة التاريخية الراهنة من تاريخ العالم الإسلامي من الأهمية والخطورة والخصوبة ما جعل أنظار المراقبين والخبراء والباحثين في العالم بأسره تتوجه مشدودة للعالم الإسلامي لمعرفة حقيقة ما يجري فيه من تطورات تاريخية بدأت تُلقي بثقلها الكبير على مختلف الأوضاع العالمية ولا سيما الفكرية والثقافية في شكل تموجات قوية وسريعة لم توقفها عن التوسع والتعمق والانتشار ما يفرض عليها من ضروب الحصار ضمن المخططات المناوئة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية كان آخرها المؤتمر الذي عقد في (شرم الشيخ) تحت عنوان (مكافحة الإرهاب) بمبادرة من الولايات المتحدة الأمريكية ورعاية وإشراف الأنظمة السائرة في فلكها، ولمصلحة الموقف الإسرائيلي في عملية السلام. ولا ريب في أن هذه العناوين وأمثالها تشير إلى حقيقة واحدة وإن تعددت مظاهرها وكثرت تجلياتها من خلال الأحداث الجارية والتطورات المتلاحقة في مختلف مناطق العالم - وليس العالم الإسلامي فقط - تلك الحقيقة هي أن الدين الإسلامي بدأ مرحلة جديدة من البعث والمواجهة الحضارية من خلال العودة القوية اليه من قبل المسلمين أنفسهم (وغيرهم)‍ الذين هجروا تعاليمه وتشريعاته ونظمه تحت ظل ظروف تاريخية عصيبة فرضت عليهم من الداخل والخارج كانت نتيجتها الطبيعية المزيد من الابتعاد عن الدين ورسالته في الحياة والمزيد من التشرذم والتشتت والانقسام بين أبناء الصف الإسلامي الواحد.
ولكن ها هم المسلمون في مختلف مناطق العالم يعودون لدينهم بعد طول انقطاع وضياع باحثين فيه وفي تأريخهم المشرق عما يبصر عقولهم ويشحذ هممهم وينير لهم طريق الخلاص ويبشرهم بالمستقبل الإسلامي المشرق.
إن هذه المعرفة الشاملة لواقع التحولات والمستجدات في العالم الإسلامي تُحمل المسلمين جميعهم وكلاً حسب معرفته وخبرته وإمكانياته مسؤوليات جسيمة باتجاه المحافظة على هذه المكتسبات أولاً والسعي الحثيث في سبيل تركيزها وتطويرها ودفع عجلة الأحداث نحو المزيد من العودة للدين والتوعية السياسية والتوجيه الثقافي وإثراء الساحة الإسلامية بكل معرفة ومشروع وخطة من شأنها أن تساهم في تأصيل الحالة الدينية وتحريك الشعوب الإسلامية نحو بناء مستقبلها المنشود.
وعصر النهضة هذا وإن كان يتطلب من المسلمين كافة المساهمة في العمل على المحافظة على مكتسباته وتطويره من خلال مختلف المشاركات الصادرة منهم الا أن المسؤولية الأولى الملقاة على كاهلهم هي مسؤولية (الترشيد) أي ترشيد النهضة الإسلامية من خلال مشاريع التوجيه الثقافية حتى تبقى في مسارها الصحيح بعيدة عن حالات الشذوذ والإنحراف، محافظة على زخمها الروحي وانطلاقاتها العملية في شكل تكون فيه بمستوى التحديات المحدقة بها، والذين ينبغي أن يتصدوا لهذه المهمة (الرسالة) بالذات هم العلماء العارفون بالدين والخبراء بشؤون العمل الإسلامي ومن بينهم (المثقفون) المحيطون علماً بالمفاهيم الإسلامية الأصيلة والمواكبين لتحولات الأحداث في العالم الإسلامي وخارجه.
فهؤلاء مسؤوليتهم (رسالتهم) في عصر النهضة جسيمة وخطيرة ولابد من القيام بها على أكمل وجه مساهمة منهم في المحافظة على مكتسباتها وتصعيداً منهم لوتيرة مسيرتها بما يعزز قوتها ويرفع من مستوى تأثيرها في مختلف مناطق العالم.. أما السبب الذي يجعلنا نركز على رسالة المثقفين في عصر النهضة الإسلامية دون غيرهم في هذه الدراسة فهي للاعتبارات التالية:
لماذا حول المثقفين؟
لا ريب في أن مسؤولية المحافظة على مكتسبات النهضة الإسلامية المعاصرة ليست مقتصرة على شريحة واحدة أو معينة من شرائح المجتمع الإسلامي بل إن هذه المسؤولية الجسيمة ينبغي أن تشمل كافة المسلمين باعتبار وحدة الرسالة ووحدة المصير المشترك ولأن المسلمين في العالم الإسلامي بأمس الحاجة لكل الجهود والإمكانيات الفاعلة في سبيل تحقيق أهداف النهضة الإسلامية وتطلعاتها الشاملة.
ولكن طبيعة المعطيات القائمة اليوم في العالم الإسلامي تفرض على المثقفين بالذات (للاعتبارات الآتية) دوراً أكبر في عملية النهوض:
أولاً: لأن الثقافة عموماً بطبيعتها تشكل أرضية كل نهضة والقوة المحركة لعناصرها الأساسية ولو لا التوعية والتوجيه والترشيد الثقافي لكانت النهضة - أي نهضة - حركة في المطلق لا مصب لها إلا المجهول!.
ثانياً: والمثقفون (حملة الثقافة) هم المعنيون في الدرجة الأولى بالتصدي لأعباء هذه الرسالة إلى جانب كافة الجهود التي تبذلها بطبيعة الحال بقية الشرائح الاجتماعية العاملة في الساحة.
ثالثاً: لأن القاسم المشترك (الجامع) بين سائر التحديات المحلية والإقليمية والدولية التي تواجه النهضة الإسلامية اليوم يتجلى بشكل واضح في المواجهة الثقافية العارمة التي تكشف عنها دائماً الأجهزة الإعلامية من خلال مواردها وبرامجها الإعلامية والثقافية الموجهة والهادفة إلى إحباط النهضة وعرقلة انطلاقتها.
رابعاً: باعتبار أن الثقافة بحسب مقتضيات وظيفتها تشكل حلقة الربط القوية بين الشعوب الإسلامية والنهضة (ظاهرة العودة إلى الدين) وكلما كانت الثقافة الرائجة نوعية وواضحة في ذهنية الشعوب الإسلامية كانت الشعوب نفسها أقدر على التعامل السليم وكانت أكثر حضوراً وتفاعلاً ومشاركة في الساحة.
وهذه الاعتبارات تؤكدها النهضة من خلال ملامحها العامة:
الملامح العامة للنهضة الإسلامية (المؤشرات)
لا نريد من خلال استعراض ملامح النهضة البارزة الاستدلال على أن النهضة الإسلامية أصبحت ظاهرة عامة لها وجودها ومعطياتها الكثيرة لأن موضوعاً كهذا أصبح طرقُهُ بالبحث لا يخلو من تكلف بعد أن أصبحت النهضة الإسلامية على مستوى العالم كله واقعاً لا يختلف فيه اثنان لما لها من الحضور الجلي حتى أصبحت موضوع دراسات وبحوث كثيرة تقوم بها كبرى مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في العالم الإسلامي وخارجه ولكننا نهدف من خلال استعراض الملامح العامة للنهضة الإسلامية التأكيد على أن رسالة المثقفين في العالم الإسلامي تجاه النهضة الإسلامية وتطوراتها السريعة والمتلاحقة تتعاظم أهمية وتزداد خطورة كلما ازدادت النهضة الإسلامية تجذراً وتوسعاً وانتشاراً وارتفعت وتيرة التحديات الكبرى التي تهدد ثباتها واستمراريتها.
والنهضة الإسلامية اليوم وإن استطاعت بجمعها الكبير ونوعيتها الأصيلة أن تلقي بتأثيراتها الواسعة النطاق على كافة مجالات الحياة الإسلامية إلا أنه بامكاننا في هذا المجال أن نشير إلى أهم تلك الملامح العامة والتي تشكل أبرز وأعمق مجالات تأثير النهضة الإسلامية حتى الآن..
- قيام دول إسلامية وبروز ثورات وإنفجار انتفاضات شعبية بروح إسلامية وبمنهج ديني واضح معلن.
- بروز حركات وأحزاب وجماعات سياسية وجهادية وإصلاحية تعتمد الإسلام منهجاً في الإعداد والمواجهة والسيادة.
- ارتفاع مستوى الوعي الثقافي والسياسي والجهادي والحضاري للمسلمين في العالم.
- ارتفاع مستوى المشاركة الثورية والسياسية والإصلاحية للمسلمين على الرغم من كافة المعوقات الداخلية والخارجية المانعة من تلك المشاركة.
- الاهتمام والتفاعل النفسي والعملي مع الأحداث والتطورات السياسية العامة والمتصلة بشؤون المسلمين والمستضعفين في العالم.
- الإقبال الكبير على الكتاب والصحافة الإسلاميين الأمر الذي يكشف عن حالة التوجه الديني والتفاعل الثقافي والسياسي.
- بروز نمط جديد من العلماء (حملة رسالة الدين) يتميزون بالفهم الجديد للدين والتصدي لقضايا المسلمين في العالم ويتفاعلون مع تطورات العصر.
- الإقبال المتزايد على المساجد (توجه للدين والتفاف حول العلماء والتضامن الاجتماعي).
- تزايد الاهتمام بمسألة (الدين) من خلال مراكز الدراسات والبحوث داخل العالم الإسلامي وخارجه.
- تطور الجامعات الدينية (الحوزات) من خلال إصلاح مناهجها ونظمها الإدارية وارتفاع مستوى انفتاحها على الحياة بما فيها من قضايا وهموم مستجدة.
- الحضور الفاعل للمرأة المسلمة كعنصر هام وفاعل في المشروع الإسلامي في الكثير من مناطق العالم الإسلامي.
وعليه فان هذه التطورات النفسية تصلح بان تكون مؤشرات وملامح للنهضة الإسلامية والالتفات اليها يعني ضرورة التوجه لكافة العوامل التي لها مدخلية في المحافظة عليها وتقويمها وتطويرها وهذا لن يتم إلا من خلال التفكير الجاد العميق في خطط وبرامج ومشاريع عملية تكون بمثابة القنوات المنظمة والمهيئة لاستيعاب الأمواج المتدفقة التي تحدثها النهضة الإسلامية في بحر يموج بالأحداث السريعة والتطورات المتلاحقة حيث يشهدها العالم الإسلامي اليوم، وملاحظة هذه الخصوصية (عصر النهضة) بعين الاعتبار - أثناء عملية التخطيط لمشروع النهوض الحضاري ضمن الإطار الإسلامي يحمل كافة الأطراف المعنية بشأن (الترشيد الفكري) للنهضة الإسلامية مسؤوليات مضاعفة لأهمية هذا البعد (الترشيد) في المحافظة على مسار النهضة ضد كل أسباب التشويه والتحريف والإجهاض لما في عملية الترشيد من آثار معنوية وفكرية وعملية رائدة على عموم أبعاد النهضة الإسلامية وما (المثقفون) في العالم الإسلامي إلا إحدى تلك الجهات المعنية بهذه المسؤولية الهامة بسبب طبيعة الدور الذي ينبغي أن يقوموا به في ظل هذه المرحلة التاريخية الهامة والحساسة جداً.
المثقف الرسالي بصيرة وموقف

لا يكون المثقف رسالياً (صاحب رسالة) إلا إذا جمعت شخصيته عاملين اثنين وهما: الرؤية الواضحة للأمور (الدين - التاريخ - الماضي الحاضر المستقبل الأحداث خلفياتها أبعادها.. وكل ما يتصل بمنطلقاته وأهدافه وشروط حركته العامة) وهذا معنى ما اصطلحنا عليه بـ (البصيرة) وهي أيضاً لا قيمة لها في ميزان الرسالة مالم تتحول إلى موقف عملي مناسب إزاء الأحداث والأوضاع والمنعطفات التي تمر بها الساحة الإسلامية عموماً.
وهذان العاملان كما أن لهما المدخلية في مكونات شخصية المثقف رسالياً كذلك يشكلان مضمون الرسالة التي ينبغي عليه أن يتحملها ويمارسها أثناء عمله الثقافي والإصلاحي الأمر الذي يجعل فهمنا لطبيعة الموقف الذي يتخذه المثقف بين مجتمعه وشعبه فهماً حضارياً بعيداً عن كونه مجرد موقع تشريفي وإن لم يكن يفرض على المثقف نوعية خاصة من المسؤوليات والواجبات!! إن الظروف الموضوعية التي أفرزتْ ظاهرة المثقفين في الحياة الاجتماعية تفرض عليهم وتتطلب منهم ممارسة حقيقية لأدوار فاعلة ينبغي أن يؤدوها على أكمل وجه وبها ومن خلالها يكّملون ويتكاملون.
أما عن القاعدة التي ينطلق منها المثقف الرسالي في حركته التثقيفية فهي تتمثل في عقيدته الدينية وتاريخه البطولي المشرق وشعوره العميق بالمسوؤلية الحضارية تجاه واقعه المتخلف.
كما أنه يفرض على نفسه منهجية علمية دقيقية يؤطر بها تفكيره المستمر في قضايا وهموم أمته وشعبه وتجد هذه المنهجية طريقها في حياة المثقف الرسالي من خلال تمحوره حول الثوابت التالية:

الانفتاح مفتاح المعرفة الشاملة

إن المنطلقات الدينية والحضارية التي تشكِّل في مجموعها قاعدة انطلاقة المثقف الرسالي تفرض عليه حالة عميقة من الالتزام المنهجي والعملي بحيث يجد نفسه دائماً مندفعاً نحو الانفتاح على كل الأوضاع الحضارية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تحيط بحركة عمله التثقيفي محلياً وإقليمياً ودولياً بل ويجد في نفسه دافعاً قوياً للانفتاح على كل الخطوط والاتجاهات والمدارس الفكرية الثقافية والحركية لمعرفة ما ترتكز عليه من مضامين دينية أو سياسية أو علمية تشكل بالنسبة إليها قاعدة الانطلاق في حركتها التغييرية أو الإصلاحية وهذا لا يعني أنه لا محاو ر يرتكز عليها في عملية التفكير والتقييم والتوجيه الثقافي بل يدل انفتاحه هذا على وعيه العميق بضرورة الاستفادة -قدر الإمكان- مما تضمه الساحة الفكرية العامة من آراء متصلة بمختلف مجالات الحياة وميادينها بشكل عام وبميدان عمله التثقيفي بشكل خاص. وعليه وطبقاً لحالة الانفتاح هذه تصبح معرفته الثقافية بالأوضاع السائدة في الساحة وما فيها من ظروف وملابسات أكثر شمولاً وأبعد نظراً.

الموضوعية طريق المعرفة السليمة

الإنفتاح بلا موضوعية انتحار أما الموضوعية بلا انفتاح فهي الجمود بعينه ولا ينبغي الاعتصام بأحد طرفي هذه (الثنائية) من دون الطرف الآخر لأن النتيجة حينئذٍ لن تكون الا الانتحار أو الجمود المطلق لكن هذا لا يعني أنهما سواء من حيث القيمة العلمية في ميزان الأهمية بل إن الموضوعية أكثر أهمية من الانفتاح إذ لاقيمة للانفتاح بدونها وقيمة الموضوعية محفوظة بالانفتاح وبدونه بل لولاها لكان الانفتاح مجرد حركة بلا قيود أفقها المطلق وحينئذٍ لن تزيد المثقف الا بعداً عن الصواب وتوغلاً في المجهول وعليه فالموضوعية حالة منهجية لابد أن تسبق الانفتاح وتتحرك منطلقة معه في خط واحد.
واذا كان للانفتاح الدور الكبير في شمولية معرفة المثقف بما في الساحة الثقافية العامة داخل إطار العالم الإسلامي وخارجه من تعددية فكرية وثقافية لها رموزها ومشاريعها وأولوياتها فينبغي عدم إنكار أو تجاهل هذه الواقعيات المتحركة في الساحات المحلية والعالمية لاي سبب من أسباب التمييز العقائدية أو الوطنية أو الإقليمية أو الحركية باعتبار أن عدم الإيمان بها أو الوفاق مع حامليها أو الاختلاف معها أو معهم لا يبرر مسألة تجاهلها أو إنكارها كما أن الاعتراف بوجودها وحضورها من خلال النظريات والفلسفات والمشاريع لا يستلزم الإيمان بها والتصديق بمقولاتها وعلى كل حال تبقى هذه التوجهات الثقافية والفكرية المتعددة مادة قابلة لكافة العمليات الفكرية من تعليق عليها أونقدها أو لا أقل الاستفادة من بعض النقاط المضيئة فيها على تقدير وجودها.
وإذا كان ذلك صحيحاً ومقبولاً على مستوى الدائرة الفكرية عالمياً فإن الموضوعية بالمعنى الذي ذكرنا تكون لازمة من باب الأولوية ضمن دائرة الفكر الإسلامي الواحد والذي يتجلى من خلال ما في الساحة الفكرية في العالم الإسلامي من تصورات ونظريات وآراء تشمل كافة ميادين العلم والمعرفة والحياة.
نكرر أن الأطر الفكرية الخاصة التي يعيش المثقف الرسالي مضامينها وآفاقها وروحها لاتبرر له أبداً تجاهل الغير (الطرف الأخر) ممن له نشاطه الفكري والثقافي وهو يرفد ساحة الأمة بالمادة الفكرية النافعة بل ينبغي الإشادة بهذه الجهود وإبراز هذه المساعي والدعوة للاستفادة منها فإن هذه الروحية وهذا الأسلوب هو عين الموضوعية التي نؤكد على ضرورة الالتزام بها من قبل كل المشتغلين بالشأن الثقافي ولا سيما المثقف الرسالي الفاعل.
الجدية روح الإتقان والإبداع
لكي يحافظ المثقف الرسالي على مستوى أدائه للعمل التثقيفي ينبغي أن يتحلى بسمة (الجدية) لأنها وراء حالة الإتقان في كل عمل وينبوع الإبداع في كل مجال.
والجدية ليست مجرد فورة عمل ينطلق منها المثقف الرسالي ثم بعد ذلك تخبو حتى لا يبقى من وهجها شيئ بل إنها الفاعلية في العمل بحيث تعبر عن حالة التوهج المعنوي التي تعيشها روح المثقف الرسالي انطلاقاً من إحساسه العميق بمسؤولياته الدينية والتاريخية والحضارية التي تدفعه باستمرار نحو المزيد من الفاعلية والإنتاجية خدمة لدينه وشعبه ومقدساته.
وتتجلى هذه الروح الوثابة في كل الدوائر العملية التي يتحرك من خلالها المثقف الرسالي بما يميز عمله بالاتقان المحكم والتطور المستمر في شكله ومضمونه الأمر الذي يجعل مساعيه في مستوى التأثير المطلوب وفي مستوى التحديات والمخاطر المحدقة بالعالم الإسلامي وبالذات التحدي الثقافي منها.
كما أن روح الجدية عند المثقف تكشف عن هدفيته المتمثلة في إصلاح واقعه الثقافي المتخلف من خلال ممارسته لعملية التثقيف تعبئة وتوجيهاً واصلاحاً للمفاهيم الخاطئة فهو لا يتخذ من العمل الثقافي هواية أو وظيفة من ورائها يلهو أو يسترزق بل إنه ينطلق في مهمته الحضارية هذه (التثقيف) من وعيه العميق والشامل بأهمية الثقافة في حياة مجتمعه وأمته فالثقافة والعمل الثقافي في منظوره رسالة ينبغي أن يتحملها ويؤديها في الحياة العامة بجدية وفاعلية وإتقان.
الحكمة سر العمل الناجح
إذا كانت الحكمة (التعامل السليم مع الأشياء) سر النجاح في كل مجالات الحياة فإنها في المجال الثقافي تشكل العامل الأول باعتبار خصوصية العمل الثقافي التي تتطلب حضوراً في الميادين المختلفة وتعاملاً مع شرائح اجتماعية متنوعة وأسلوباً دقيقاً لكل المراحل التي يمر بها العمل الثقافي وعليه فانه من التعذر علينا أن نتصور مثقفاً يمارس دوره في الحياة ويؤدي رسالته في مجتمعه من دون أن يجعل (الحكمة) منهجاً له في العمل وإطاراً يفرضه على مختلف أبعاد العملية التثقيفية التي يقوم بها ويشرف على خطواتها.
لأن انعدام هذا المنهج ( الحكمة ) وفقدانها كإطار لحركة المثقف يجعل العملية التثقيفية -على كف عفريت- كما يقال- عرضة للأخطاء المتكررة والأغلاط الفاحشة إذ أن حركة المثقف لا تجري في المناطق الفارغة من الدائرة الاجتماعية التي يتواجد فيها المثقف لأنه لا وجود لهذه المناطق أساساً في الحياة الاجتماعية ولا في غيرها وعليه فإن الالتفات والتوجه بالدراسة لخصوصيات ميدان العمل الثقافي بما فيه من مفردات فكرية وعادات وتقاليد ومشاكل مختلفة ومتعددة يعتبر في ميزان الأمور من الحكمة اللازمة في هذا المجال وعلى المثقف دائماً وأبداً أن يأخذ كل ذلك بعين الاعتبار إذا أراد لعمله ومشروعه الثقافي والإصلاحي النجاح. وعليه فإن مشروعاً ثقافياً بلا حكمة يعني موت المشروع قبل ميلاده.
الى هذه المرحلة من البحث نكون قد استعرضنا آنفاً مجموعة الحقائق التالية (الثقافة والمثقف يساويان وظيفة واحدة في الحياة الاجتماعية، وخلفية ذلك، وضرورة مواكبة المثقف للحركة الاجتماعية المتمثلة في التحولات الحضارية الجارية في الوسط الاجتماعي، وللنهضة كمرحلة تاريخية هامة لها خصوصياتها التي ينبغي أن تكون في وعي المثقف وهو يمارس رسالته الثقافية، ولماذا الحديث بالذات حول رسالة المثقف في عصر النهضة (ذكرنا الاعتبارات) وإشارة مختصرة لأهم الملامح والمؤشرات الدالة على عصر النهضة، وبأي روح ومنهجية ينبغي على المثقف أن يمارس رسالته في عصر النهضة). وأخيراً بقي علينا البحث عن (مصاديق ومعنى الرسالة التي ينبغي أن يقوم بها المثقف الرسالي في عصر النهضة الإسلامية).
رسالة المثقف الرسالي

ربما أهم سمة تميز المثقف الرسالي عن باقي المشتغلين بالشأن الثقافي هي أن المثقف الرسالي يحمل رسالة مقدسة لها وزنها في الميزان الديني والحضاري والتاريخي مما ينعكس على مجمل حركة عمله ونشاطه (التثقيفي).
وما سنذكرهُ في مجال تحديد مضامين ومفردات هذه الرسالة إنما ننطلق فيه من خلال مقتضيات المبدأ (العقيدة) من جهة والحاجات الواقعية التي تتطلبها المرحلة التاريخية التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم حيث النهضة الإسلامية والتحولات السريعة والمتلاحقة باتجاه العودة للدين وحيث التحديات والمخاطر المحدقة في الداخل والخارج الرامية إلى إجهاض النهضة الإسلامية وإرباك أوضاع العالم الإسلامي بما قد يوقف حركة هذه الانطلاقة الجديدة.
أما عن مفردات هذه الرسالة التي نؤكد عليها فهي:
الترشيد الثقافي (الفكري)
تشكل النهضة الإسلامية المعاصرة في العالم الإسلامي من خلال مجمل أبعادها ومظاهرها وآفاقها حركة جديدة في شكلها ومضمونها باتجاه العودة للدين حتى أصبحت بمعطياتها الكثيرة الواضحة أبرز سمات القرن العشرين مما دفع بمراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية في مختلف مناطق العالم للقيام بدراستها من خلال الخبراء المختصين في شؤون (الشرق والعالم الإسلامي والإسلام) باحثين عن خلفياتها ودلالاتها من أجل معرفة حجمها وقوتها الحقيقيتين ومستقبلها داخل العالم الإسلامي وخارجه ولا نبالغ إذا قلنا بأن الغرب من خلال مؤسساته ومراكزه العلمية بذل من الجهد والوقت والإمكانيات في سبيل تفسير ظاهرة (النهضة الإسلامية) والعمل على وضع العقبات والعراقيل في طريقها ما لم نجد من ذلك ولو الشيء المقبول من قبل مؤسسات ومراكز الدراسات والبحوث داخل العالم الإسلامي بينما ظاهرة هامة على المستوى الديني والحضاري كظاهرة النهضة كان ينبغي أن تلقى من الدعاية والاهتمام داخل العالم الإسلامي ما يجعلها اليوم الموضوع الأول في كل مراكز البحوث والدراسات وهذا لا يعني أن هذه الظاهرة لم تبحث ولم تدرس أبداً من قبل مراكز الدراسات في العالم الإسلامي ولكن ما نقوله تحديداً أنها لم تلق الاهتمام والاقبال المطلوبين وبكلمة إن النهضة أعطت العالم الإسلامي مالم يعطه العالم الإسلامي لها من رعاية واهتمام.
وهنا تبرز مسؤولية المثقف من خلال موقعه ومجال حركته فليس المطلوب منه دراسة هذه الظاهرة إلى مستوى الوعي الكامل بخلفياتها وأبعادها وتموجاتها المستقبلية فحسب بل ينبغي عليه أن يبذل قصارى جهده في سبيل العمل على ترشيد مسارها من خلال رفد الساحة الفكرية والثقافية في العالم الإسلامي بالتصورات والنظريات والمفاهيم الجديدة الجيدة فإلى جانب المحاولات الجهنمية الصادرة من أعداء النهضة الإسلامية رغبة منهم في تشويه صورتها - النهضة - وتحريفها ووضع العثرات والعراقيل في طريقها ينبغي على المثقفين إظهار علمهم وخبراتهم النوعية في مجال ترشيد النهضة. وبدراسة طبيعة المرحلة التي تعيشها النهضة الإسلامية ومعرفة متطلباتها وحاجاتها من المفاهيم الثقافية يمكن ممارسة هذا الدور على أكمل وجه فالنهضة كموضوع يتطور باستمرار بحاجة إلى ترشيد فكري حتى تصبح حركة تطورها دائماً بالإتجاهات الصحيحة بعيدة عن حالات الإنفعال والإرتجال والعشوائية.
لأن وضوح المنطلقات والأهداف والوسائل بالنسبة للنهضة هي الضمانة الرئيسية لحمايتها من كل محاولات التحريف أو الانحراف.
التعبئة المعنوية
إننا عندما نتحدث عن مسألة النهضة الإسلامية إنما نتحدث فيها عن جملة مفردات متداخلة تشكل في مجموعها تلك الظاهرة.
فالحديث عن النهضة الإسلامية يعني الحديث عن (الدين - والمسلمين والظروف الموضوعية القائمة في الواقع المحيط بالمسلمين) هذا كله باعتبار أن النهضة الإسلامية المقصود بها في مجال بحثنا (ظاهرة العودة للدين من قبل المسلمين في شكل مشروع حضاري شامل) يصبح الإسلام فيه القوة الرائدة في واقع المسلمين فهو الذي يشكل بالنسبة لحياتهم الشكل والمضمون لحركتهم العامة في الحياة.
وهذا التفسير للنهضة في مفهومنا هنا في مجال البحث يجعل المسلمين من خلال علاقتهم بدينهم جوهر مسألة النهضة أو لا أقل أهم مفرداتها من الناحية الموضوعية ولأن تفصيل النهضة لا يكون الا من خلال تحريك عناصرها الأساسية (الدين تجديداً والمسلمين تحريكاً والظروف المحيطة بهم تطويراً وتنظيماً) فإن التركيز على مسألة التعبئة المعنوية للمسلمين من خلال كافة الوسائل المتاحة تشكل ضرورة لا بد منها فيما إذا أردنا تفعيل النهضة والمحافظة على حيويتها وانطلاقتها في حياة المسلمين وهذا ما ينبغي للمثقفين في عالمنا الإسلامي أن يقوموا به ويمارسوه كأحد واجباتهم (رسالتهم) تجاه أهم ظاهرة إسلامية وعالمية يعيشها المسلمون في القرن العشرين ويمكن للمثقفين اليوم أن يمارسوا هذا الدور الحيوي من خلال تركيزهم على المفردات الأساسية من قبيل (المفاهيم الدينية والروحية والتربوية من جهة وتركيزهم على إبراز منطق القوة الذي تنطوي عليه تعاليم الدين الإسلامي واستعراض الصفحات التاريخية المشرقة التي عاشها المسلمون يوم كانوا معتصمين بدينهم وإشعارهم بأن مستقبل الشعوب بما فيه من مفاهيم التقدم والإزدهار رهين ثقة الشعوب والأمم بعقولها وامكانياتها وقدرتها على التأثير في واقعها ومحيطها وان كانت الظروف المحيطة صعبة والأحوال شديدة.
إن التركيز على البعد المعنوي في النهضة الإسلامية من خلال توجيه المسلمين نحو كل المفردات المؤدية لهذا الغرض يشكل اليوم أهم مفردات الرسالة التي ينبغي للمثقفين أن يتحملوها ويؤدوها في عالمنا الإسلامي وتزداد أهمية هذا البعد (التعبئة المعنوية) في ظل الحملات الشرسة التي يشنها أعداء الأمة في الداخل والخارج من خلال وسائل الاعلام المتطورة والتقنيات المتطورة على عقيدة المسلمين وشريعتهم وتاريخهم ومشروعهم الإسلامي المعاصر المتمثل في ما تشير إليه النهضة الإسلامية من معاني العودة للدين والإنطلاق في آفاق الحياة حضارياً.
كما أن الأبتعاد عن الروح السلبية في الخطاب الثقافي له الدور الكبير في المحافظة على الروح المعنوية في ساحة الأمة تماماً كما أن للتركيز على الايجابية الأثر الأكيد في دفع عجلة النهضة الإسلامية للأمام.
كشف المؤامرات
بمقدار ما يعيش المثقفون الرساليون (الأمل) وهم يتعاطون مع مسألة النهضة الإسلامية ينبغي عليهم بالتأكيد (الحذر) باعتبار ما يحيط بمسيرة النهضة الإسلامية من تحديات ومخاطر تهدف إلى إجهاضها أو تحريفها أو تشويهها أولا أقل شلها وايقافها عن العطاء‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍. إن حالة العفوية (البساطة) التي بها يتعامل الكثير من المسلمين في العالم الإسلامي وخارجه مع النهضة الإسلامية لا وجود لها في ذهنية ونظر أعداء الأمة الذين بلا ريب قاموا ومنذ اللحظة الأولى لانطلاقه النهضة - بل قبل ذلك- بدراسة حقيقة ما يجري في العالم الإسلامي من تحولات وتطورات تسير نحو العودة للدين حتى أصبحت النهضة الإسلامية الموضوع الأولي والأساسي في دراسات وندوات ومحاضرات ومناقشات مراكز الدراسات والجامعات في الدول الغربية الأوربية منها والأمريكية من أجل التعرف على خصائص النهضة الإسلامية الجديدة وآفاقها المستقبلية في الخطوة الأولى والعمل الجاد والمكثف من أجل الوقوف بقوة وفاعلية أمام مسيرتها المتصاعدة والواسعة النطاق حتى أسسوا في الطريق إلى ذلك المؤسسات والأجهزة الخاصة وأصدروا الصحف والمجلات وأنشأوا أحلافاً وعلاقات أمنية وعسكرية جديدة لا همَّ لهم من وراء ذلك إلا النيل ما استطاعوا من النهضة الإسلامية المتمثلة في الأفكار الإسلامية الأصيلة والرموز الإسلامية دينياً وسياسياً والجماعات الإسلامية المخلصة والشعوب المسلمة المتطلعة لمستقبل إسلامي زاهر.
وهذه المواجهة للنهضة الإسلامية اليوم وإن كانت في ميزان الصراع الحضاري أمراً لابد منه وفقاً لطبيعة الأشياء (صنعوا لكل حق باطلاً) إلا أن مواجهتها ومجابهتها ومقاومتها بكل الوسائل المتاحة وعلى كل المستويات واجب رسالي لا بد منه إلا أن الخطوة الأولى على هذا الطريق تتمثل الآن في الكشف عن هذه المخططات والمؤامرات التي تحاك من وراء الكواليس ضد النهضة الإسلامية وكل امتدادتها في حياة المسلمين وما ينبغي فعله فوراً ودائماً من قبل المثقفين في العالم الإسلامي هو العمل الحثيث على كشف هذه المخططات والمؤامرات المحلية والإقليمية والدولية حتى تتعرف الشعوب في العالم الإسلامي على حقيقة ما يدور حولها من تحديات تهدد دينها وحضارتها ومستقبلها الإسلامي المرتقب.
إن أعداء الأمة الإسلامية اليوم لا ينطلقون في عداوتهم للعالم الإسلامي من فراغ بل ينطلقون من خلفيات تاريخية كاذبة هي التي تغذي أحقادهم على المسلمين وهي التي تدفعهم دائماً لتطوير أساليبهم في المواجهة ضد المسلمين والعالم الإسلامي بل وهي التي تفتح لهم آفاقاً واسعة في مجال حبك المؤامرات والمخططات الجهنمية لمجابهة النهضة الإسلامية في عالمنا الإسلامي والسبيل في هذه المواجهة أولاً وقبل كل شيء إماطة اللثام عن حقيقة المكائد التي يكيدها الأعداء للمسلمين في العالم وهذا ما ينبغي للمثقفين المشاركة فيه وهم يؤدون رسالة الثقافة في الحياة.
نشر المفاهيم النهضوية
لاريب في أن النهضة الإسلامية بجميع خصائصها هي مرحلة تاريخية هامة جداً في سياق حركة العالم الإسلامي باتجاه أهدافه العليا التي يتطلع إليها دينياً وسياسياً وحضارياً وهي وإن كانت مرحلة تارخية (بالمعنى الزمني والحضاري) إلا أن لها خصوصيتها الفريدة المنبثقة من طبيعتها النهضوية ذات الحاجات والمتطلبات النوعية التي تحتاج إلى مزيد من الدقة والتنوع في مقام الاستجابة والطريق السليم لمعرفة هذه الحاجات والمتطلبات هو الدراسة المستفيضة لطبيعة هذه المرحلة التاريخية بما يحيطها من ظروف وأحوال وأحداث وما يكمن فيها من خصائص جوهرية وتطلعات ومعطيات ممكنة أمّا الذي يهيىء الأرضية لرفد النهضة فهم المثقفون المهتمون بالشأن الإسلامي العام الذين يتابعون مسيرة النهضة الإسلامية ويلاحقون أحداثها ويدرسون تطوراتها بالتحليل المستمر والنقد المتواصل البناء جنباً إلى جنب مع كل الفعاليات المهتمة بهذا الشأن.
ولا يجوز جعل حركة النهضة الإسلامية منطلقة في آفاق المجهول أو في سبلٍ عشوائية تحركها العواطف الحماسية والشعارات البراقة لأن هذه المسلكية السطحية لا يمكنها المساهمة في تفعيل النهضة الإسلامية ولا أن تدفع بحركة انطلاقتها نحو الأمام والخيار البديل في هذا الصدد يتمثل في نشر المفاهيم النهضوية التي بها تتبصر الشعوب الإسلامية في تعاملها مع هذه المرحلة التاريخية الهامة من تاريخ العالم الإسلامي الحديث الأمر الذي ستظهر آثاره ومعطياته الإيجابية على مختلف أبعاد حركة النهضة الإسلامية.
إن النهضة الإسلامية ما لم ترفد بالمفاهيم اللازمة تتحول إلى شكل بلا مضمون وحركة بلا هدف باعتبار أن المفاهيم النهضوية (المرتبطة بطبيعة النهضة وظروفها وحاجاتها وآفاقها) هي التي تلعب الدور الأكيد في تثبيت ركائز النهضة وتحافظ على استقامتها وتفتح لها آفاقاً واسعة ومتعددة في مجالي الحركة والتطور بل ان المفاهيم الملائمة لطبيعة النهضة هي سر قوة النهضة وأساس نجاحها.
وعليه فلا يجوز التبشير بمفاهيم فكرية وثقافية ودينية وحركية لا تتلاءم ولا تنسجم والمتطلبات الحقيقية (على مستوى المفاهيم) التي تتطلبها المرحلة الراهنة التي تعيشها الأمة أو تمر بها النهضة الإسلامية والوعي الحضاري التأريخي هو الكفيل بأن يجعل حالة انسجام وتوافق بين المفاهيم المختارة المراد التبشير بها ونشرها، وبين الحاجات الواقعية التي تتطلبها النهضة الإسلامية المعاصرة وهي تنطلق نحو المستقبل الإسلامي المنشود.
الالتفاف حول الرموز
إن النهضة الإسلامية ليست حالة تتحرك في المطلق بل هي حركة واقعية تتفاعل مع الظروف الموضوعية المحيطة وتأخذ منها الدائرة الميدانية التي تتفاعل فيها من خلال جميع مفرداتها القائمة في الساحة (الدين - التاريخ المشرق - الرموز المخلصة..) وبالتالي فالنهضة الإسلامية كمصطلح وكحالة واقعية هي تجلٍ للحقائق الكبرى التي تؤمن بها الأمة الإسلامية وتتمسك بها في الحياة.
وهذا ما يجعل من مسألة الدعوة للالتفاف حول الرموز الدينية والعلمائية والجهادية ضرورة ملحة لابد منها كمفردة من المفردات الهامة التي تتحرك من خلالها وتحرك النهضة الإسلامية وكل ذلك أنطلاقاً من إيمان هؤلاء الرموز برسالتهم في الدفاع عن دينهم ومقدساتهم وإخلاصهم في تفكيرهم وقراراتهم ومواقفهم وحضورهم الفاعل والدائم في ساحة العمل الإسلامي متحملين المصاعب والأذى الأمر الذي يجعل من مسألة الدعوة للإلتفاف حولهم تفعيلاً للنهضة الإٍسلامية واقتراباً من الفكر الإسلامي والجهادي وتعاطياً مع قضايا العالم الإسلامي بما فيه مصلحة لأهداف الإسلام والمسلمين العليا.
في الوقت الذي نجد فيه الأجهزة المخابراتية والوكالات الكبرى للأنباء تبث سمومها في آذان وأدمغة أبناء العالم الإسلامي في سبيل تشويه صورة الرموز الدينية (علماء وسياسيين ومجاهدين) في ذهنية الشعوب الإسلامية رغبة منهم في فصل الأمة عن رموزها المفكرة والعاملة والمجاهدة كمقدمة لفصلها عن فكرها الإسلامي ومصادر التوجيه الأصيلة كل ذلك في وقت العالم الإسلامي والشعوب الإسلامية بأمس الحاجة فيه إلى رموز مخلصة وصادقة تأخذ بيده إلى شاطىء الأمان في بحر أمواج أحداثه لا قرار لها.
إن هذه الدعوة (الالتفاف حول الرموز النهضوية) ملقاة مسؤولياتها اليوم على كاهل كل الجهات المعنية بهذا الشأن ولا سيما المثقفين أصحاب الرؤى الأصيلة والنظرات النافذة الذين أعينهم ساهرة في خدمة قضايا وهموم العالم الإسلامي فعليهم أن يتحلوا بالموضوعية وهم يمارسون رسالتهم في العمل الثقافي من خلال دعوتهم للرموز المخلصة العاملة.
بل المهم أن يزود المثقفون الشعوب الإسلامية في عصر النهضة بالمفاهيم والأفكار (الثقافة) التي بها يرتفعون إلى مستوى القدرة الحاسمة في تمييز الرموز الصالحة عن غيرها من الرموز الدخيلة التي لا هم لها إلا مصالحها الشخصية وامتيازاتها الدنيوية.
وفي الأخير:
إن العالم الإسلامي يعيش اليوم نهضة إسلامية عارمة تتجلى من خلال عناصر ومفردات كثيرة تتحرك في ساحة الأمة وتتطلب من كل القوى والفعاليات الدينية والاجتماعية والسياسية والجهادية والشعبية في العالم الإسلامي الحضور والتفاعل والمشاركة في دفع عجلتها للأمام وهي - النهضة الإسلامية- من خلال تطوراتها السريعة وأحداثها المتلاحقة تبشر بغدٍ إسلامي مشرق وما على المسلمين اليوم إلا أن يشمروا عن سواعدهم ويعملوا لغدهم فإن كل ما هو آت فهو قريب لا محالة.
الشيخ إبراهيم أحمد

الجمعة، 4 مارس 2011

مقدمات مشروعنا الثقافي


ماذا نريد من خطابنا الفكري؟

والى أين نسعى للوصول في طرحنا الثقافي؟!.

وما هي مكونات ثقافتنا المطلوبة اليوم في ظل التغييرات الحادثة؟ وكيف نستطيع الثبات في الساحة الثقافية أمام هذا السيل العرم من الأفكار والمعارف المختلفة؟ وكيف نقاوم التطبيع والتهويد الذي يكتسح ساحتنا الإسلامية في عالم يضج بالثورة التقنية؟ بينما لا نملك نحن إلا وسائل أصبحت بمرور العقود تقليدية اذا قورنت بمثيلاتها من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة..

كل ذلك أسئلة حائرة تبحث عن أجوبة حقيقية تبتعد عن حالة الحماس والتعبئة، وتركز على اسس واقعية مع مزيد من الروح الوثابة القادرة على تحمل المسؤولية التي قبلنا أن نحملها على أعناقنا، مع معرفتنا الأكيدة بثقل هذه الأمانة التي أشار إليها الله في كتابه {إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}، ونحاول قدر جهدنا التغلب على جهلنا لنصل الى نصف الحقيقة فنعمل بهذا القدر القليل علنا نوفق للقيام بدورنا في تبيين المعرفة السليمة والخالية من الشوائب..

هذا هو هدفنا، تسليط الضوء على الحقائق الغائبة عن عقول الأمة بفعل تراكمات تاريخية وفكرية عاشتها أمتنا الإسلامية فسادت فيها تيارات التغريب والتخلف تلعب بها وتوجهها أنّى شاءت، مما سبب في عرقلة تقدم الأمة وتخلف مسيرة التنمية وإرساء قواعد الإستبداد المهيمن على أرجاء الوطن الإسلامي والذي انعكست آثاره على مختلف الصعد والجوانب بشكل واضح لا يمكن نكرانه.

هذا ما نريده من خطابنا الفكري الذي يستلهم آفاقه من الإسلام الأصيل متمثلين بهذه الآية الكريمة {أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، نعتمد الحكمة في عرض «بضاعتنا» المعرفية ونبين أفكارنا ورؤانا بالأسلوب الحسن.

وأمّا ما نسعى لنصل إليه فهو محاولة لرفد الساحة الثقافية بفكر إسلامي يتطلع لحل مشاكل هذه الأمة التي تكالبت عليها المشاكل والمصائب من كل جهة، نوجه خطابنا الفكري الى كل مهتم بالشأن الثقافي بدون الأعتراف بالتقسيم الحاصل في العالم من جهة النخبة/ الناس لأننا نعتقد بأن رسالتنا يجب أن تصل للجميع لنتحاور على أسس موضوعية وعلمية بدون الإصرار على منهج إمتلاك الحقيقة الكاملة، مع قناعتنا الأكيدة بصوابية ما نطرح في خطابنا الفكري.

وبذلك نصل الى كل المهتمين بالثقافة والفكر الذين يتطلعون الى الخطاب الإسلامي ويحاولون فهمه، وبهذا يمكننا المساهمة الفعالة في بناء النخبة الإسلامية مع كل أولئك العاملين في الحقل الثقافي الإسلامي المتوزعين في أرجاء هذا العالم الفسيح، إضافة الى القارىء العادي الباحث عن الفهم الإسلامي الأصيل في ظل التدافع المعرفي اليوم.

مكونات ثقافتنا التي نسعى لنشرها  تتقاسم مع فكر الصحوة الإسلامية الهموم والتطلعات، وإذا كان هناك ثمة تميز في جوانب أخرى، فان ذلك يرجع الى عمق التعلق بتعاليم أهل البيت(ع)، ومحاولة إيضاح جوهر هذه التعاليم وتحويلها الى مفاهيم وأفكار قابلة للتطبيق في هذا العصر،.

ان هذه المقدمات الثقافية المراد طرحها هنا تمثل النقاط الرئيسية في مشروعنا الثقافي الذي نقدمه للنخبة والقراء، والذي يمكن تحديده في التالي:

1 ــ هموم الصحوة الإسلامية وفكرها المتميز.

منذ منتصف الستينات في هذا القرن شهد وطننا الإسلامي صحوة إسلامية وعودة نحو الإسلام، وقد يكون سبب ذلك تضافر جهود دعاة التغيير والإصلاح بشتى انتماأتهم المذهبية والجغرافية، إضافة الى الفشل الذريع الذي لحق بالفكر المتغرب السائد آنذاك.

إننا نحاول تقديم فكر هذه الصحوة ونرصد همومها المتعددة بفعل الفهم الخاطىء لها من قبل الغرب وبعض أبنائها الغافلين عن فكرها الأصيل، وبرغم العوائق التي تواجه الحالة الإسلامية من قبل الغرب أو النخب السياسية فإننا مقتنعون بأن هذه الصحوة بما لديها من أفكار وقيم تستطيع تقديم الحلول ومد يد العون لحل مشاكل الأمة، إضافة الى طموحنا في تطوير هذه الصحوة وأفكارها من خلال الإهتمام بحالة النقد البناء، وتوضيح الحقيقة لدعاة النقد الهجومي غير المبرر من داخل الدائرة أو خارجها.

2 ــ نقد الفكر الخاطىء بكل أبعاده.

هذا الفكر الذي أوجد في أمتنا روح الهزيمة والعبثية واللهو عندما تسلل الى عقلها، ومحاولاتنا النقدية ء لهذا الفكر وتياراته المختلفة في التقسيم المتفقة في المضمون ء تعتمد على قاعدة دينية صلبة قائمة على الحوار واتباع الأساليب الموضوعية للوصول الى هدف حقيقي..

3 ــ قضايا المؤسسة الدينية.

بلا شك أن المؤسسة الدينية سواء كانت في الأزهر والنجف، أو في كربلاء والزيتونة فانها أدت دوراً كبيراً في الحفاظ على الفكر الإسلامي برغم المصاعب والعوائق، ولذا نرى من واجبنا الإهتمام بقضايا هذه المؤسسة العلمية من خلال تطوير مهامها الحضارية ونقد مناهجها وتقديم أطروحاتها الرصينة، وبالخصوص إبداعاتها الفكرية والوحدوية التي تعطي للأمة دافعاً لتطوير فكرها حسب ما يلائم الزمان والمكان.

4 ــ الإهتمام بالقضايا الإسلامية.

 وهذا الإهتمام يشمل الجانب الفكري (القرآن ــ السنة الشريفة ــ التاريخ....) والجانب الآخر الذي يهتم بشؤون المسلمين وبالخصوص الجاليات الإسلامية المبعثرة في العالم والتي تمثل الإسلام الغريب..

هذه مقدمات مشروعنا الثقافي الذي تدور حول محاوره الدراسات والأفكار ، برغم أننا لا نتبنى بالضرورة كل الآراء الواردة بالضرورة ولكنها قد تتقاسم معنا الهموم والتطلعات. وقناعتنا بان هذه المقدمات تستطيع أن تشارك في إثراء الفكر الإسلامي وتقديمه للجمهور..

ويبقى هدفنا الأساس إنهاض الأمة الإسلامية بثقافة حية قادرة على إرساء قواعد الوحدة في روح أبنائها ومحاربة ثقافة التجزئة والتبرير التي كرست في دواخلنا بفعل التخلف والجهل الذي ورثناه منذ زمن بعيد ولم نستطع التخلص منه.

لأن أي مشروع فكري لا يستهدف إنهاض هذه الأمة المنكوبة، فما الفائدة من ورائه ؟ غير ترف الفكر وضياع الوقت، والمشروع النهضوي البديل لا بد أن يركز على الهوية الحقيقية لهذه الأمة وهو «الإسلام»، ويبقى الاختلاف في فهم هذه الهوية موضوعاً اجتهادياً لا يضر بأي مشروع.
ماذا نريد من خطابنا الفكري؟
والى أين نسعى للوصول في طرحنا الثقافي؟!.
وما هي مكونات ثقافتنا المطلوبة اليوم في ظل التغييرات الحادثة؟ وكيف نستطيع الثبات في الساحة الثقافية أمام هذا السيل العرم من الأفكار والمعارف المختلفة؟ وكيف نقاوم التطبيع والتهويد الذي يكتسح ساحتنا الإسلامية في عالم يضج بالثورة التقنية؟ بينما لا نملك نحن إلا وسائل أصبحت بمرور العقود تقليدية اذا قورنت بمثيلاتها من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة..
كل ذلك أسئلة حائرة تبحث عن أجوبة حقيقية تبتعد عن حالة الحماس والتعبئة، وتركز على اسس واقعية مع مزيد من الروح الوثابة القادرة على تحمل المسؤولية التي قبلنا أن نحملها على أعناقنا، مع معرفتنا الأكيدة بثقل هذه الأمانة التي أشار إليها الله في كتابه {إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}، ونحاول قدر جهدنا التغلب على جهلنا لنصل الى نصف الحقيقة فنعمل بهذا القدر القليل علنا نوفق للقيام بدورنا في تبيين المعرفة السليمة والخالية من الشوائب..
هذا هو هدفنا، تسليط الضوء على الحقائق الغائبة عن عقول الأمة بفعل تراكمات تاريخية وفكرية عاشتها أمتنا الإسلامية فسادت فيها تيارات التغريب والتخلف تلعب بها وتوجهها أنّى شاءت، مما سبب في عرقلة تقدم الأمة وتخلف مسيرة التنمية وإرساء قواعد الإستبداد المهيمن على أرجاء الوطن الإسلامي والذي انعكست آثاره على مختلف الصعد والجوانب بشكل واضح لا يمكن نكرانه.
هذا ما نريده من خطابنا الفكري الذي يستلهم آفاقه من الإسلام الأصيل متمثلين بهذه الآية الكريمة {أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، نعتمد الحكمة في عرض «بضاعتنا» المعرفية ونبين أفكارنا ورؤانا بالأسلوب الحسن.
وأمّا ما نسعى لنصل إليه فهو محاولة لرفد الساحة الثقافية بفكر إسلامي يتطلع لحل مشاكل هذه الأمة التي تكالبت عليها المشاكل والمصائب من كل جهة، نوجه خطابنا الفكري الى كل مهتم بالشأن الثقافي بدون الأعتراف بالتقسيم الحاصل في العالم من جهة النخبة/ الناس لأننا نعتقد بأن رسالتنا يجب أن تصل للجميع لنتحاور على أسس موضوعية وعلمية بدون الإصرار على منهج إمتلاك الحقيقة الكاملة، مع قناعتنا الأكيدة بصوابية ما نطرح في خطابنا الفكري.
وبذلك نصل الى كل المهتمين بالثقافة والفكر الذين يتطلعون الى الخطاب الإسلامي ويحاولون فهمه، وبهذا يمكننا المساهمة الفعالة في بناء النخبة الإسلامية مع كل أولئك العاملين في الحقل الثقافي الإسلامي المتوزعين في أرجاء هذا العالم الفسيح، إضافة الى القارىء العادي الباحث عن الفهم الإسلامي الأصيل في ظل التدافع المعرفي اليوم.
مكونات ثقافتنا التي نسعى لنشرها على صفحات المجلة تتقاسم مع فكر الصحوة الإسلامية الهموم والتطلعات، وإذا كان هناك ثمة تميز في جوانب أخرى، فان ذلك يرجع الى عمق التعلق بتعاليم أهل البيت(ع)، ومحاولة إيضاح جوهر هذه التعاليم وتحويلها الى مفاهيم وأفكار قابلة للتطبيق في هذا العصر,.
ان هذه المقدمات الثقافية المراد طرحها هنا تمثل النقاط الرئيسية في مشروعنا الثقافي الذي نقدمه للنخبة والقراء، والذي يمكن تحديده في التالي:

1 ــ هموم الصحوة الإسلامية وفكرها المتميز. 

منذ منتصف الستينات في هذا القرن شهد وطننا الإسلامي صحوة إسلامية وعودة نحو الإسلام، وقد يكون سبب ذلك تضافر جهود دعاة التغيير والإصلاح بشتى انتماءاتهم المذهبية والجغرافية، إضافة الى الفشل الذريع الذي لحق بالفكر المتغرب السائد آنذاك.
إننا نحاول تقديم فكر هذه الصحوة ونرصد همومها المتعددة بفعل الفهم الخاطىء لها من قبل الغرب وبعض أبنائها الغافلين عن فكرها الأصيل، وبرغم العوائق التي تواجه الحالة الإسلامية من قبل الغرب أو النخب السياسية فإننا مقتنعون بأن هذه الصحوة بما لديها من أفكار وقيم تستطيع تقديم الحلول ومد يد العون لحل مشاكل الأمة، إضافة الى طموحنا في تطوير هذه الصحوة وأفكارها من خلال الإهتمام بحالة النقد البناء، وتوضيح الحقيقة لدعاة النقد الهجومي غير المبرر من داخل الدائرة أو خارجها.

2 ــ نقد الفكر الخاطىء بكل أبعاده. 

هذا الفكر الذي أوجد في أمتنا روح الهزيمة والعبثية واللهو عندما تسلل الى عقلها، ومحاولاتنا النقدية - لهذا الفكر وتياراته المختلفة في التقسيم المتفقة في المضمون - تعتمد على قاعدة دينية صلبة قائمة على الحوار واتباع الأساليب الموضوعية للوصول الى هدف حقيقي..

3 ــ قضايا المؤسسة الدينية. 

بلا شك أن المؤسسة الدينية سواء كانت في الأزهر والنجف، أو في كربلاء والزيتونة فانها أدت دوراً كبيراً في الحفاظ على الفكر الإسلامي برغم المصاعب والعوائق، ولذا نرى من واجبنا الإهتمام بقضايا هذه المؤسسة العلمية من خلال تطوير مهامها الحضارية ونقد مناهجها وتقديم أطروحاتها الرصينة، وبالخصوص إبداعاتها الفكرية والوحدوية التي تعطي للأمة دافعاً لتطوير فكرها حسب ما يلائم الزمان والمكان.

4 ــ الإهتمام بالقضايا الإسلامية.

 وهذا الإهتمام يشمل الجانب الفكري (القرآن ــ السنة الشريفة ــ التاريخ....) والجانب الآخر الذي يهتم بشؤون المسلمين وبالخصوص الجاليات الإسلامية المبعثرة في العالم والتي تمثل الإسلام الغريب..
هذه مقدمات مشروعنا الثقافي الذي تدور حول محاوره الدراسات والأفكار التي تطرح على صفحات المجلة، برغم أننا لا نتبنى بالضرورة كل الآراء الواردة بالضرورة ولكنها قد تتقاسم معنا الهموم والتطلعات. وقناعتنا بان هذه المقدمات تستطيع أن تشارك في إثراء الفكر الإسلامي وتقديمه للجمهور..
ويبقى هدفنا الأساس إنهاض الأمة الإسلامية بثقافة حية قادرة على إرساء قواعد الوحدة في روح أبنائها ومحاربة ثقافة التجزئة والتبرير التي كرست في دواخلنا بفعل التخلف والجهل الذي ورثناه منذ زمن بعيد ولم نستطع التخلص منه.
لأن أي مشروع فكري لا يستهدف إنهاض هذه الأمة المنكوبة، فما الفائدة من ورائه ؟ غير ترف الفكر وضياع الوقت، والمشروع النهضوي البديل لا بد أن يركز على الهوية الحقيقية لهذه الأمة وهو «الإسلام»، ويبقى الاختلاف في فهم هذه الهوية موضوعاً اجتهادياً لا يضر بأي مشروع.

إدارة الخلافات في المجتمعات الإيمانية رؤية قرآنية



عندما نلاحظ المجتمعات الإسلامية في كل مكان، نكاد لا نستثني مجتمعاً واحداً من مشكلة النزاعات الإجتماعية والخلافات التي تنهك قوى المجتمع وتعيقه عن بلوغ تطلعاته، وهذه المشكلة من المشكلات الأساسية لأنها مقدّمة لمشكلات عديدة، فهي مشكلة منتجة لعدّة أزمات، لذلك فإن إيلائها الأهمية من البحث في كيفية التعامل معها، وسبل احتوائها يعتبر احتواءاً لمشكلات عديدة، بل هو بمثابة تعبيد الطريق لبدء مسيرة المجتمع مع ما يحمل من تطلعات ومشاريع، فإن أصاب الطريق اعوجاج فإنه سيؤدّي إلى هدف مغاير، ونحاول في هذا المبحث أن نقرأ جانباً من المعالجة القرآنية لهذه الظاهرة من خلال قسم متسلسل من الآيات في سورة الحجرات،من الآية التاسعة وحتى الثالثة عشر، وهي تعتبر حكاية وعلاجاً لهذه المشكلة الإجتماعية بصورة كلية، لذلك فإننا نكتفي بسياقها وبمدلولاتها من دون اللجوء إلى التفريع الكثير.

بين يدي الآيات:
 
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}( ).

تكوين المجتمع الإيماني:
 
لقد عبّر القرآن الكريم عن المجتمع المسلم بالأمة الواحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}( )، حيث أن عبادة الله تعالى هي أساس الوحدة وهي التي تكللها وترسم معالمها، فمنها المنطلق وإليها المآل، وهي الغاية من الخلق كما قال عز جل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}( )، فهذه هي روح الأمة الواحدة التي يصوّرها القرآن الكريم ويدعوا كافة المؤمنين إلى الإنضمام تحت لوائها وعدم التخلّف عنها بالتفرّق عن الروح الإيمانية العامّة التي تكوّن المجتمع الإيماني من خلال عبوديته لله الواحد القهار، فالوحدة الإيمانية هي في ما يرتبط بأصل مبدأ الخلق والمنتهى إلى الله، وبتعبير آخر هي الحركة التي تتولدّ في المجتمع بمنطلقات واحدة وغايات واحدة هي العبودية لله وصولاً لرضاه تعالى.
أمّا فيما بينهما من الأساليب، والتوجهات والتخصصات فإن المجتمع الإيماني سيكون متعدداً، إمّا من حيث الرؤية لموضوع واحد، فتختلف الفئات والجماعات فيما بينها في الرؤى حول موضوع واحد لتعدد أفهامهم، وإما في التعدد بمعنى التقسيم الذي ينظر للتخصّصات المختلفة لتباين الزوايا التي ينظرون إليها، أو ذلك التقسيم الذي ينظر إلى العلاقات الإجتماعية ككيانت وتجمعات، كالعوائل والقبائل كتعدد طبيعي، أواختلاف مناطق السكنى والأوطان. كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}( ). تعبيراً عن التعدد في التخصصات والإهتمامات. وكما هي حالة: (المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان) التشيكلات المكوّنة في بداية بزوغ شمس الإسلام تعبيراً عن طبيعة المهام والأوطان والأزمان التي تملي تكوينات ومجاميع لكل منها مواصفات مشتركة تجمعها وتحدد كيانها وهي تنصهر كلها في عملية العبودية لله وتوحيده عز وجل، والآية الكريمة التالية تعبّر عن هذه الحالة بكل وضوح، قال عز من قال: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}( ).
وكل تلك التصنيفات الأخوية داخل المجتمع الإيماني الواحد قال عنها الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}( ).

أصل الخلافات
 
ولأن المجتمع مكوّن من عدة تكوينات مختلفة، فإن من الطبيعي أن ترد مسألة الخلافات فيما بينها، والقرآن الكريم لا ينطلق بالضرورة من واقع كان موجوداً بالفعل، وإنما قد يعالج مشكلات قد تكون مستقبلية للحفاظ على كيان المجتمع الإيماني كرصيد معرفي ومرجعي لعلاج التصدعات والإبتلاءات، و>قيل أنها ـ الآيات من سورة الحجرات ـ نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج.. بالسعف والنعال<( ).
وقد عبّر القرآن الكريم عن حالة الخلاف والنزاع في مطلع الآيات موضع البحث بالإقتتال في قوله: {وإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..} إذ ليس المقصود بالضرورة هو الإقتتال بإرادة القتل بالأسلحة الحربية، وإن كان أحد مصاديقها هو ذلك، لما ورد من أن تأويل الآية بعد الرسول هو في من سيقاتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيشذّ عن الحق كما في الكافي >إنا جاء تأويل هذه الآية يوم البصرة وهم أهل هذه الآية وهم الذين بغوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان الواجب عليه قتالهم وقتلهم حين يفيئوا إلى أمر الله ولو لم يفيئوا لكان الواجب عليه فيما أنزل الله أن لا يرفع السيف عنهم حتى يفيئوا ويرجعوا عن رأيهم لأنهم بايعوا طائعين غير كارهين..<( ). فهذا وجه من وجوه الآية الكريمة وأحد مصاديقها وتأويلاتها، ومن مصاديقها وتأويلاتها التي هي محط بحثنا هو الخلاف والنزاع والصراع بين الفئات والتجمعات والطوائف، وقد استخدم القرآن الكريم لفظة الأقتتال في وصف الخلاف في الرأي عندما يفترق الناس إيماناً أو كفراً حول مبدأ ما، في قوله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}( ).

بصائر من الآية:
 
1- إن الطائفتين المقتتلتين هما ضمن الدائر الإيمانية، وقد ناداهما الله عز وجل بـ(من المؤمنين) أي أنهما ضمن التكوين الإجتماعي للمجتمع الإيماني، وهذه حقيقة ينبغي أن نؤكّد عليها، فلا يعني الإختلاف أو الخلاف بين الفئات المتعددة بالضرورة خروجاً عن الدائرة الإيمانية، فقد يحدث ذلك مع الإحتفاظ بالسمة العامّة للإيمان بالله، وفي الوقت ذاته قد يعبّر بعض الخلاف عن شرخ في الإيمان، إلا أن ذلك يعود إلى مدى إصابة الثوابت العامّة للإيمان بذلك الخلاف، أمّ مجرد الخلافات الإجتماعية والثقافية ضمن الدائرة الإيمانية فلا يستدعي خروجاً عنها.
2- والإقتتال، ليس بالضرورة هو محاولة القتل كما أسلفنا، بل هو عموم الصراع، والصراع على أي حال يسعى لقتل الطرف الآخر معنوياً وهو ما يسمّى بقتل الشخصية، بل إن قتل شخصية الإنسان أعظم من قتل شخصه، على مستوى الأثر الإجتماعي، فقد يقتل شخص وينتهي الأمر، ولكن قد تقتل شخصية أحدهم عن طريق تجريده من الإيمان بصورة من الصور، فيترتّب على ذلك أثر نفسي واجتماعي أوسع من دائرة الفرد، وهو ما يؤدّي إلى حالة الفتنة بين الناس، ولذلك قال عز وجل في كتابه الكريم: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}( ) عمقاً وطولاً. و {الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}( )، أثراً وسعة.
3- والصراع، إنما يشترك فيه الجميع إلا أن الحلول غالباً تتم بين أعيان الطوائف والجماعات، فإننا نرى أن الله تعالى عبّر بالتثنية بأنهما طائفتان، ثم جمع اللفظ في اقتتلوا، ثم ذكر التثنية في الضمير(بينهما) في مسألة الصلح، فالإقتتال والصراع يشترك فيه الجميع، ويمس مصالح الجميع، إلا أن العلاج يكون بين الرؤس والأعيان في كلتا الجماعتين، وهو ما يسهل عملية التفاهم والتعامل لمواجهة الخلافات الإجتماعية.

ممارسة الإصلاح
 
الخلافات إنما تحتاج إلى الإصلاح، لكي يعود المجتمع إلى طبيعته الوحدوية وتسود أجواءه روح الإخاء والتعاون، التي أسسها الرسول الأعظم بين المؤمنين على الأسس القرآنية التي تقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}( ).
4- ولأن الصراعات والخلافات يشترك فيها الجميع فإنها تؤثّر بشكل سلبي على وجودهم جميعاً، و ينعدم تأثيرهم الإيجابي على على الواقع، كما قال ربنا عز وجل: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}( )، فإن الإصلاح هنا سيكون هو الحل والبديل الأمثل، وهذه مسئولية إلهية تهم الجميع وتقع على عاتقهم للسعي للإصلاح.
5- ولكن كيف نتصرّف، في مسيرة الإصلاح بين الفئات الإجتماعية المختلفة، وكيف ندير عملية الإصلاح بين المتنازعين ؟

نستلهم من الآية عدة مراحلة لممارسة الإصلاح.
 
أ- تحمل المسئولية: فعل الأمر من قوله (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) يعبّر عن الإرادة التي يتحرك من خلالها المصلحون، وهو فعل التسوية والتفاهم بين الأطراف المختلفة.
ب- إعانة الطرف الإيجابي في مقابل السلبي: فإن أبت إحداهما، فإن الواجب على المصلح أن يقف مع مريد الإصلاح، حتى ترجع الفئة التي تأبى ذلك، كما في الآية {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهَِ}. إلى أن ينتهي الأمر برجوعها عن صدودها وبغيها.
ج- أثناء الإصلاح: وعملية الإصلاح لا ينبغي أن تتأثر بشوائب نفسية من قبل المصلح، ولا ينبغي أن يؤثر بغي هذه الطائفة على المسيرة العادلة للإصلاح، كما في الآية: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}، فالعدل قيمة أساسية حتى مع من يبغون وينحرفون، وحتى مع أولئك الذي لا نملك لهم وداً، يقول تعالى في آية أخر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}( ). فلا يمكن التخلّي عن العدالة تحت أي مسمّى وتحت أي ضغط، سواء منبعه طرف من أطراف النزاع أو منبعه الممارس لعملية الإصلاح.
د- بعد الإنتهاء من العملية الإصلاحية: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وهذا تأكيد على مسألة العدل، لضمان استمرار العملية الإصلاحية في طريقها السليم، فالعدل قيمة في عملية الإصلاح ذاتها، وقيمة أساسية تشكّل السلوك الذي يأتي بعد إنجاز العملية، فيستمر التعاطي العادل مع كافة الأطراف، فلا يمكن أن تسلب حقوق طائفة لأنها أخطئت في يوم ما.

التأسيس الفكري للإصلاح
 
المطالبة بالإصلاح، تحتاج إلى تأسيس فكري، لكي يقتنع الإنسان بهذا العمل، ويكون ضمن عقيدته، لذلك نجد أن الآية التي تلي الحديث عن المشكلة تؤسس لعملية الإصلاح وتقول {اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. وهذه حقيقة واقعية، قد يغفل عنها الكثير من المنظرين والعاملين في الحقول الاجتماعية، فيسعون جاهدين لمعالجة قضايا مختلفة من دون أن يزوّدوا المجتمع بثقافة تلك القضية، وهذا المنهج لا يعالج الأسس والجذور، وإنما يكتفي بالعلاج السطحي، فعندما لا يمتلك الناس الأسس الفكرية والثقافة التي تدفعهم للتحرك ضمن دائرة علاجية وإصلاحية ما، فإنه لن تتكوّن لديهم الدافعية الكافية لمارسة ذلك، ولا يؤمّن ذلك المنهج ضمانة لعدم عودة المشكلة مرة أخرى، فإعطاء الخلفية الفكرية الثقافية لهذه المشكلة إنما هو لتأسيس قناعة في عقول الجميع بأن الأصل هو الأخوة، والأخوة جاءت من البعد الإيماني، والإلتزام بمسئولية الحفاظ على هذه الحالة هي مدعاة إلى أن يكون الإنسان في رحمة الله تعالى.
والبصائر التي نستلهمها من الآية هي:
إن الإصلاح ضرورة يتطلبها الواقع، فالمؤمنون هم أخوة، والأخوة يعيشون في البيت الواحد، و لابد أن لا يعيشوا الخلافات فيما بينهم، وإلا تحوّل ذلك البيت إلى جحيم لإفتقاده الأمن الأسري والإجتماعي، فمن الضروري أن يلجأ الأخوة إلى الصلح، لكي يبقى البيت هادئاً ومناسباً لكل الأطراف، وهكذا هو المجتمع الإيماني، فإن الفئات المختلفة تعيش ضمن دائرة الإيمان أخوة في الله، فالخلافات ستعكّر الأجواء، وتؤثّر على الطرفين.
وهكذا هي الأحاديث الشريفة تصف المجتمع الإسلامي بأنه كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى. فإن الله تعالى هو الذي حدّد نوعية العلاقة بين طوائف المجتمع المتنوّعة، ولذلك فإن ممارسة الإصلاح، ونبذ الخلافات، هي من صميم التقوى، وإن بركات الله عز وجل ورحمته تنهمر على المجتمع الذي يراعي أوامر الله وحدوده، ومادامت الخلافات تنهك وتنخر في جسد المجتمع، فإنه سيكون أبعد عن الرحمة، كما هي الحقيقة في ذيل الآية {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

أخلاقيات التعامل في المجتمع الإيماني
 
لقد جاءت الآيات بالنهي عن أفعال مذمومة وسلوك سلبية، ولم تأت بالأخلاقيات المقابلة لها في جهة الإيجاب، وذلك لأن هذه السلوكيات هي الأسباب التي تؤدّي إلى الخلاف والصراع في المجتمع الإيماني الذي تحدّثت عنه الآيات في مطلعها، وإن رفضها وتجنب المجتمع عن ممارستها، يعني أنه قام بالعمل الوقائي.
وهنا سببان أساسيان في منشأ الصراع، هما:

الأول: طبيعة نظرة الإنسان لنفسه.
الثاني: طبيعة نظرة الإنسان للآخر.
 
الأول:
عندما تكون نظرة الإنسان لنفسه قائمة على أساس التفضيل بأن يعتبر ذاته أفضل الجميع وأرقاها، فهذا يدعوه إلى عدّة أفعال وسلوكيات تجاه المجتمع وهي:
1- السخرية: بأن يرى الإنسان نفسه أفضل من الآخرين فيستصغرهم، ويستهزء بهم ويضحك عليهم فيقوم بتحقيرهم. بينما يمكن أن يكونوا هم أفضل منه لأنه لا يعرف كافة الجوانب والأحوال الإنسانية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ}. وهذا السلوك لا يولّد إلا العداء من الأطراف التي تقع عليها السخرية، كما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): >لا يطمعنّ المستهزئ بالناس في صدق المودة<( ).
2- اللمز والتعيير بالحركة أوالقول هي من افرازات استحقار الآخرين،( وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) و جاء التعبير بأنفسكم لأنه تعبير عن أن الذي يقوم بهذا الفعل إنما ينعكس عليه، لأنه فعل مشين ومنقصة أخلاقية تعود على الإنسان نفسه، أو هو فعل يؤذي المجتمع ككل وهو داخل في ظمنه لأن أفراد المجتمع هم أخوة في الإيمان، فما يبذر منه من سلب سوف تقع عليه نتائجه، وهذا السلوك ناشئ من طبيعة النظرة الإستعلائية التي يراها الإنسان إلى نفسه في قبال الآخرين. {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
3- وهذه الحالة من التنابز بألقاب السوء، إنما هي رجوع إلى الوراء بعد الإيمان حيث أن سمة الإنسان المؤمن هي الأسماء الخيرة والصالحة وإن استبدالها بالأدنى هو عبارة عن تخلّي للحالة الإيمانية، ولأن هذه الأفعال هي أفعال سلبية فإن الإنسان المؤمن بحاجة إلى التوبة لكي ينال استحقاق الرحمة الالهية وإلا فإنه سوف سيكون في دائرة الظالمين، لأنه تعدّى على حقوق الآخرين، والتي هي حقوق اجتماعية عامّة.
وبلا أدنى شك فإن الإنسان عندما يتعرّض لمثل هذا السوك سوف يستثيره ذلك ليقوم بأعمال قد تؤدّي إلى حالة النزاع والصراع.

الثاني:
 
السبب الآخر لمنشأ الصراع هو طبيعة نظرة الإنسان للآخر، وهي القائمة على سوء الظن، وهو ما عبرت عنه الآية التالية في السياق القرآني:
1- اجتناب سوء الظن بالآخرين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
2- عدم اجتراح خصوصيات الناس وتتبعها بالتجسس، {وَلَا تَجَسَّسُوا}.
3- النهي عن إشاعة عثرات الناس بفعل الغيبة وهي أن يتحدّث أحدهم عن الآخر في غيابة بما يكره، {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}.
والملاحظ في طبعية هذه النظرة التي يتباها الإنسان لتحديد رؤيته عن الآخرين، بأنها نابعة من روح مشكّكة وعديمة الثقة تميل إلى الظن السيء بالآخر، فهي تفترض أن يقوم الناس بالسوء دائماً، ولا تأمل ولا تتفائل بالخير تجاههم، وهذا هو سوء الظن، وهو المنشأ الأساس في بداية سلسلة الأفعال الآخرى التي جاءت في سياقها وفي آية وحدة، وقد نهت الآية عن هذا الفعل، كما نهت الروايات الكثيرة عنه، وقد قال الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك: >إذا ظننتم فلا تحقّقوا..<( ) إشارة إلى أن لا يتحوّل سوء الظن القلبي إلى فعل وحركة في الخارج، وقال الإمام علي (عليه السلام): >من غلب عليه سوء الظن لم يترك بينه وبين خليل صلحاً<( ) فالبداية هي سوء الظن ثم يمر بالتجسس، وينتهي إلى الغيبة، لأن سوء الظن يدعوا الإنسان إلى أن يصدّق ظنّه، فهو بحاجة إلى تتبع الأثر والتلصص على الآخرين، وهذا الفعل يسوقه إلى النهاية المدمّرة وهي الغيبة.
ثم يحيلنا السياق القرآني إلى الأساس الفكري في تأسيس عملية الإصلاح التي ذكرناه سابقاً (الأخوّة الإيمانية) حيث يذكر السياق القرآني بأن الغيبة هي بمثابة نهش ذلك المبدأ، وكأن الإنسان الذي يمارسها يأكل لحم أخيه المؤمن وهو حي، له حق الحياة بما تحمل هذه الكلمة من معنى، وما دام الإنسان مقتنعاً بأصل المبدأ بأن المؤمنين أخوة، فهو بلا شك يكره أن يقوم بأكل لحم أخيه، وإلا فيعد ذلك تناقضاً واضحاً بين ما يؤمن به وبين ما يمارسه في واقعه، وقد أحالت الآية الناس الذي يمارسون سلسلة افعال التي تؤدّي إلى الغيبة ومن ثم تؤدّي إلى نشوب الخلافات الإجتماعية إلى مبدأ كراهة أكل المؤمن لحم أخيه المؤمن تعويلاً على كفاية الأساس الفكري والإقتناع به مسبقاً فيقول تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} والكراهة هنا نابعة من استيعاب الفكرة الأساس وهي مبدأ الأخوة الإيمانية، إذ لا فائدة من التذكير بها أو التعويل على كراهة أكل لحم الأخ من دون الالتفات إلى أن هذا الأصل مستوعب مسبقاً، وهذا تحديداً ما ندّعيه في ضرورة التأسيس الفكري لإعطاء الحلول والعلاجات مفعولها وتأثيرها في المجتمع.

التخلّص من الخلافات من شروط الإنفتاح
 
بعد العرض القرآني الدقيق لمسألة الخلافات في المجتمعات الإيمانية، وتبياناً لأهميتها تأتي الآيات في السياق نفسه لتقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، فهي تدعوا الناس جميعاً إلى التعارف فيما بينهم، رغم اختلاف شعوبهم وقبائلهم، وهي دعوى للإنفتاح على كافة أصناف البشر بغض النظر عن نوعهم، ولكن لكي يكون ذلك الإنفتاح انفتاحاً واعياً وعاملاً من عوامل الرقي الإنساني عبر التكامل الحضاري، فلابد من الالتزام بمقدماته، وأهم مقدمة تأتي في السياق الإجتماعي هي أن يحافظ المجتمع على تماسكه و وحدته، ويتغلّب على خلافاته ونزاعاته مستعيناً بمنهج الإصلاح الإجتماعي الذي يكوّن الأخوّة الإيمانية التي تحافظ على التعدد والتنوّع داخل إطار الوحدة الإيمانية، وإن أي انفتاح لا ينظر لهذه المقدّمة الأساسية سيكون انفتاحاً منقوصاً وسيئؤل إلى الفشل كما هي القاعدة القرآنية العامة {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}( ).

الخلاصة
إن وجود التعدد في المجتمع الإيماني شيء طبيعي، إلا أن المرفوض هو ظاهرة الخلافات بين الفئات والجماعات، وإن التخلّص منها مسئولية الجميع، ومنهج الاصلاح هو المنهج القرآني الذي يسير في اتجاه العدالة المجتمعية، حيث يطعي كل ذي حق حقه، ولكي يكون الإصلاح فاعلاً، عليه أن ينحى منحى التأسيس الفكري أولاً عبر خلق قناعة واحدة حول الأخوة الإيمانية، ثم يؤسس عليها بقية الخطوات الإصلاحية، والتي تتجه في طريقين: الأول: معالجة نظرة الإنسان لذاته لتكون نظرة طبيعية غير استعلائية، والثاني: معالجة نظرة الإنسان للآخر وإشاعة روح الثقة وحفظ الحقوق، والوصول إلى هذا القدر في المستوى الاجتماعي يؤهّل المجتمع للإنفتاح أكثر على الأصناف الأخرى من البشر المتنوّعة في ثقافاتها وعقائدها.


http://www.albasaer.org/?rpt=459&sin