الجمعة، 10 يونيو 2011

معالم على طريق العلاقة بالآخر



إن الإنسان، بما هو كائن اجتماعي، محكوم عليه بالعيش في محيط إنساني مع (غيره) من أبناء جنسه. ولما كان الإنسان، كل إنسان، يطمح إلى أن يحيا حياة سعيدة يتحقق فيها أقصى عدد من شروط الكمال، فإنه يجدر به أن يقيم علاقته بالآخر على أسس صحية ناجعة تعود عليه بالخير. وإن السبيل الأفضل إلى ذلك هو فهم الأمور التي تميز المرء عن غيره حتى يتم تحديد حقوق كل واحد وواجباته تحديداً يمنع من وقوع الصدام المدمر؛ فالصدام قد ينتهي في بعض مراحله إلى انتصار طرف تتوفر عنده أسباب القوة أكثر من الآخر، لكن الطرف المهزوم سوف يظل يسعى إلى تعديل موازين القوى حتى يذيق المنتصر طعم الهزيمة، وإن لم يستطع فلا أقل من أن يؤلمه بعض الإيلام.

حتى لا تقع هذه المحاذير، ينبغي على بني البشر أن يمدوا بينهم جسور الحوار، علماً أن أدواته قد توافرت اليوم كما لم تتوافر في أي وقت مضى؛ فهذه شبكة الإنترنت والفضائيات قد لمت شعث البشر كلهم في قرية صغيرة جمعت قاصيهم إلى دانيهم. وها نحن نعرض فيما يأتي لبعض القضايا التي تخص الحوار مع الآخر، ناظرين إليها من وجهة نظر إسلامية تقوم على أساس تحليلي لبعض الأحكام الإسلامية التي تتناول العلاقة بالآخر، كما وجدناه في آي الذكر الحكيم، وسنة النبي الكريم (ص)، وسيرة الإمام المبين(ع).

من هو الغير؟

وضع مجمع اللغة العربية بالقاهرة تعريفاً للغيرية، فقد ورد في المعجم الوسيط الذي أصدره المجمع، (الغيرية: كون كل من الشيئين خلاف الآخر)؛ فأوجه الخلاف والتمايز هي التي تجعل من هذا الشيء غير ذلك الشيء؛ وهذا يعني أن أحد الشيئين مركب من أكثر من معنى، وهو يختلف عن الشيء الآخر بمعنى واحد على الأقل.

بما أن الإنسان مركب من جسم ظاهر، ونفس عاقلة (ذات) باطنة، فإن أوجه الخلاف بين البشر تقع في فئتين، جسمانية ونفسانية؛ يمتاز بعض البشر عن غيرهم بصفات جسمانية، منها الذكورة والأنوثة، والعرق واللون، ويختلفون فيما بينهم بصفات نفسانية، منها الخصائص العاطفية كالرقة والغضب، والخصائص العقلية كالذكاء والإبداع.

إن هذه المفاهيم تقسم الناس إلى فئات متمايزة ليس بوسع الفرد أن يغير من انتمائه إلى إحداها؛ فهي ليست من صنعه؛ ولهذا فإن قدرته على تعديل الأوصاف التي يخلق بها محدودة جداً؛ فمن يقدر على تغيير عرقه ولونه؟ وأي إنسان استطاع أن يرتفع بنفسه من رتبة منخفضي الذكاء إلى رتبة فائقي الذكاء؟.

لكن هاهنا خصائص أخرى تميز بين الناس، وهي من صنع الناس أنفسهم؛ فالإنسان بما أوتي من عقل، لديه عوالم رحبة يمكنه الانتماء إلى ما يشاء منها. وهذه العوالم هي: الأديان والأحزاب والنوادي والجمعيات وغيرها.

ولا يخفى أن كلا منا هو على المستوى النظري، أما عملياً فإنه يعسر على كثير من الناس اختيار انتمائهم الإرادي، فضلاً عن تغييره؛ فالبيئة التي يخلق فيها الفرد قد لا تضع أمامه سوى خيار واحد، وحتى لو كانت الخيارات متعددة فإن التربية التي تلقاها الفرد قد تحدّ من إرادته في الاختيار والانتماء الجديد.

إن الانتماءات التي أوردناها آنفاً هي انتماءات ينتسب المرء إليها بنشاط إرادي، ونظراً لذلك ولكون الإرادة الحرة من الخصائص الجوهرية لكل فرد، ولتباين الناس في الميول والاتجاهات وطرائق التفكير، فقد اختلفت انتماءات الناس دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وهلم جرا.

حقوق الغير

عرفنا أن وجود الغير قائم بوجود الاختلاف؛ فلولا الاختلاف لكان الناس شعباً واحداً، ولكان المتدينون على مذهب واحد، ولكان العاملون بالسياسة حزباً واحداً. فحقوق الآخرين مبنية على الحق في الاختلاف، وعلى الحق في كون المرء على أمر يميزه عن الآخر. إذاً، هاهنا نوعان من الحقوق: حق الاختلاف، والحقوق المترتبة عليه. وبما أن الآخر إنسان فإن الحقوق المترتبة والمشار إليها هي حقوق الإنسان، فإذا نال حق الاختلاف، نال بالضرورة حقوق الإنسان.

وإذا افترضنا الآخر مستحقاً لهذه الحقوق، فمن الذي يرسم حدودها ويتولى حمايتها؟ وإلى من يكون الرجوع في تحديد سبل توجيه الاختلاف؟ ولمن الحكم إذا وقع النزاع بين الأغيار؟.

لمن الحكم؟‍

إن قوى البطش لعبت قديماً وحديثاً دوراً بارزاً في فضّ الخلافات وفي توجيه الاختلافات في كثير من الأحيان، وغالباً ما يقع ذلك حينما لا يكون الطرفان، الأقوى خاصة، خاضعين لسلطة حاكمة واحدة. أما في حالة وجود سلطة كهذه فإنها ربما كانت سلطة كاهن مشعوذ، أو سلطة شيخ القبيلة يمثل الأعراف المتوارثة، أو سلطة دولة ذات مؤسسات قائمة على تمثيل إرادة أكثر المواطنين، أو سلطة خليفة الله في أرضه، نبياً كان أو إماماً.. إلى غير ذلك من أشكال السلطة التي يسلم لها المختلفون بالحكم.

أما سلطة الكاهن فلا وقوف لنا عندها وأما سلطة الشيخ والدولة فإن كليهما ينطوي على أن المرجع في الحكم هو خبرة بشرية انبثقت عنها مبادئ قانونية عامة جعلت إطاراً لا تخرج عن حدوده أفعال الناس المنضوين تحت لواء السلطة.

وإذا كانت التشريعات القانونية قد تحسنت تحسناً كبيراً بارتقاء مستوى الدولة وتراكم الخبرة البشرية، فإنها لم تتخلص من عيبين اثنين: كونها موقوفة على أهواء الناخبين، وصعوبة الوصول إلى اليقين العلمي في مبادئهما، وإن كنا نقطع بأن كثيراً من المبادئ القانونية هي حقائق مطلقة لا مجال للطعن فيها، وإن كان مصدرها الخبرة البشرية والاجتهاد الشخصي.

أما العيب الأول، فقد رأينا أمثلة على أهواء الناخبين في تشريع بعض البلدان للزنا واللواط وقتل بعض المرضى وحرمان الجنين من حق الحياة بالسماح للحامل بالإجهاض وغير ذلك. وإلى ذلك، فإن عدم ميل هوى الناخبين إلى قضية من القضايا قد يسمح بارتكاب جرائم فظيعة بدم بارد.

وأما العيب الثاني فيكمن في المنهج الذي يتبع في استنباط المبادئ القانونية. إن عملية الاستنباط تحمل طابع التجربة الاجتماعية والثقافية لرجل القانون وكذلك تربيته و ذوقه، وتتأثر بعواطفه وميوله، مما يجعل التجرد والموضوعية أمراً صعباً، ولا نقول مستحيلاً. يضاف إلى ذلك أن إخضاع الجماعة الإنسانية للملاحظة والتجريب الضروريين، من أجل الوصول إلى الدقة العلمية، أمر مناف لكرامة الإنسان.

فأين هذه التشريعات من الشرع الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا يأمر إلا بما فيه خير الناس ولا ينهى إلا عما فيه شرهم؟ فمن ذا الذي يؤمن بأن الله حكيم عليم، ثم لا يؤمن بأنه تعالى محيط بحقائق الوجود بما في ذلك حقائق الإنسان ومجتمعه؟.

هذا عن الشمول والإحاطة، وأما كون الأحكام الإسلامية الإلهية في صالح الإنسان، فمبني على أمرين: إرادة الله تعالى الخير للناس، وتنزه ساحته تعالى عن التأثر بالأهواء الشخصية التي يتصف بها البشر.

فمن جهة إن السبب في خلق الخلق ليس انتفاع الله بهم، لأن حال الله تعالى خلاف حال المخلوقين الذين يتوقف ملكهم على وجود المملوكين، وتتحدد عظمتهم بعدد المملوكين وأصنافهم، وإنما السبب في ذلك إرادة الله تعالى أن ينيل خلقه من رحمته ويرزقهم نعيمه. وفي هذا ورد أن الصادق (ع) قد سئل عن علة خلق الله الخلق، فقال: (إن الله لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة، ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد)(1).

ومن جهة أخرى، إن براءة ساحة الله تعالى من شوائب الإمكان تدلنا على تنزهه عن نوازع الشر والظلم وغير ذلك مما يتصف به البشر المجبولون على العواطف المتباينة والأهواء المختلفة التي تجذبهم ذات اليمين وذات الشمال.

بناءً على هذين الأصلين، أليس لنا أن نعجب ممن ينتقصون من كفاءة الإسلام وأهليته للحكم وهو الدين الخاتم المتضمن لجميع المبادئ التشريعية الشاملة والمكرسة لنفع البشرية؟.

أساس الحكم

إذا عرفنا الفرق بين الحكم المستمد من المصدر الإلهي، والحكم المستنبط من الخبرة البشرية، فلنعرف الأساس الذي يفترض أن يقوم عليه الحكم في إعطاء المخالف حقوقه في الحياة والكرامة وما يترتب عليهما. إن نيل الآخر لتلك الحقوق يبنى على استحقاقهم لها، وعلى تنازل الطرف الآخر عن الاستئثار بها.

أما استحقاق المخالف للحقوق، أسوة بالموافق، فبديهي أن الاختلاف لا يخرج المرء من دائرة الإنسانية، ولا ينزع عنه الصبغة البشرية، ولا يدخله في حظيرة الحيوانية حيث تناله العبودية والتنكيل والتسخير، وبما أن أبرز خصائص الإنسانية هو العقل، فإن حرمة الطبيعة البشرية يترتب عليها حرمة النشاط العقلي وثماره من تفكير واعتقاد وتعبير؛ وعليه فإن ظفر المخالف بالحقوق العامة التي تنتظم بني البشر جميعاً، قائم على الخصائص المشتركة التي تشكل الوجه الآخر للغير، وفق قاعدة كون الناس كلهم نظراء في البشرية والخلق.

وإذا تبين لنا كون الآخر مستحقاً لما ذكرنا من حقوق، فمن أي شيء يكون منطلق الطرف الآخر في تنازله عن الاستئثار بهذه الحقوق؟ إن أول ما يخطر في الذهن هو الخلفية الأخلاقية؛ فإذا كان الطرف الآخر ممن يحترم إنسانية الإنسان ويخشع لحكمة الله تعالى في ما استودعه في القالب البشري من آيات تأخذ بمجامع القلب وتملأه انبهاراً بقدرة الله وحكمته، فسيكون للقواسم المشتركة التي تجمعه بالآخر الكلمة الفصل في الإقرار له بما يستحقه.

ثم إن هاهنا أمراً آخر يدفع العقلاء دفعاً إلى التسليم بعضهم لبعض بحق الاختلاف وما يترتب عليه من حقوق، ألا وهو نشدان السلام والنفور من العنف؛ فما الذي سيجره التنازع العنيف غير القلق المعنوي والخراب المادي؟ لقد رأينا كيف أن سيادة فكرة استئثار فئة واحدة بجميع الحقوق وحرمان المخالفين منها، قد جرت على البلدان المتخلفة الصراعات والخراب واتضح لنا كم أحسن أهل البلدان الراقية حينما أقروا بعضهم لبعض بحق الاختلاف وأبعدوا الجيش والشرطة، بما يمثلان من قوة عنيفة، من ساحة التنافس والحوار، لكن قوماً شيدوا حقوق الغير على غير ما ذكرنا من أسس؛ فقد دعوا الناس إلى التسليم للآخر بما يستحقه بناء على ما أسموه بـ(نسبية) الحقيقة أو المعرفة.

إن المعرفة أو الحقيقة النسبية هي(مزيج من الناحية الموضوعية والناحية الذاتية للفكر المدرِك)(2)، وهذا يعني أن كون المعرفة نسبية يقتضي أن لا يتساوى اثنان في إدراك حقيقة من الحقائق، ما دام الناس مختلفين في الناحية الذاتية من حيث قدرة الإدراك والذكاء والعاطفة والخبرة وغيرها من الخصائص الذاتية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يستحيل التواصل بين إنسان وآخر، ويصبح الحوار بين البشر (حوار طرشان)!.

وإذا أسقطنا هذا الكلام على علم الأخلاق الذي يدرس المبادئ التي تحكم سلوك البشر، خرجنا بالأخلاقية النسبية التي تقول إن الأخلاق في كل الحالات (جزئية ومتغيرة ونسبية تختلف باختلاف بيئاتها وتتبدل مع تقلب الظروف والأوضاع التي تنشأ في ظلها)(3)؛ولنتصور الفوضى والعبثية التي ستعصف بالفرد والمجتمع على السواء.

إن الحل الوحيد هو الاعتراف بالحقائق الأخلاقية المطلقة، فالإسلام لم يدع مسألة تتعلق بالإنسان، فرداً أو مجتمعاً، إلا وله موقف مفصل منها، نظراً لشموله وإحاطته بدقائق الأمور وحقائقها، وإنك ترى ذلك من أصغر الأمور كالغرامة في الخدش، إلى أشد الأحكام تفصيلاً كالأحكام الاقتصادية والعائلية، وإلى أعقد الأفكار كالعلوم الإلهية.

وفي البداية نقول إن الإسلام قد أبعد عن مفهوم الآخر جميع الصفات اللاإرادية التي لا يستطيع الإنسان نزعها عن نفسه، ففي خطبة الوداع شدد رسول الله (ص) على القواسم المشتركة بين البشر بكلمته الموجزة الشاملة التي خاطب بها المسلمين قائلاً: (أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد.. أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب) (4).

ويتضح لنا ما في موقف الإسلام هذا من أمر خارق للعادة حينما نعلم أن أحد أعظم المفكرين في التاريخ قد فشل في الارتفاع فوق مستوى العصبية الضيقة؛ فلقد كان أرسطو يرى أن اليونانيين بطبيعتهم أعلى من الآخرين الذين سماهم برابرة، وأنه من الطبيعي أن يكون الأجانب عبيداً لليونانيين، وكذلك توهم الألمان في النصف الأول من القرن العشرين، فالشعب الألماني قد رفد الحضارة الإنسانية طوال أكثر من قرنين من الزمن بروافد رائعة من الأدب والفلسفة والموسيقى وغيرها، لكنه استجاب بعد ذلك لدعوة عنصرية ضيقة أحرقت العالم بنيران الحرب.

من تبعني فإنه مني

إذا كانت الخصائص العرقية التي يولد بها المرء لا تؤخذ في الإسلام معايير للتفرقة بين الناس، فما الذي يؤخذ إذاً؟ إن المصادر الإسلامية تسلم بوجود الاختلاف بين البشر وتعتبره سنة كونية، كما في قوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)(هود: 118) ولأجل هذا جاءت المعايير الإسلامية التي ينفرد وفقها الآخر المخالف لتلك المعايير.فيعلن القرآن الكريم وتصرح السنة المطهرة بامتلاكها للحقائق المطلقة والقيم الموضوعية التي يجب على الناس أن يتمسكوا بها ولا يجوز لهم جحودها. وتتناول هذه الحقائق والقيم مجالات الوجود المعنوي والمادي، والإنساني وغير الإنساني، وبقدر ابتعاد الإنسان عن هذه الحقائق والقيم فإنه يسلك في نظام الآخر، فما هي تلك المعارف والقيم؟.

إنها معارف في القلب وأفعال وأقوال بالجوارح، وهي جميعاً شؤون إرادية يستطيع الإنسان أن يأخذ بها وأن يتركها، وهي ليست كالصفات الجسمانية والأفعال الاضطرارية التي ليس للإنسان حيلة معها. وهي اعتقادات تتناول وجود الله تعالى وتوحيده والملائكة وإرسال الرسل وإنزال الكتب وحشر الخلق إلى الجنة والنار وما شاكلها، وهي أيضاً عبادات كالذكر والصلاة والصوم، وهي أخلاق ينبغي على الإنسان التحلي بها، كالصدق وأداء الأمانة، وأخلاق يجب على المرء اجتنابها كالكذب والغيبة.. فإذا التزم الإنسان تلك الشرائع، سلك في جملة المؤمنين، وإذا جحدها، سلك في جملة الأغيار.

أما المصادر التي تحددها ويرجع الناس إليها عند الاختيار؛ إنها الكتاب المنزل من الله تعالى على رسوله الخاتم (ص) وسنة ذلك الرسول (ص). ويصرح القرآن الكريم بإحاطته العلمية، وهو قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (الأنعام: 38). ويبين صلة سنة النبي (ص) بالمصدر الإلهي فيقول: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 3-4).

(لا إكراه في الدين)

إذا كان الإسلام قد رسم بدقة الحدود التي يقف وراءها الآخر، فإنه في نفس الوقت قد أولى عناية بالغة بالأرضية المشتركة التي يقف عليها المسلم والآخر، ومن ثم فإنه أتاح للآخر التمتع بحقوق رائعة قلما يوجد نظيرها في غيره، وفي كلمة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) إجمال بليغ لذلك كله. صحيح أنه أقام الأخوة على الدين وجعله علاقة تميز المسلم عن غيره، ولكنه في الوقت نفسه أكد على القواسم المشتركة الكامنة خلف تلك العلاقة؛ فبين المسلم وغير المسلم نقاط التقاء كثيرة ترجع إلى أنهم جميعاً نظراء في الخلق، في الحياة والعقل والصورة الإنسانية. وإن المتمعن في التشريعات الإسلامية يرى أنها منحت لغير المسلمين حقوقاً موزعة على المعاني التي ذكرنا بعضاً منها، وأول هذه الحقوق حق التفكير والاعتقاد والتعبير عن العقيدة؛ ففي قوله تعالى:(لا إكراه في الدين)(البقرة: 256) أمان لغير المسلم من أن يجبر على ترك دينه، وصون لحريته في أن يكون على عقيدة خاصة، وممارسة الشعائر المختصة بها. ولم يقتصر الأمر على أهل الكتاب الذين أقروا على دينهم، فهاهم المنافقون قد كفروا بعد إيمانهم، وعلم الرسول (ص) حقيقة أمرهم، لكن لم يتعرض لهم بسوء، حتى أن كبيرهم عبد الله بن أبي قد وقع في المسلمين وأساء الأدب تجاههم وتجاه الرسول (ص)، وحينما أشير على النبي (ص) بقتله قال: (بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا) (5).

وأما بقية الحقوق فيجمعها قوله (ص) :(ألا من ظلم معاهداً أو نقضه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة) (6). إذا تأملنا هذا القول لرأينا أنه قد نهى عن ظلم غير المسلمين، علماً أن الظلم مفهوم واسع جداً يشمل وجوه المعاملة في الكثير من المواضيع، ونهى عن التكليف فوق الطاقة مما يستلزم الرفق واللين، ونهى عن التعدي على ملك الآخرين، وهو بذلك قد حفظ لهم حق الملكية.

التعارف

نخلص من كل ما ذكرنا إلى أن الإسلام لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً يستدعي العداوة ويحمل على طلب تصفيته بكل الوسائل، وإنما اعتبره نظيراً في الخلق وأهلاً للتعارف، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )(الحجرات: 13). فكيف يتم التعارف؟ وما هي أهدافه؟.

إن الاتصال هو الخطوة الأولى التي يجب أن يخطوها الأفراد والجماعات بعضهم نحو بعض في سبيل التعارف. إذن، الشرط الأول في الحوار هو الاتصال وحرية تدفق التعبير وحرية المعلومات بين طرفي الحوار، حتى لا يكون الحوار حوار طرشان. لكن المهم في الحوار ليس هو الحوار ذاته، وإنما نتائجه. وإننا إذا تأملنا في النتائج المحتملة لأي حوار لخرجنا باحتمالات أربعة: إن الحوار يفضي إما إلى اتفاق المتحاورين أو إلى اختلافهما، ويكون الاتفاق إما بنزول أحد الفريقين على رأي الفريق الآخر، وإما بنزول كل من الفريقين عن رأيه، لما فيه من شطط، واعتناقهما الحقيقة التي تجلت لهما معاً نتيجة للحوار. أما الاختلاف فيثمر إما تقبل المتحاورين بعضهم لبعض، وإما خصومة شديدة وحرب مفتوحة يشنها كل طرف على الآخر لتصفيته وإلغائه بشتى الوسائل ومهما كلف الأمر.

ولنتناول أولاً الاحتمال الأخير، فنقول بصراحة إن الوصفة السحرية لإشعال الصراع بين المختلفين هي التوسل بالعنف كأداة في الحوار لأن (العنف لا يولد إلا العنف) (7)، كما يقول الإمام الشيرازي (قدس سره)، إن أوجه الاختلاف تجعل عند طرفي الحوار استعداداً للتنافر فيما بينهما، فما بالك إذا أذكى هذا الاستعداد المبادرة العنيفة من أحد الطرفين؟ إن النتيجة ستكون استعار النزاع بينهما؛ مما يؤدي إلى القضاء على كل أمل في الخروج من الحوار بثمار إيجابية تعود بالنفع على الطرفين؛ ولهذا نرى في الذكر الحكيم والأخبار الواردة عن المعصومين (ع) التحذير من الآثار السلبية للعنف، والنصح باستبداله بالرفق الذي هو أحمد عاقبة، يقول تعالى:(ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت: 34) ويقول رسول الله (ص):(من علامات المؤمن اللاعنف)(8)، وورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (كن ليناً من غير ضعف، شديداً من غير عنف)(9)، فلا بأس في أن يكون المتحاور صلباً في رأيه، إذا علم أنه حق، ولكن يجب أن يحذر من الانزلاق في مهاوي العنف الذي لا تحمد عقباه.

وليس أحسن من أن تتضافر النية الحسنة مع الأمان ورحابة الصدر وسعة الحلم، فإذا كان المتحاوران كذلك، تيسر جريان الحوار بسلاسة، وأمكن الوصول إلى النتائج الطيبة. إن العوامل التي ذكرناها تمكن الذي يتحلى بها من أن يرى القواسم المشتركة بينه وبين نده، بدلاً من تركيز الانتباه كله على نقاط الاختلاف، وهي تيسر عليه التعامل إيجابياً مع نقاط التمايز تلك. وبالنتيجة ينصرف الفريقان إلى ترسيخ الآراء المشتركة والتعاون في ذلك، وإلى تضافر الجهود لتحقيق الأهداف الواحدة، ويتحاشيان الاحتكاك في المفاصل المتنافرة ما أمكنهما ذلك، ويحرصان على تقليل الآثار السلبية للاحتكاك، وعلى التعامل معها بحكمة وحلم، فلا تؤدي الشرارة الصغيرة إلى حرب مدمرة، وبذلك يتحقق التواصل الصحي بين الأفراد والجماعات، والتعايش بين الأفكار والأهداف المتناقضة، وهو أمر تشهد له تجارب الديمقراطيات الحديثة وتبرهن عليه الدراسات العلمية. ومن ذلك ما خلص إليه الباحث (جون إلستر) قائلاً: (ربما تتعايش المعتقدات المتناقضة في سلام لفترة طويلة إذا كانت تتعلق بمجالات حياة مختلفة)(10).

ثمة طريق آخر للخروج من الحوار بموقف موحد ألا وهو إقناع أحد الطرفين الطرف الثاني بموقفه. هذا يعني بصراحة إلغاء أحد الطرفين للآخر، لكنه إلغاء سلمي معنوي للفكر والموقف المغاير، بخلاف ما ذكرناه آنفاً من ثمرة العنف، ونعني بها الإلغاء القسري المادي للآخر؛ فإذا كان الإلغاء المادي بالإكراه أمراً مذموماً جداً، فإن الإلغاء المعنوي بالإقناع ليس كذلك، بل إنه الهدف الخفي الذي ينشده كلا المتحاورين عندما يجلسان للحوار. وما الحوار إلا دعوة مهذبة يوجهها أحد الفريقين إلى الآخر لاتباع رأيه. وهذا لا تأباه العقول ولا تمجه النفوس، بشرط أن تتوفر في الحوار جميع شروطه الضرورية، لا أن يكون بصورة غسيل دماغ يقوم به الطرف المحتكر لوسائل التأثير والإغواء، بينما يكون الآخر مجرداً من كل حرية سوى حرية شكلية لا يملك من وسائل تفعيلها كثيراً ولا قليلا.

إن نجاح الحوار بتقبل الطرفين بعضهم بعضاً أو باتحادهما على موقف واحد، يتطلب أمراً أصله في نبذ العنف الذي ذكرناه في أول الكلام عن الحوار، ونعني به التحرر من التعصب. وفي البداية نقول إن التعصب لا يعني ما يفهمه كثير من الناس اليوم؛ إنهم يقولون إذا رأوا شخصاً ملتزماً شرائع دينه فهو متعصب أو متطرف أو غير ذلك من الصفات المذمومة بين أبناء هذا الزمان. وهذا الحكم والقول غير صحيح، وحتى نعرف المعنى الصحيح للتعصب نورد أولاً هذا الخبر عن الإمام زين العابدين (ع) إذ سئل عن العصبية فقال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين). إنه لمن الطبيعي أن يميل الرجل بعاطفته إلى القوم الذين نشأ بينهم، لكن إذا رأى قومه ينغمسون في الشرور، ويرتكبون الآثام، فلا يجوز أن ينقاد مع عاطفته تلك، ولا أن يفضل قومه هؤلاء على غيرهم من الأقوام الذين هو للخير فاعلون، وبالطاعة ممتثلون، بل يجب أن يقر لأهل الفضل بفضلهم، وأن يذم أهل الإثم بإثمهم ولو كانوا قومه. فإذا عممنا هذا المعنى على الناحية الفكرية، خرجنا بنتيجة تفيد أن التعصب المذموم هم أن يرى المرء رأيه حسناً وخيراً من آراء الآخرين، حتى لو كان رأيه باطلاً، وأن يتمسك بموقفه، حتى لو تبين له مناقضته للحق والحكمة، وأن يكون اعتداده برأيه وموقفه هو الدافع للتمسك بهما وليس موافقتهما للحق.

وجادلهم بالتي هي أحسن

تبين لنا مما سبق أن الحوار بين الأغيار يتأثر في نتائجه بالأسلوب الذي يجري به الحوار وبالذهنية التي يمثلها المتحاوران. فالعنف هو أقصر السبل إلى وأد الحوار في مهده، وإلى تفجير الموقف بين الفريقين، وكذلك فإن الذهنية الضيقة والنية السيئة، والتعصب المقيت، ليس ضررها على الحوار أقل مما ذكرنا. أما الانفتاح على الحقيقة والرغبة في السلام والتواصل والتزام الاحتجاج العقلي السلمي، فهي عوامل عظيمة النفع في الخروج من الحوار بنتائج مرضية للجميع. وهذه الأمور الأخيرة التي ذكرنا هي صفات أسلوب الحوار والدعوة، في المصادر الإسلامية قرآناً وسنة.

فمنذ البداية يتوجه القرآن الكريم إلى المخالف بالإنصاف فيقول:(وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)(سبأ: 24). وينزع المخاوف من صدره ويزرع فيه الثقة ويؤمنه من أن يجبر على ترك موقفه، فيقول: (لا إكراه في الدين)(البقرة: 256)، وبعد هذا يأتي الأمر المنطقي، ألا وهو سلمية الجدل والمحاورة، فاستمع إلى قوله تعالى:(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل: 125)، وتأمل هذا الأسلوب القرآني الرفيع في التوجه إلى محاورة الآخر؛ فعماد الدعوة إلى سبيل الله، هو الحكمة والموعظة الحسنة. والحكمة هي الشيء الذي يعرف به حسن الأفعال من قبيحها، والموعظة هي تبيين مضار الشرور، بغية انصراف السامع عنها؛ فالمسلم مأمور أن يكون أسلوبه في الحوار أسلوباً حسناً، أي رفيقاً ليناً قائماً على التعليم والتبيين، لا على الغلظة أو الفظاظة، ولا على التمويه أو المغالطة.

وبالجملة فإن أسلوب الاشتباك مع الآخر في الإسلام، بالدرجة الأولى، هو أسلوب الحوار الفكري والعلمي المستند على معارف القرآن الكريم. ولقد وصف تعالى مجادلة المسلم للآخرين بالقرآن بأحسن وصف، إذ قال:(وجاهدهم به جهاداً كبيراً)(الفرقان: 52)، فهل بقي لبس في أولوية الجهاد الفكري في الإسلام؟ ألم يتضح أن الإسلام ينظر إلى الآخر بوصفه كائناً (مفكراً) لا عبداً مسخراً؟ ألم يتبين أن الإسلام يريد من الآخرين أن يدخلوا فيه أفواجاً عن قناعة متولدة عن التفكر الصحيح في الحجج الصحيحة، لا أن يساقوا إليه سوق البهائم البرية بعد ترويضها؟ نعتقد أن كل هذا يكفي للدلالة على احترام الإسلام لعقل الإنسان وحرية تفكيره، كيف لا وهو يدعو الناس إلى أن ينزعوا عنهم العبودية بعضهم لبعض، فيكونوا متساوين أمام الله الواحد: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله)(آل عمران:64).

ازدواج المعايير

ومع هذا يتهم الغرب الإسلام بالإرهاب. فهل مرد ذلك إلى الجهل بحقيقة الإسلام أم إلى تجاهلها؟ إن ازدهار مراكز البحث وعراقتها تنفي كون الغرب جاهلاً بحقيقة الإسلام، فهم يعرفون الإسلام جيداً، ويدركون نصاعة وجهه وبراءة ساحته من الإرهاب، لكن المسألة مسألة تجاهل ومغالطة وتحيز في الحكم على الآخر. إن نظرة الاستعلاء التي تتصف بها القوى الاستعمارية والإمبريالية لكفيلة بحرف الغرب عن جادة الإنصاف عند الحكم على الآخر - الإسلام- فمنذ عهد التوسع الاستعماري ابتلي الغرب بازدواجية المعايير؛ فهو يلتزم مبادئ الإخاء والمساواة والإنسانية في بلدانه، ويضرب بها عرض الحائط في التعامل مع بلدان الآخرين. واليوم يحاكم الغرب بعض المفكرين حينما شكك في حجم الأذى الذي ألحقه النازيون باليهود، ويقاطع النمسا لأن بعض أعضاء حكومتها له سياسة معادية للأجانب، ومع هذا فإنه لا يحرك ساكناً في وجه الدعاية التي تصم مئات الملايين من المسلمين بالإرهاب. فانظر أيها القارئ الكريم إلى دعوة الإسلام الناس للتعارف من أجل (اتحاد البشرية)، وإلا نعيب ذلك الأميركي الذي ينذر بصراع الحضارات، وتأمل ووازن.

 --------------------------------------------------------

(1)محمد تقي المدرسي، العرفان الإسلامي، المركز الثقافي الإسلامي، ص415.

(2)محمد باقر الصدر ، فلسفتنا، ص 125.

(3)مجموعة من المؤلفين، علم النفس والأخلاق، منشورات وزارة التربية، دمشق - سورية 1995 ص269.

(4)أبو محمد الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان ط5 1974 ص31.

(5)ابن هشام السيرة النبوية، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان ج3 ص305.

(6)محمد باقر الصدر، مصدر سابق، ص473.

(7)محمد تقي باقر، اللاعنف، عنوان المؤمن، منشورات المسلم الحر، واشنطن - أميركا ط1 - 2001 ص25.

(8)المصدر السابق ص116.

(9)المصدر السابق ص7.

(10)مجموعة من المؤلفين، نظرية الثقافة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1997 ص418.


وفيق فايق كريشات