الجمعة، 10 يونيو 2011

الثقافة الفردية والتفكير الجمعي.. بين نزعة الانار وضرورة المشاركة

لقد وهبَ الخالق جلّ وعلا للإنسان باعتباره الفردي مكانة خاصة بين سائر الأفراد من المخلوقات الأخرى، وميّزه بمميزات خلاّقة لا يتحصّل عليها ما دونه من المخلوقات، وعلى رأس تلك المميزات والخواص قدرة (العقل) تلك القدرة التي يتمكن من خلالها النظر للأشياء بأبعادها الكلية؛ إذ تعطيه بُعداً استنتاجياً، لرؤية الحياة بمنظار واع ومسؤول، يضع في حسبانه مبادئه ومنطلقاته ومعاييره الفكرية، ليسعى لتحقيق تطلعاته وأهدافه.

نعمة العقل لدى الإنسان، أو القوة العقلية كما يسميها الفلاسفة، تحتل مكانة خاصة في التكوين الذاتي للإنسان التي تجعل منه كياناَ لديه تطلعاته الخاصّة، وقد دعا القرآن الكريم الإنسان للتفكر والتعقل في الكثير من آياته؛ إذ تواتر في الآيات الكريمة قوله عز من قائل: (أفلا تعقلون)، (أفلا تذكرون)، (أفلا تبصرون)، (أفلا يتدبرون)، (أفلا يعلمون)، التي تدلّ على الحثّ والتشجيع من قبل الله تعالى للإنسان على استعمال عقله وتفكيره فيما يراه أو ما يعترضه من مجريات الأمور؛ الأمر الذي يفضي للمعاصرة والشهود الحضاريين..وقد مدح الله تعالى الإنسان الذي يستخدم هذه القوة في النظر للأشياء وخصوصاً في عملية عرض الأفكار وتقويمها، فقد جاء في آيات الذكر الحكيم: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب)(1).

ذلك المكوّن الثقافي الذي يعطيه الإسلام للإنسان الفرد بالإضافة إلى دعوة القرآن الكريم إليه، هو أيضاً مقياس أعماله عندما يمثل أمام خالقه يوم البعث، إذ يأتي باعتباره الفردي، يقول تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)(2)، فيحاسب على توجهاته وأفعاله التي قام بها في حياته الدنيا.

من وجهة أخرى فقد عزّز الإسلام التفكير الجمعي ومزاولة رسم التطلعات والمسارات بشكل جماعي، يشترك فيها أصحاب الرأي والحكمة والعلم، كما أشارت بذلك الكثير من الأحاديث الشريفة المروية عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، فقد قال الرسول (ص): (يد الله مع الجماعة(، وأكد الإسلام على المشاورة كطريقة للوصول إلى الرأي الصائب؛ قال الإمام علي (ص) : (من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول)(3).

والإنسان ضمن دائرة التفكير والعمل يتجاذب بين رأيه الشخصي النابع من ثقافته الفردية، وبين رأي المجموع والجماعة المستخلص من المشاورة والتفكير الجمعي، وكثير من الإشكاليات المجتمعية الحاصلة بين الجماعات والتيارات الفكرية أو السياسية التي تسبب الانفصال عن المجموع، أو التلبّس بالاستبداد، ومصادرة آراء الآخرين؛ إنما تنشأ من نزعة الأنا، تلك القوّة النفسية لدى الإنسان والتي تصل به إلى الكثير من المهالك والويلات، وذريعة هذه النزعة ومنشؤها حق الإنسان في التفكير الفردي، إذا ما أخذ بالمبالغة إلى حد الإعجاب بالرأي الذي قد يكون مختلطاً بالهوى؛ لأن من فلسفة المشاورة هي أن يتجنّب المستشير حركة هواه في عملية تفكيره؛ يقول الإمام علي (ع): (إنما حُضّ على المشاورة لأن رأي المشير صرف، ورأي المستشير مشوب بالهوى)(4).

وقد دعا الرسول الكريم (ص) للنأي عن من يعجب برأيه (أي من يجعل رأيه مقياساً لبقية الآراء وغير ذي حاجة لها)، يقول (ص): (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك)(5).

الثقافة الفردية وخسارة الرهان

ليس عالم النظريات وحده يسير في اتجاه تغليب التفكير الجمعي على النزعة الفردية، بل للواقع المعاصر بلاغته في التعبير عن هذه الحقيقة؛ وذلك بالنظر للإعداد الذي تعدّه المنظومة الغربية في جميع مجالاتها للتذويب الثقافي للمسلمين.

فالمؤسسات التجارية الضخمة التي تمتلك أكثر من نصف العائدات المالية العالمية تغزو أسواق المسلمين من غير قدرة الأخيرة على المنافسة، وهي بذلك لا تسبب الخسارة والكساد الاقتصاديين وحسب، بل تروّج للسلع الغربية ذات المحتوى الثقافي الغربي، أو ما يسمى بالسلع الثقافية، ويكون الخاسر الوحيد هو المجتمع الإسلامي بانقياده نحو بريق الثقافة الاستهلاكية والنفعية، لتدمّر سلوكه وثقافته ودينه.

أمام هذه التحديات الحضارية الجديدة والكبيرة، لا يستطيع المجهود الفردي أن يصمد أو يؤثر في المعادلات، سواء في المجال العملي أوفي تكوين الرأي وبلورته، فالضرورة الحياتية والحضارية تقتضي المشاركة في جميع مجالاتها، ومن أهمها عملية التفكير الجمعي والمشاركة في الرأي، ومن يراهن على مقدرة الثقافة الفردية على التأثير في مسار الحضارة المعاصر، نراه واهماً وخاسراً لرهاناته أمام تحشيد الطاقات والإمكانيات وصياغتها بشكل مكوّنات مؤسسية عند الغرب.

والإحصائيات تذكر أن مبلغاً يزيد على (500) مليار دولار قد أنفق حتى عام 1999م ـ على شتى الخدمات الإعلامية خلال العام 1997م، يقابلها مبلغ (200) مليار دولار لسنة 1984 مثلاً، إن هذا المبلغ يعادل ميزانيّات دول صغيرة وكبيرة بأكملها(6).

توظيف الثقافة الفردية

كما أشرنا أن للإنسان حق التفكير وتكوين الرؤى باعتباره الفردي، ولا يمكننا أن نلغي هذا الحق الذي أعطاه الله عز وجل للإنسان على حساب التفكير الجمعي، بل هنالك مهمة تنتظر الثقافة الفردية لتأخذ دورها في البناء والمشاركة الجمعية، وذلك عبر توظيفها لصالح المجموع، فالتفكير الجمعي لا يلغي الفردية بل يدعمها ويستفيد منها، فما التفكير الجمعي إلا مجموعة من الأفكار الفردية، تحكمها حالة التنسيق والموضوعية، وملء الفراغات بينها، لتكون الفكرة في حالة راقية من النضوج والشمولية.

وعن الإمام أمير المؤمنين(ع): (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)(7)، ويقول(ع):(أمخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء)(8).وفي الآيات الشريفة: (وأمرهم شورى بينهم)(9) وقوله عزّ وجل: (وشاورهم في الأمر)(10)، فهذه العلاقة هي كما عبر عنها أحد علماء الاجتماع: (اتحاد فكري يبقى بين الأشخاص بالرغم من كونه متعدداً، أي أن كل فرد يشعر باتحاده مع الآخرين دون أن يختلط بهم، ودون أن يختلط بعضهم ببعض)(11)، أي الاختلاط الذي يلغي شخصية الفرد بمجرّد اندماجه ومشاركته للجماعة.

رؤية قرآنية

وفي إطلالة قرآنية على حالة التفكير الجمعي، نتبصّر ضرورتها للإنسان المعاصر وللحياة بصورة عامة، والذي يريد أن يؤثر في معادلاتها، ففي قوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)(12)، تتحرّك عملية الشورى وهي عملية بلورة الرأي وصياغته لتصل إلى حالة الانتصار للحق وللتقدّم في حالة وجود التحديات المختلفة.

تتحرّك عملية التفكير الجمعي (الشورى) في الآية الكريمة في خطين متوازيين، يمثلان بدورهما عملية النهوض الحضاري لأي أمة تسعى لتخطّي مدارج التقدّم والكمال، وهما:

1- خط البناء، والذي عبّرت عنه الآية الكريمة بـ(ومما رزقناهم ينفقون) أي أن المجموع يسير نحو الإنفاق الحضاري لما رزقه الله من طيبات وخيرات يصبّها في بناء الحضارة الإنسانية.

2- خط المواجهة للأزمات الناشئة من عملية البناء ذاتها، أو الأزمات المفتعلة التي تحيكها القوى التي تمارس عمليات الظلم بمفهومه الواسع، وقد عبّرت الآية الكريمة عن هذا الخط في قوله عز وجل: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)، فالجهد الجمعي للرأي يواجه أيضاً حالة البغي، سواء الفساد المتمثل بالمنكرات، أو البغي الفكري؛ قال تعالى عن الفساد والمنكرات: (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)(13)، وقال عز وجل عن البغي الفكري: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً)(14)، كما يواجه الجهد الجمعي الجهود التي تبذلها الحضارات الأخرى لتذويب الحضارة الإسلامية، والتي تتمثّل في قول الله عز وجل: (فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً)(15).

هذه هي الصورة الحضارية القائمة اليوم، فإن الجهود المالية والبشرية والعلمية توظّف وتجنّد للهيمنة الغربية على العالم بغياً وعدواً، والحل الأمثل هو مواجهة تلك الجهود بجهود جماعية مترابطة، ابتداء من عملية التفكير الجمعي، وصولاً إلى التعاون العملي؛ وهي عملية تعاون الثقافات الفردية على التفكير الجمعي.

 ---------------------------------------------

(1) الزمر: 18.

(2) الأنعام: 94.

(3) ميزان الحكمة: ج5ص211

(4) المصدر السابق: ج5ص211 .

(5) جامع السعادات: للنراقي ج1ص359.

(6) مجلة الكلمة: العدد 17.

(7) ميزان الحكمة: ج4ص36.

(8) المصدر السابق: ج4ص36.

(9) الشورى: آية 38.

(10) آل عمران: آية159.

(11) علم النفس الاجتماعي: جان ميزونّوف، ص34.

(12) المصدر السابق: ص34.

(13) النحل: 90.

(14) البقرة: 90.

(16) يونس: 90.


محمود الموسوي