الخميس، 24 نوفمبر 2011

الأمّة المهزومة نفسيّاً.. على طريق استعادة الثقة بالنفس

منذ أن وُلدت الأمّة الإسلاميّة حتى انبثقت معها منظومة ثقافيّة وفكريّة حملت في طيّاتها عقيدتها وأخلاقها وآمالها ومسار حركتها الفكريّة والاجتماعيّة.. علماً بأنّ الثقافة مصطلح حديث يُراد به كلّ ما يميز الأمة في فكرها ومشاعرها وتعاملها مع الكون والحياة، فهي ما يحكي حقيقةً عن هويّة الأمة ومظهر أصالتها، وهي المعبّرة عن وجودها وحياتها.
 وعلى مرّ العصور تعمّقت هذه الثقافة وتجذّرت في المجتمع الإسلاميّ شيئاً فشيئاً، واتّسعت دائرتها بعد أن أخذت جهود المسلمين في مجال الفكر والتجارب والدراسات العلميّة تغذّيها وتزيدها عمقاً، يُضاف إلى ذلك: تلك المرونة المتميّزة والاستثنائيّة، التي يمكن اعتبارها من أبرز خواصّ وملامح الثقافة الإسلاميّة، حيث إنّها مرونة في عين أنّها لا تخدش مبدأ الأصالة والعراقة ولا تتنكّر لمكوّناتها الثقافيّة والحضاريّة الأصيلة، في عين ذلك، لا يعيقها شيء عن الانفتاح الفاعل على الثقافات الأخرى، ونريد من الانفتاح الفاعل: الانفتاح الإيجابيّ، الذي لا يقتصر دوره على الانفعال وردّة الفعل، بل يعمل على وفق انتقائيّةٍ مدروسة بشكلٍ منهجيّ وموضوعيّ ومنطقيّ، انتقائيّة عقلانيّة أقرّتها القاعدة القرآنيّة في قوله تعالى: [الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب]..

ومن الواضح أنّ أهمّ العوامل التي لعبت دوراً حاسماً في صيانة الثقافة الإسلاميّة على مرّ التاريخ يتمثل في اعتزاز المسلمين وأبناء هذه الأمّة بهويّتهم، وإحساسهم بمكانتهم وبمسؤوليّتهم على الساحة العالميّة، فهم ـ من وجهة نظرهم التي يستندون فيها إلى تجارب عصر صدر الإسلام، وإلى وعيهم لما يمكن للشريعة الإسلاميّة أن تتركه من آثار ـ قادة مسيرة البشريّة على طريق كلّ كمال إنسانيٍّ وعلميّ، وهم فوق ذلك: هداة، ودعاة، وهم الأمّة الشاهدة على بقيّة الأمم، وهم أمّة الوسطيّة والاعتدال في حركة التاريخ... من دون أن يستلزم ذلك الانغلاق على ما عند الآخرين من العلم والمعرفة والفكر والحضارة، ولو كان في أقاصي الأرض، ومهما كانت المسافات التي تفصل فيما بينهم، كما في الحديث الشهير عن رسول الله(ص): اطلبوا العلم ولو في الصين..

غير أنّ ظروفاً وتعقيدات كثيرة تاريخيّةً وثقافيّةً وغيرها أدّت إلى أن يعيش المسلمون في القرون الأخيرة عصوراً مكفهرّة مظلمة تسودها الهزائم والخيبات المتتالية، وعلى المستويات كافّةً: العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والعلميّة..

ولكنّ الأفظع من ذلك كلّه: هو انهزامهم النفسيّ أمام التيّارات والاتّجاهات الفكريّة الأُخرى، فقد أدّى تقلّبهم من هزيمة إلى هزيمة إلى أن يفقدوا إحساسهم بالعزّة والانتماء، وإلى أن تُفارقهم مشاعر الافتخار بالهويّة الإسلاميّة الأصيلة المتميّزة، ليفقدوا بذلك شعورهم بالمكانة والدور والمسؤوليّة التي هم جديرون بها، وبديهيّ أنّ ارتكاساً وانهزاماً نفسيّاً كهذا من شأنه أن يمعن أكثر فأكثر في دفع تلك الأمّة إلى مهاوي اليأس والقنوط وانعدام الثقة بالنفس، ما يجعلها تقتنع بأنّها أمّة هامشيّة، لا تمتلك المؤهّلات الكافية، ولا الموارد والطاقات اللّازمة، وبالتالي: فيجب عليها لأجل المحافظة على حياتها أن تستعين بالغرب تارةً، وبالشرق أُخرى، وهو عبارة أُخرى عن ارتهانها للقوى العظمى، وتحوّلها إلى أمّةٍ لا تنتج، بل تستهلك ما ينتجه لها الغير، ولا تفكّر، بل تتلقّى بالقبول كلّ ما يفكّر به الغير..

وقد كانت هذه الهزيمة النفسيّة نتيجةً لـ (غزو ثقافي) مدروس ومخطّط له، جنّد له الغزاة والمستعمرون القدامى جيشاً جرّاراً، ولكن من نوع آخر، هو ليس جيشاً من العسكريّين والمتمرّسين في ساحات القتال، وإنّما هو هذه المرّة جيش من الإعلاميّين ووسائل الإعلام والمستشرقين والأدباء والكتّاب وأصحاب الفنون والمتخصّصين في الدراسات والاستشارات النفسيّة والاجتماعيّة.

هذا الغزو الثقافيّ شكّل غنيمةً بحقّ للقوى الكبرى، حيث كفاهم مؤونة ما كانوا يتكلّفونه من الغزو العسكريّ والمرهق لما كان يجرّه من حروبٍ باهظة الكلفة، وما كان يستتبعه من أحقادٍ وما يستثيره من مشاعر الكراهية للمستعمرين من قبل الشعوب المستعمَرَة والمحتلّة؛ بل إنّ الغزو الثقافيّ أيضاً تقدّم خطوات كثيرة إلى الأمام، حيث جعل المسلمين يقبلون، وعن قناعة بضرورة الخضوع إلى تلك القوى الكبرى واستجدائها، والعيش على فتات موائدها، وصولاً إلى المحاربة تحت لوائها، والتآمر معها حتى على من هم إخوتهم في الوطن والدين!!

وعلى هذا الأساس، ومن خلال قراءة ما يجري حولنا في العالم من أحداث نرى أنفسنا في مواجهة فرصةٍ ذهبيّة قلّ نظيرها، فاليوم تعود إلى الواجهة مفردات الانتصار والصحوة والنهوض والوعي وما إلى ذلك، وتعود مع هذه المفردات تلك المشاعر القديمة التي كادت أن تُدفن للأبد، المشاعر بالعزّة الإسلاميّة وبالفخر بالانتماء إلى هذا الدين، تعود لتتأجّج في النفوس والقلوب، وتعود معها نسائم الثقة بالنفس من جديد، وهو ما نراه السبيل الوحيد لعودة الأمّة إلى طريق العزّة والكرامة والحرّيّة والسيادة، والسبيل الوحيد للتخلّص من هذا الغزو الثقافيّ الذي كاد أن يأتي على مستقبل المسلمين وأملهم بحياة أفضل في ظلّ تعاليم الدين الإسلاميّ. لذلك فإنّنا نحثّ الجميع، كلّ من موقعه، وبحسبه، على ضرورة التفكير مليّاً في كيفيّة استغلال هذه الفرصة السانحة، وعلى أكمل وجه، فالفرص لا تُعطى للإنسان المرّة تلو المرّة، بل هي تزوره، فإن تلقّفها وتشبّث بها، مكثت، وإلّا، رحلت إلى غير رجعة. 

------
علي محسن