الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

الإنسان والحرّيّة المدنيّة

تعتبر الحرّيّة المدنيّة نتيجةً موضوعيّة لما يمثّله الإنسان بطبيعته من شخصيّة حقوقيّة وقانونيّة مستقلّة ومحترمة، وهي من لوازم كون الإنسان له وجوده المتميّز، وله حياته الخاصّة به.
ومن المسلّمات في ديننا الإسلاميّ، بل وفي الشرائع الإلهيّة عامّةً، أنّ الإنسان له شخصيّته القانونيّة وذمّته الماليّة المستقلّة عن غيرها من الذمم. وحقّ الإنسان بالاعتراف بهذه الاستقلاليّة حقّ طبيعيّ له، وهو داخل في تكوينه وفي مقوّمات فطرته وطبيعة وجوده، وهو حقّ لوجود السلطة والمجتمع نفسه، وبالتالي: فلا يصحّ تجاهله أو إنكاره حتى من قبل السلطة والمجتمع أنفسهما، بل لا بدّ لهما من التعامل معه، وترتيب كافّة الآثار المترتّبة على وجوده.

وفي عصرنا الراهن، اعتبر الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان هذا الحقّ من الحقوق اللّصيقة بالإنسان، فأعلن الاعتراف بالإنسان كشخصيّة قانونيّة مستقلّة وكيان قائم بذاته، له وجوده وحياته الخاصّة به، فقد نصّت المادّة السادسة من هذا الإعلان على ما يلي:

(لكلّ إنسان أينما وُجد الحقّ في أن يعترف بشخصيّته القانونيّة).
ولا نبالغ إذا ما قلنا بأنّ هذا الحقّ بالذات هو نقطة انطلاق الإنسان لممارسة كافّة حقوقه، فهو الأساس المتين الصلب الذي يقف عليه أثناء ممارسته لحقوقه وحرّيّاته؛ إذ بدون الاعتراف به يتعذّر على الإنسان يعامل الآخرين، كما يتعذّر التعامل معه.

إنّ حياة الإنسان الخاصّة هي عالمه الخاصّ به الذي وهبه الله إيّاه، وخوّله السلطة التامّة بأن يسوس هذا العالم ويديره على الوجه الذي يراه مناسباً، ومن دون أيّ تدخّل من غيره، فلا سلطان لأحدٍ عليه في اختياره لمأكله أو مشربه أو مسكنه أو عمله أو زوجه أو مراسلاته أو عواطفه، فحرّيّة الإنسان في ذلك مطلقة ضمن حدود قدرته على تحقيق ما يريد، ولا يقيّدها إلّا التوجيهات الإلهيّة التي تضمّنتها الشرائع والأديان. ولم يضع الله سبحانه وتعالى هذه التوجيهات لتصادر حقّ الإنسان، أو تغلّ يده عن إدارتها، بل رحمةً بالإنسان لحماية سيادته على حياته الخاصّة، وإرشاداً له ومساعدةً على إدارتها وتنظيمها، لتمكينه من ممارسة حقوقه المدنيّة على الوجه الأفضل، ودون أن يصطدم حقّه مع حقّ أيّ أحد.

وقد فرضت الشريعة الإسلاميّة على المجتمع والسلطة والآخرين احترام خصوصيّة الإنسان في حياته الخاصّة، والاعتراف بسيادته عليها.
وهذا ما اعترف به الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان حديثاً، بأنّ لكلّ إنسانٍ حياته الخاصّة، وأنّه لا ينبغي التدخّل فيها أو انتهاكها بأيّ شكلٍ من الأشكال، فقد نصّت المادّة الثانية عشرة من هذا الإعلان على أنّه (لا يُعرَّض إنسان لتدخّلٍ تعسّفيّ في حياته الخاصّة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو انتهاكات لشَرَفه أو سمعته، ولكلّ شخصٍ الحقّ في حماية القانون من مثل هذا التدخّل أو تلك الانتهاكات).

إنّ معنى الحرّيّة المدنيّة عموماً: حرّيّة كلّ إنسان في اختيار وتحديد وإدارة الأمور المتعلّقة بحياته الفرديّة وشؤونه الخاصّة، وعلى الوجه الذي يريد، وبدون تدخّل من الغير، هذا على سبيل الإجمال، وأمّا التفصيل:

1) له الحقّ بالعمل، والحرّيّة في اختيار مجال العمل والمهنة التي يريدها لكسب معيشته، ومعيشة من يعول، فمن حقّه ـ مثلاً ـ أن يختار التجارة أو الزراعة أو أيّة حرفةٍ يريدها، شريطة أن تكون هذه الحرفة أو المهنة نافعةً له على المستوى الشخصيّ، أو نافعةً لمجتمعه، ومباحةً من الناحية الشرعيّة، لعلمنا بأنّ شرائع الله لا تصبّ إلّا في خدمة الصالح الإنسانيّ العامّ، وبكونها لا تحترز إلّا عمّا يمكن أن يُلحق ضرراً بالحياة البشريّة بحسب النوع العامّ. ولكلّ شخصٍ الحقّ في مستوىً من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحّة والرفاهيّة له ولأسرته، ويتضمّن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبّيّة، وكذلك الخدمات الاجتماعيّة اللّازمة.

2) له الحقّ بالسكن، والحرّيّة التامّة في اختيار مسكنه وداره وموطنه الذي يريد الإقامة فيه. وقد خصّص الإسلام تشريعاتٍ خاصّة لحفظ حقّ الإنسان في سكنه، فجعل له حرمة خاصّة، وحرّم على الناس كلّهم، بلا استثناء، أن يدخلوا بيت أيّ إنسان إلّا بعد الاستئناس والاستئذان منه والسلام على أهل ذلك المسكن. ويشمل هذا الحقّ المكان الذي يريد الإقامة فيه أيضاً، فله أن يقيم وأن يتنقّل في أيّ مكانٍ من العالم كلّه، فقبل نشوء الدول المعاصرة وقيام كلٍّ منها بإغلاق أبواب حدودها كان بإمكان الإنسان أن يقيم أينما يشاء، كما أنّ مسألة الجنسيّة اختراع جديد أقرّته الدول لتنظيم أمور رعاياها وتحديدهم تحديداً قاطعاً، ما جعل موضوع الجنسيّة على جانبٍ كبير من الأهمّيّة.

3) لكلّ إنسانٍ الحقّ بالزواج (الشرعيّ)، واختيار الزوج أو الزوجة الذي يريد أو تريد قضاء حياته أو حياتها معه أو معها، فليس لأحدٍ أن يجبر إنساناً، رجلاً كان أو امرأةً، على الزواج أو تركه، وهو حقّ طبيعيّ وهبه الله تعالى إيّاه، وهو سابق لوجود السلطات وتكوّن المجتمعات، ولا يمكن مصادرته أو التدخّل فيه.
4) له الحقّ بالتعلّم، والحرّيّة في اختيار المجال الذي يريد أن يتخصّص به، ويُعدّ الإسلام أكثر الأديان اهتماماً بالعلم وتشجيعاً عليه، يكفينا أن نعلم أنّ المجتمع النبويّ تحوّل بأسره من مجتمعٍ جاهليّ أمّيّ إلى مدرسةٍ أو معهد أو جامعةٍ كبيرة تتّسع للجميع، وكلّ ذلك بفضل الإسلام وتعاليمه والرسول الكريم وإرشاداته.

--------------------
حسن يحيى