الثلاثاء، 21 يونيو 2011

الأمة.. والكراهية والتعايش بين الطوائف

كمدخل لفهم الأزمة التي تعانيها الأمة لا بد من تشريح النسيج الاجتماعي والديني؛ لنتعرف على كل أطياف الأمة، ومدى تنوعها الفكري والمذهبي والقومي، وأهمية ذلك في دفعها للرقي، أو إضعافها وتمزيق وحدتها.
والقاعدة التي يمكن أن ننطلق منها في معرفة واقع الأمة، لا بل المجتمع البشري، هي أن التنوع هو الأصل في كل المجتمعات وكل الأمم، والأصل في التنوع هو التعدد. وتمثل هذه المسلمة الفكرية المنطلق السليم في التعامل مع المختلف، وتحقيق حالة التعايش والسلم الاجتماعي. وما نراه اليوم من عنف وإرهاب ينطلق من نفي هذه المسلمة أو تجاهلها وفرض القناعات الشخصية على الآخر، وهذا الأمر يدعو ليس إلى الصدام مع الآخر الذي نختلف معه، بل مع سُنَّة الحياة وقوانين الخلقة؛ لأن الله جلَّت قدرته خلق التنوع في كل ميادين الحياة، وجعله آيةً تدل عليه، وتخبر عن حكمته وعظيم صنعه.
قال تعالى في محكم كتابه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ[1].
ونحن عندما نقرأ حالة التنوع البشري نُصاب بالدهشة لكثرة تعددها، فنرى العربي والكردي والفارسي والتركي والهندي والصيني والأوروبي والأمريكي و..، وعندما ندخل في تشريح العرب نجد تنوُّعاً هائلاً في القبائل والعشائر واللهجات والأديان والألوان والتقاليد والثقافات وغيرها، وكذا لو قمنا بتشريح القومية الكردية أو الفارسية أو التركية وغيرها من القوميات، فإن كل قومية تتنوع بين طوائف وقبائل متعددة ومختلفة في العادات والتقاليد والثقافة. وقد ذكر مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية المصري أن التنوع البشري في عالم اليوم وصل إلى ستة آلاف جماعة أولية، ووصل عدد اللغات التي يتحدث بها البشر إلى ستة آلاف لغة كذلك[2].
ولكي ننطلق في معالجتنا لظاهرة الكراهية التي أخذت أبعاداً خطيرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، نتساءل عن الحكمة من هذا التنوع الهائل بين البشر، وكيف يتعامل الإسلام كدين خاتم مع هذا الأمر، وهنا لا بد لنا من الرجوع للوحي الذي يُبيِّن لنا الفلسفة والحكمة التي أرادها رب العباد من هذا التنوع البشري في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[3].
إن التبادل الثقافي والتعارف بين الناس هو السبب والحكمة وراء خلق التنوع البشري، والتعارف يستبطن معرفة الآخر من خلال الاقتراب منه وسماع ما يعتقده أو يؤمن به، وبقدر ما نقترب من معرفة الآخر -من خلاله هو لا من خلال المختلف معه- نحقق قيمة الكرامة عبر مبدأ التسامح والتعايش، إذ الكرامة في أحد تجلياتها هو أن نعطي لكل شخص حرية التعبير عما يعتقده ويؤمن به، وعلى من يستمع له أن يُميِّز بين ما هو صائب وخاطئ، لا أن نفرض على الآخرين قناعاتنا، والتي قد تكون خاطئة، وما نشاهده اليوم من نمو ثقافة الكراهية بين المسلمين أحد أسبابه الكبرى هو السعي لفرض الرأي الواحد، سواء كان رأياً دينيًّا أو فكريًّا أو سياسيًّا.
وفي الحقيقة إن الكثير من الكيانات السياسية العربية بُنيت على أساس الفكر الآحادي الاتجاه، وترى أن بقاءها -كسلطات أو أحزاب ومنظمات حاكمة ومتسلطة- هو بقمع المختلف وإسكات صوته، ويعد هذا أحد أهم أسباب شيوع ثقافة الكراهية، فالشعوب المقهورة وإن سكت صوتها، إلا أن ذلك يؤدي إلى نمو حالة السخط والبغض للمستبد والظالم، وهو هنا الحاكم الذي يتربع على السلطة ويبذر ثروات الأمة على ملذاته أو أطماعه الشخصية، ويجعل الشعب رهينة لخبز شعيره اليومي، بل ويفرض عليه قبول الواقع وما يراه الحاكم من قناعات.
والأكثر خطراً بين الأنظمة المستبدة هو ذلك الذي يؤطر سلطته بالدين ويتستر بعباءة بعض رجاله ليرفض التنوع الاجتماعي والمذهبي في بقعة حكمه، ويسعى إلى فرض رؤية لمذهب واحد على الأمة ككل، بل ليجعل نفسه ومذهبه هو الدين ويُخرج أتباع المذاهب الفقهية الأخرى منه، وهنا لا بد للمنبر أن يخدم أهداف السلطة من خلال توصيف الآخرين المختلفين معه بأنهم زنادقة وفاجرين، ولعل ما يدفع على الاعتقاد بأن الكراهية هي سياسة للدولة المستبدة هو أن من يقوم ببث تلك الثقافة هم أشخاص موظفون في المؤسسة الدينية ويمارسون ذلك من مواقع رسمية.
وبالطبع إثارة الكراهية انطلاقاً من المذهب أو العرق أو اللغة أو القومية أو غيرها من المبررات يُشكِّل صداماً حادًّا مع سُنَّة الخالق في عباده، الذي خلقهم مختلفين بل وجعل الاختلاف بين الناس هو الأصل، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[4].
وقال كذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[5].
ويقول المرجع المدرسي في تفسيره لهذه الآية كلاماً مهمًّا ينطلق من أحد رواد الصحوة الإسلامية ومنظريها: النظر إلى الدين باعتباره مادة للعصبيات العرقية والقومية، أو الجدليات الفارغة، أحد أسباب الخطأ في فهم الدين، وبالتالي الإيمان به. والقرآن يُصرِّح بأنه ليس ذاك الدين الذي يتخذ مادة للخلاف هو دين الله.
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ والله هو الحاكم في عباده، وكثير من الخلافات المذهبية لا يمكن أن تحلها الجدليات، بل يجب أن تتحول إلى يوم القيامة وإلى الله والمستقبل ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[6].
إننا ومن خلال نظرتنا وقراءتنا لواقع الأمة نُحذِّر من خطورة تبني ثقافة الكراهية أو التسويق لها عبر رفض الآخر، أو إقصائه، أو منع الناس من حرية التعبير عن آرائهم أو معتقداتهم الدينية، أو فرض مذهب معين على أي طائفة أو مذهب آخر. ومن الضروري أن نقترب ممن نختلف معه لنتعرف على رأيه بعيداً عن التحامل أو التشويه، وبعيداً عن المسبقات الفكرية؛ لأنها تُشكِّل حجاباً يمنع من الوصول للصائب من الآراء والأفكار.
إن ثقافة الكراهية في حال استمرارها وتبني السلطات المستبدة لها يمكن أن تُشعل حرب طوائف وقبائل يكون الجميع فيها خاسراً، وليس أمام الأمة بجميع أطيافها إلا أن تتبنى خيار التعايش والتعارف والتسامح، ولتحقيق هذا الخيار لا بد من جعله هدفاً استراتيجيًّا تُسَخِّر كل الطاقات والكفاءات الفكرية والمادية لتأسيسه كمشروع نهضوي لأمة تمتلك كل مقومات القدرة والتقدّم، ويمكننا أن نحقق ذلك من خلال الأمور التالية:
1- إقرار وثيقة للتعايش الطائفي بين طوائف الأمة.
2- سن قوانين تُجرّم المحرضين على الكراهية.
3- سن قوانين تُجرّم المساس برموز الطوائف.
4- تأسيس المناهج التربوية على فكر التسامح والتعايش، وذلك كفيل بأن يربي أجيالاً تفتقد لثقافة الكراهية.
5- فتح قنوات الحوار بين كل الطوائف وتكريس مفاهيم حرية التعبير عن الرأي.
6- بناء سياسات الدولة على محور إشراك جميع الطوائف في السلطة.
7- الاعتراف بالتنوع المعرفي والمذهبي ورفض إكراه الناس بمذهب الدولة.
8- إنهاء ممارسة التمييز من قبل الدولة لأن ذلك يُولِّد الشعور بالظلم، ومن ثم الكراهية تجاه الظالم، وهو ما يُفقِد الدولة شرعيتها، لأن الشرعية تقوم على رضا الشعوب بحكوماتها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] القرآن الكريم، سورة الروم آية 22.
[2] راجع دارسة بعنوان التنوع البشري، على الرابط الالكتروني التالي:
http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/YOUN35.HTM
[3] القرآن الكريم، سورة الحجرات آية 13.
[4] القرآن الكريم، سورة هود آية 118.
[5] القرآن الكريم، سورة الأنعام آية 159.
[6] المدرسي، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، من هدى القرآن، ج 2 ص 459 ط الثانية دار الكتاب العربي.



كتبه : الشيخ زكريا داوود