الثلاثاء، 21 يونيو 2011

من جديد.. نقد الطائفية من أجل الدين والإنسان



يشكل العقل الطائفي حضوراً متواصلاً على امتداد تاريخنا وفي حياتنا المعاصرة، ليسهم من جديد في تنميط الحياة والسعي لفرض رؤية ثقافية محددة تمارسها العقول الطائفية تجاه بعضها، وعلى الرغم من كون الطائفية كمجتمع له ملامحه يعد أمراً طبيعيًّا يدخل ضمن تعدد الشعوب والقبائل والأعراق وهو جعل إلهي، إلا أن جعل التمايز الطائفي وسيلة لإقصاء الآخر أو سلبه حقوقه أو فرض ثقافة وفكر محدد عليه يكرس حالة التشرذم والتخلف في الأمة.
إن أبرز ملامح الأمم والمجتمعات المتحضرة يتموضع في تداخل الأطياف الفكرية والأعراق والطوائف الاجتماعية تحت السعي لتكريس قيم النهوض والتقدم وبناء الذات كمجموع متفاعل ومتعارف، ومع تكاثر الأعراق في المجتمعات المتحضرة وتضادها تاريخيًّا إلا أن الدولة الحديثة استطاعت أن تستفيد من تعدد المرجعيات التاريخية والفكرية للأطياف المختلفة في صنع قانون وقيم ومبادئ تحترمها كل تلك الأطياف والطوائف ليشكل ذلك مرجعية حديثة.
إن التقدم في جميع مجالات الحياة ينطلق من مبدأ أرساه الله في كتابه العزيز، وهو مبدأ التعارف بين البشر، لأنه يشكل وسيلة مهمة في تثاقف المجتمعات المختلفة وهو من أهم وسائل التغير والتطوير في أبنية الثقافة والفكر لدى الإنسان المعاصر، ولعل ثورة المعلومات وسهولة التواصل الثقافي بين المجتمعات في عالمنا المعاصر يبرز سلطة المعرفة والتثاقف عبر الأثير في تغير الكثير من المفاهيم والآراء والقيم التي نؤمن بها.
ولكي نسهم في توعية الأمة بخطر الفكر والثقافة الطائفية التي تسعى للإقصاء وسلب حرية الآخرين وحقوقهم لابد من تعرية ثقافة الكراهية التي تستند إليها النزعة الطائفية المتفشية في أمتنا والتي تدعو للقتل والحرب والعنف انطلاقاً من مبدأ طائفي يرى الحق منحصراً في ذاته وقومه وطائفته، إذ إن هذه الثقافة لا تشكل خطراً على التعايش بين المجتمعات فحسب، بل هي تمثل خطراً على الإسلام ذاته؛ إذ تسهم في تكريس صورة مشوهة عن قيم الإسلام ومبادئه السمحة، والتي أضحت تشكل الصورة النمطية الشائعة في الغرب.
هنا لابد لنا من تبني استراتيجية واضحة تهدف إلى محاصرة ثقافة الكراهية الطائفية والقضاء على أسباب تفشيها، ولا يمكننا القيام بهذا الأمر إلا من خلال عناصر أربعة تشكل بمجموعها قواعد التحديث الاجتماعي والسياسي والديني، وهي:

تكريس مفهوم المواطنة في الحقوق والواجبات:

قد يظن البعض أن مفهوم المواطنة أمر مستحدث في ثقافتنا الدينية، وهو أمر يستبطن مغالطة واضحة خصوصاً للقارئ النبيه لتاريخنا الإسلامي، وبالأخص لمرحلة التأسيس الذي قادها رسولنا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة عندما أرسى وثيقة عرفت فيما بعد بوثيقة المدينة، والتي أرسى فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حقوقاً ووجبات متبادلة بين أطراف المجتمع بمختلف قبائلهم وأديانهم، وجعل التناصر والحفاظ على الوحدة والتعايش بالمعروف وإقامة العدالة والقسط والتعاون الاجتماعي أسس المعاهدة والوثيقة التي ضمت المؤمنين بمختلف قبائلهم واليهود بمختلف قبائلهم وجعلتهم ينصهرون تحت وحدة اجتماعية تسعى لتطبيق تلك المفاهيم التي زخرت بها الوثيقة[1].
وفي حكومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) والتي زخرت بالتنوع الطائفي والعرقي والديني مارس الإمام علي (عليه السلام) سياسة عادلة لم يفرق فيها بين أطياف المجتمع لا في العطاء ولا في الحقوق ولا الواجبات، بل انتصر حتى للنصراني كبير السن الذي رآه يستعطي الآخرين، فأمر له من بيت مال المسلمين عطية يحفظ بها كرامته، وقد أرسى في الكثير من أقواله ووصاياه حق المواطنة بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو القبيلة أو العرق، ولعل في كلمته التي أصبحت مثلاً وقيمة اجتماعية ودينية ما يرشدنا إلى تلك السياسة الرشيدة في إدارة الأمة حيث قال (عليه السلام):
«الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق».
إن حق المواطنة في الإسلام يعني تساوي الأطياف الاجتماعية في كل الحقوق كالأمن والكرامة والتعليم والمال العام وحرية التعبير والاعتقاد والمساواة أمام القانون وإدارة وتنمية المجتمع، ولا يحق لأي سلطة أن تمنع المواطن مهما كانت طائفته من التمتع بتلك الحقوق التي كفلها الإسلام والشرائع السماوية كافة والقوانين والمواثيق الدولية المعاصرة.
وبقدر ما تنتقص السلطة من تلك الحقوق فإنها في الحقيقة تمارس طائفية مقيتة تولد الكراهية والعنف بين أبناء المجتمع الواحد، والسلطة بهذه السياسة تفقد مشروعيتها في تولي إدارة المجتمع، لأن قبول الشعب بسلطة ما إنما ينبع من كونها تسعى للحفاظ على وحدة المجتمع وحقوق أبنائه وتكريس مفهوم العدالة والقسط بين الناس.

بناء نظم وقوانين تكفل الحفاظ على الحقوق وتساويها:

من المهم جدًّا لبناء مجتمعات متجانسة أن تكون القاعدة القانونية التي يحتكم لها أبناء المجتمع عادلة لا تفرق بين أحد على أساس العرق أو القومية أو القبيلة أو الطائفة، وأن تكون مقنعة للجميع كونها تحفظ كرامتهم وحقوقهم ولا تكرس حالات فئوية أو طائفية اجتماعية أو دينية، وتمثل هذه القوانين ضمانة حقيقية لتكريس مفاهيم مثل المواطنة والتسامح والتعايش بين الأطياف المختلفة.
إن هذه القوانين بما تملك من احترام في النفوس وما تشيعه من ثقافة تسامح إذا كانت هناك سلطات تنفيذية وقضائية تسعى لتطبيقها والحفاظ عليها فإنها تمثل قوة ردع مهمة في تكريس حق المواطنة وردم الهوة بين أطياف المجتمع، ومثل هذه القوانين تكتسب مع الزمن الاحترام العميق في النفوس، بل ويسعى هذا المجتمع بنفسه لصيانتها والحفاظ عليها لأنه يرى فيها تحقيق مصالحه وحاجاته وكرامته.

إشاعة الحريات العامة:

تساهم أجواء الحرية في أي مجتمع وأي أمة في شيوع ثقافة قبول الآخر والتسامح والتعايش بين مختلف الأطياف والطوائف، وبقدر ما يكون المجتمع حرًّا في آرائه ومعتقداته وطريقة عيشه وأسلوب حياته، فإن ثقافة الكراهية والتطرف والتعصب والعنف تكون أقل نموًّا وانتشاراً، بل وتصبح مثل هذه الثقافة في العقل الاجتماعي العام جريمة وخروجاً عن الأطر والقوانين والأعراف السائدة في المجتمع، كونها تهدد السلم والأمن الاجتماعي الذي يمثل فلسفة المجتمع ونظرته للحياة.
إن ثقافة الكراهية الطائفية تنمو في المجتمع الذي تسوده وتسيطر عليه سلطة طائفة محددة دون إشراك الآخرين في القرار، لتفرض رؤيتها وفكرها وعقيدتها على الأطياف الأخرى، ويمثل هذا الفرض للرأي انتهاكاً للقيم الدينية ولحقوق الإنسان وكرامته، لأن الاستبداد الذي تمارسه سلطة طائفية تجاه طائفة أخرى يستبطن رفضاً لمبدأ إنسانية الآخر وحقه في الاختيار وتبني الآراء والمعتقدات التي يراها صواباً، وهذا ما رفضته شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المعنى الظاهر من قول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، فإذا كان الله لا يفرض دينه على الناس ولا يجبرهم على اعتناقه فليس من حق أي سلطة أن تفرض أي رأي على أي إنسان أو مجتمع، وهنا يكون الدين والإنسان في صف واحد ضد ثقافة الكراهية الطائفية.

قيم التفاضل وتجديد الوعي الاجتماعي:

يتشكل الوعي الاجتماعي من مجموعة قيم ورؤى تسهم بصورة كبيرة في تحديد مسار الحركة الاجتماعية، وتمثل قيم التفاضل ونوعيتها محركاً مهمًّا نحو نهضة حقيقية أو زيادة في تعميق التخلف والاحتقان بين أطياف وطوائف الأمة، فإذا كانت قيم التفاضل تنطلق من الروح القبلية أو القومية أو الطائفية، فإن قيمة الإنسان تكون بانتسابه لقبيلة ما أو طائفة أو قومية ما، هنا تفقد قيم العطاء والإبداع والنهوض الحضاري أهميتها، ليتشكل وعي اجتماعي مزيف يركز على الوهم من خلال الاهتمام بالعرق أو الطائفة، وفي هذا الجو تتبلور ثقافة الكراهية والانعزال لتشكل عائقاً كبيراً أمام ثقافة وفكر التسامح والتثاقف والتعارف بين أطياف المجتمع.
أما إذا كانت قيم التفاضل بين أطياف المجتمع وطوائف الأمة تنطلق من مقولة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «قيمة كل امرئ ما يحسنه»، وما يقدمه لخدمة المجتمع ورقيه وتقدمه في جميع المجالات فإن روح الطائفة سوف تركز على تطوير القيم التي تسهم في النهوض والتطور الحضاري.
وهنا يكون من الضروري إعادة تشكيل قيم التفاضل في المنظومة المعرفية للأمة، لتكون الحالة الطائفية أداة بناء وتشييد للنهضة، ولتحقيق هذا الأمر لابد من إعادة قراءة للخارطة المعرفية وتحديد الخلل فيها وسبل تحييد تلك القيم التي تشكل عائقاً أمام تحديث الفكر والمجتمع والسلطة.
إن إعادة تشكيل قيم التفاضل في وعي الأمة ضرورة حضارية ليس من أجل الإنسان وكرامته فحسب بل من أجل الدين وتصحيح فهمه وتقديمه للعالم المعاصر بصورته الناصعة التي أرادها الله له من كونه الدين الوسط الذي يهدف لجعل الأمة شاهدة حضاريًّا على الأمم.
قال تعالى في محكم كتابه العزيز:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.
-------------------------------------------------------------------------------- [1] راجع كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، للسيد حسن الشيرازي، ج 3 ص 272.

كتبه: الشيخ زكريا داوود